المراهقة جسر بين عالمين، الطفولة واليفاع، وعلى هذا الجسر يصير الجسد هاجسا يتطلب الانتباه والوعي.
لعل من خصائص التغيرات الجسدية التي تصاحب فترة البلوغ أنها تثير إحساسا بعدم الرضا والشعور بالقلق والاضطراب، وقد يحصل هذا الإحساس إلى حد الاحتقار والكراهية تجاه الذات! لقد كان الطبيب الإيطالي إنريكو مورسيلي أول من وصف هذا العرض في تاريخ الطب المعاصر سنة 1886 في وصفه لحالة نفسية تركزت فيها شكوى المريض على شكل أنفه، ونظرا لخطورة العرض المرضي فقد استحدث لفظة (ديسمورفوفوبيا) وتعني الرهاب أو الخوف المرضي المتصل بالتشوه الجسدي. لكن في الغالب لا يتعلق الأمر دائما بالرهاب بالمعنى الاصطلاحي الدقيق للكلمة، بقدر ما يتعلق بالانشغال الخاص الذي يتركز على عضو من أعضاء الجسد كشكل الأنف أو الأذنين أو القصر والبدانة وما يصحب ذلك من الإحساس بالقلق والحساسية الزائدة لنظرات الغير وملاحظاتهم أو انتقاداتهم، إلا أن الانشغال بالمظهر الخارجي ظاهرة طبيعية يعرفها كل مراهق تقريبا لأنها جزء من التجارب التي يخبرها في علاقته بذاته وبالناس من حوله. لذا كان من الصواب أن نتكلم بلفظ "استقباح الجسد" لأنه أبلغ في التعبير من لفظ الرهاب الذي يحمل دلالة مرضية خاصة.
البواعث الاجتماعية والثقافية
ما يميز هذا العرض المرضي عن غيره من الأعراض المتركزة حول الجسد أن استقباح الجسد ينفرد بميزة لا يشاركه فيها بقية الأعراض الأخرى وهي أنه يتصل بالجانب الجمالي للجسد وبالمظهر الخارجي المحض لا بالوظائف الداخلية للأعضاء وما يعتريها من صحة ومرض ونحوهما، ولعل هذا السبب في الإهمال الذي عانى منه عرض استقباح الجسد لفترة زمنية طويلة، ولم تنشط الدراسات والأبحاث بشأنه إلا في العقدين الأخيرين. أما السياق الخاص الذي استحث نظر الأطباء وعلماء النفس في هذا الشأن فقد تمثل بشكل خاص بالتحولات الاجتماعية والثقافية التي طالت تصور الإنسان عن ذاته وجسده وبوأت المظهر مكانة الصدارة على حساب المخبر، ولم يعد لجوهر النفس ما كان يتمتع به من قبل.
لكن هذه الظروف مجتمعة لا تعدو أن تكون مجرد عامل مساعد على ظهور عرض استقباح الجسد وانتشاره في قطاعات واسعة داخل المجتمع، أما الأسباب العميقة التي تكمن خلفه فهي نفسية في المقام الأول، وسأعرض لها بشيء من الإيجاز.
وإذا استبعدنا ظاهرة صدارة الجسد التي أتيت على ذكرها وجدنا أن التحولات الجسدية التي تسترعي انتباه المراهق واهتمام ذويه وأقرانه هي مدعاة للاستحسان والاستهجان بشكل أو بآخر مقارنة مع ما كان عليه هذا الجسد الناشئ قبل البلوغ وما صار إليه في شكله الجديد، إذ تتخذ ملامح الوجه وتقاطيع الجسد شكلها النهائي فتبرز بعض العيوب أو التفاصيل المتخفية وتتحدد قامة المراهق ووزنه ويزداد وعيه بصورة جسده من خلال تماهيه مع أفراد محيطة كالأب أو المدرس أو أبطال القصص والأفلام الخيالية وما إلى ذلك. هذه العوامل مجتمعة تسهم إسهاما جليا في تشويه صورة ذاته واستبشاع وجهه في المرآة. ومن البديهي أن نقول إن المرآة في هذه الفترة بالذات صديق حميم للمراهق وعدو لدود لعجبه بذاته وزهوه.
ومن المفارقات الشديدة في هذا الباب أن من يشكو من استقباح جسده لا يكون ذميم الخلقة بالضرورة بل العكس تماما، إذ يكون في الغالب على درجة عالية من الحسن والجمال، وحسبي أن أذكر أن نجوم الفن مع ما يتميزون به من فتنة وإغراء هم أشد عرضة لهذا العرض المرضي من غيرهم، وقد أثبتت إحدى الدراسات النفسية أن ذوي التشوهات البدنية المكتسبة لا يعانون بالضرورة من هذه الظاهرة وما يشعرون به من ضيق وحرج يظل محصورا في حدود المعاناة المشتركة التي يكابدونها مع من يحيطون بهم من أشخاص.
لماذا يكره المراهق جسده؟
الحقيقة أن هذا العرض المرضي يفصح عن إشكال نرجسي يتصل اتصالا وثيقا بالشعور بانعدام المحبة والرضا من لدن الغير والتوجس من اللامبالاة أو الكراهية لا سيما من الجنس الآخر، فإذا كان المظهر الخارجي مدعاة لإعجاب الناس واستثارة استحسانهم ومحبتهم فإن استقباح الذات هو بخلاف ذلك تماما حيث يستقر في أعماق النفس شعور بالكراهية والنفور والنبذ من الوسط الاجتماعي. لكن من أين يتأتى هذا الشعور؟
لقد أثبتت الدراسات النفسية للحالات المرضية أن لهذا العرض جذورا نفسية ضاربة في ماضي المراهق، وأخص بالذكر هنا العلاقات المبكرة التي تنشأ بين الأم ووليدها، فالعناية التي تمحضه والروابط التي تشدها إليه من خلال التفاعلات البدنية والبصرية تساعد على النمو النفسي السليم في جو من الحنو والمحبة والتعلق المتبادل. وأي اضطراب في علاقة الأم بوليدها بسبب المرض أو التغيب المتواصل ينتج عنه اهتزاز في بناء الطفل لصورة ذاته وجسده وارتباطه بالعالم من حوله. وبما أن العلاقة التي تشد الأم بوليدها هي علاقة انصهار واتحاد فإن محبة الوليد لذاته تكون دائما على شاكلة محبة أمه له وكراهيته لنفسه تكون من كراهية أمه له سواء بسواء.
لقد تواترت الدراسات العيادية التي تركز على منشأ العلاقات الأولية بين الأم والوليد بدءا من العلاقة بينها وبين الزوج ومدى رغبتها في الحمل ورضاها عن جنس الوليد بعد الولادة ونحو ذلك من العواطف والمواقف والسلوكيات التي ترسم في مجملها نظرة دقيقة عما ستكون عليه صلة الأم بطفلها وكيفية الروابط الشعورية واللاشعورية التي ستنشأ بينهما بعد الولادة مباشرة. إن الزوجة التي لا ترغب في الحمل لسبب ما تستبطن مشاعر نقمة وسخط سرعان ما تنعكس في صلتها بالوليد الذي يصبح لا شعوريا موضع كراهية وانتقام، إذ يغدو مسئولا عما لحق بالأسرة من كدر وعبء، ويحتد هذا الشعور حينما يخشى الأبوان الإملاق والفقر، كما أن الإنجاب غير المتوقع لمولود ذكر أو أنثى يستتبعه شعور مماثل من الحنق والغيظ تماشيا مع بعض الأعراف والتقاليد. وفي كل هذه الأحوال نجد أن استحباب الأم لوليدها وإحاطته بالعناية والرعاية والعطف يتولد عنه إحساسها بجمال شكله ورضاها عنه بالتقرب إليه وتقوية الروابط البصرية والحسية بجسده بينما يتولد عن استقباحه عدم تقبله واستكراهه.
ولا ينبغي أن يصرفنا هذا عن مراعاة بقية العوامل الأخرى كالعلاقة بالأقران ونظرة الغير للذات فضلا عن القيم الدينية والخلقية والتصورات الثقافية السائدة. إن تركز شكوى المراهق على عضو ما من أعضاء بدنه أو على مقاييس الطول أو القصر والنحافة أو البدانة يعزى لهذه العوامل الأخيرة مجتمعة أو متفرقة. فقد ترجع شكوى المريض من شكل الأنف أو الأذنين على سبيل المثال إلى ما تناهى إلى سمعه من ملاحظات أو تهكم من بعض أقرانه أو ذويه أو قد يرجع إلى ندبة أو جرح قديم أو انحراف بسيط عن الشكل المستحسن لهذين العضوين كنفور الأذنين أو نتوء الأنف أو ضموره.. إلخ. وقد تتخذ الشكوى صيغة رمزية صاخبة كقصر القامة الذي يكشف عن شعور الشخص بضآلة المنزلة في أعين الغير، أما النحافة فقد ترمز إلى قلة الوزن الاجتماعي وضعف التأثير إلى غير ذلك من المعاني والدلالات الرمزية التي لا يشعر بها الشاكي. على أن هذه المقاييس الجمالية ليست معايير ثابتة بل هي نسبية تختلف من مجتمع إلى آخر ومن عصر إلى آخر.
بين الفتى والفتاة
وكما تختلف المقاييس الجمالية باختلاف المجتمعات والعصور فإن الأعراض المتصلة باستقباح الجسد تختلف باختلاف الجنسين كذلك. فإذا كانت الشكوى عند الفتاة تتركز في الغالب على مشكلة الوزن وشكل الثديين فإن مشكلة الطول والحجم هما في الغالب موضع الشكوى عند الفتى بالإضافة إلى النمو العضلي ونمو الشعر في الذقن أو في غيره من أعضاء الجسم، فخلف هذه الأعراض يكمن الخوف من عدم اكتمال مواصفات الرجولة أو الشبه بالأنثى. ويشتد هذا الخوف في بعض الحالات الخاصة مثل تضخم الثديين في فترة البلوغ نتيجة اضطراب الهرمونات أو في حالة اتساع الحوض أو تضخم الإليتين على سبيل المثال.
وفي المقابل تعاني الفتاة من القلق الناتج عن الشعور بانعدام الأنوثة أو قلة الجاذبية الجنسية على نحو ما تبديه من شكوى حول بعض مناحي جسدها، ومن ذلك على سبيل المثال ملامح الوجه وشكل الثديين والخصر والأرداف. فالعناية بهذه الأعضاء يكاد يكون هاجسا متواصلا لدى الفتاة المراهقة في إحساسها بذاتها وفي عيون غيرها من الناس، هذا على الرغم مما قد تتمتع به من ملاحة ونضارة وحسن.. وقد يتخذ هذا الشعور ردا عكسيا تماما في بعض الحالات المرضية القصوى إذ ترفض البنت خصائص جنسها وتستحقر مواصفات الأنوثة ومعالمها وتعمل جاهدة على إخفائها بكل ما بوسعها من جهد. وقد نجد بعض الفتيات يرتدين الملابس الداخلية الضاغطة والأزياء الرجولية أو يعمدن إلى اتباع الحميات الغذائية القاسية لتخفيض الوزن بهدف التخلص من المعالم الأنثوية الظاهرة. ويمثل مرض انعدام الشهية (وهو عرض يتشابه كثيرا مع استقباح الجسد من عدة نواح) حالة خاصة لهذا الرفض المستميت للأنوثة حيث تتوارى الخصائص الجنسية الثانوية كالثديين والخصر والأرداف وتتوقف الدورة الشهرية في العادة. وبالنسبة للذكور فإن رفض الهوية الجنسية الذكورية قد يؤدي إلى طلب تغيير الجنس بالجراحة. ولكن هذه حالات شاذة جدا تساعد عليها بعض التحولات الاجتماعية العميقة المتعلقة بتشوش الأدوار الجنسية للرجل والمرأة واختلاط المعايير الاجتماعية والثقافية المتصلة بالفروق بين الجنسين فضلا عن بخس وظيفة الأنوثة والأمومة، وغير ذلك من العوامل التي بدأت تظهر في بعض الشرائح الاجتماعية العربية.
ماذا عن العلاج؟
لقد ألمحت إلى أن استقباح الجسد عرض مرضي يتحول فيه الجسد إلى صفحة تكتب عليها معاناة النفس وصراعاتها، كما يشهد على مدى تقبل الفرد لجنسه ومواصفاته وتبعاته، وعليه فالجسد الذي يشكو منه المراهق تحديدا ليس الجسد الظاهر الذي نراه نحن فنستحسنه ونستغرب من شكوى صاحبه وإنما هو جسد محمل بتاريخ الفرد ومسكون برغباته وصراعاته ونظرات غيره وقيم المجتمع وتمثلاته ورموزه. ومن هنا نتبين قيمة العلاج النفسي بمناهجه وطرائقه على اختلافها، وأولى المهام التي ينهض بها المعالج فك هذه الرموز العالقة بالجسد بعد سبر ماضي المريض واستجلاء مجمل المشاعر والأحاسيس المرتبطة بمعاناته قصد إيصالها إليه بشكل منسجم فيتملك الوعي الكامل بها بعد أن كان غافلا عن هذه الدلالات الوجدانية والرمزية المترسبة في أعماق اللاشعور، وهذا يسهل فيما بعد عملية تغيير هذه الصورة وتحويرها بشكل أقرب ما يكون إلى الوعي الواقعي بذاته وبتاريخه وبملابسات معاناته، وقد يلجأ المعالج إلى الطرائق السلوكية معتمدا على التصوير الشمسي أو بواسطة الفيديو أو يستخدم المرآة لتصحيح نظرة المراهق لجسده وفقا للطرق المتبعة في العلاج السلوكي والمعرفي.
أما الجراحة فلا تصح إلا في الحالات الاستثنائية التي يكون فيها التشوه ظاهرا للعيان بسبب التعرض لحادث ما كالحرق مثلا أو في بعض العاهات الخلقية التي تسبب أذى نفسيا للمريض، وهي حالات نادرة جدا، وما عدا ذلك فإن اللجوء إلى الجراحة التجميلية معناه مسايرة المريض في مسعاه المرضي وترسيخ وهم التشوه الذي يسكنه فيستفحل المرض وتشتد مقاومة المريض.