افترى عليه حتى بعض قومه. تحت ضغوط أكاذيب وأضاليل ومؤامرات حاول أن يدسّها عليه الخونة والمستعمرون والناقمون وعلى رأسهم الخديو ورجال القصر وبعض الخونة من الضباط, بل حتى خليفة المسلمين العثماني الذي أعلنه عاصياً مرتداً مهدراً دمه..?!
وما كان أحمد عرابي في الحقيقة سوى طالب حق لأمة أهدرت كرامتها ما بين مظالم حاكم مستبد ومستعمر كل همّه أن تطأ أقدامه أرض مصر. واستطاع أن يضطلع بقضية من أهم القضايا الوطنية, فوقف على رأس جيش معظمه من الفلاحين, ويواجه غير طامع ولا هازل الغادرين والخونة وعلى رأسهم حاكم مصر الخائن الخديو توفيق.
وفي الحق أن توفيق, ولي عهد إسماعيل الذي أغرق البلاد في الديون وجعلها تعاني بكل طبقاتها ألواناً من العذاب, كان يدعي أمام الأحرار من أبناء البلاد أنه ضد سياسة أبيه الذي أدخل النفوذ الأجنبي وراح يدعو إلى ألا يتحمل إسماعيل وحده مسئولية الحكم, بل إن عليه أن ينشئ نظاماً نيابياً وحكومة تمثل كل الشعب, وراح يعلن سخطه على أبيه لأنه يضطهد الأحرار ويتخلص من أعدائه السياسيين, ولكن بعد أن غلب اسماعيل على أمره تظاهر بالاستجابة للأحرار وأعلن دعوة جمعية سياسية لقيام حكم نيابي, وجاء شريف باشا رئيساً للوزارة الدستورية, ولكنه لم يكد يفعل حتى عاد ليضرب الحركة الوطنية ويحل البرلمان ويلغي الدستور. وكان لابد بعد ذلك أن تشتد المقاومة وأن يلجأ سادته إلى خلعه ليحل محله ولده توفيق.
على أن توفيق لم يكد يتولى الأمر حتى قلب ظهر المجن على الحركة الوطنية التي تطالبه ببرلمان ودستور, فهو يريد أن يكون حاكماً مطلقاً يعيش في ترف فاجر كأبيه. وهكذا بدأ يعذب ويشرّد كل مَن عرفهم من رجال الحركة الوطنية ويلقي بهم في السجون.
المقاومة تشتد
غير أن المقاومة كان لابد أن تشتد وتتحرك وقد انضم إليها كل شعب مصر, من الفلاحين الجياع إلى التجار والكبراء الذين يعانون الكساد في ظل المراقبين الأجانب, كل ذلك وتوفيق يعذب ويشرد الكتاب الذين غزوا عقله حين كان يدّعي مقاومة طغيان إسماعيل. وبينما كان الجميع يبحثون عن حل لهذه الفوضى المخيفة التي يتمرّغون في أوحالها, كان الجيش أيضاً يعاني أشكالاً من الانحلال لم يعرفها من قبل أبداً, فقد كانت المرتبات لا تدفع بانتظام وكانت الترقية إلى الرتب العليا محرّمة على المصريين, فهي للأتراك والشراكسة فقط.
فيما كان توفيق يفعل كل ذلك كانت المقاومة السرية قد بدأت تعمل تحت الأرض, وامتدت هذه الحركات حتى أدركت الجيش نفسه, وكانت هذه الحركات تعمّق جذورها في قرى مصر من حيث يقبل العساكر وكل واحد منهم يحمل في أعماقه مأساة أم مريضة أو أب جائع أو عائل طحنه العمل في حفر قناة السويس بالسخرة, وتضخمت الجمعيات السرية وانضم إليها العساكر والضباط, وتعاهد الجميع على أن يحرروا البلاد من وطأة الأتراك والشراكسة, وأن يقيموا في مصر حكومة دستورية تستند إلى دستور يضعه ممثلو الشعب وتخضع لحساب برلمان ينتخبه الشعب.
الهاوية يا مولاي...!
ومن بين الضباط كان هناك أربعة يجتمعون كل ليلة ويرسمون خطة لإنقاذ مصر بالتشارك مع بعض نواب البرلمان الذي حلّه إسماعيل. كان هؤلاء الضباط هم علي الديب وأحمد عبدالغفار وعبدالعال حلمي وعلي الروبي ثم أحمد عرابي. وكان علي الديب من ضباط الحرس, فكان قريباً من الخديو بحكم منصبه, ولقد نصح علي الديب الخديو توفيق ليعدل من سياسته أول الأمر. ولكن توفيق تظاهر بأنه لايزال حرّاً وأنه معجب بالأحرار كما كان. ومضى يخدع نفسه بأن الشعب يحبه لأنه في النهاية خير من إسماعيل. وقال علي الديب ذات يوم للخديو: (إن الشعب قد تنفس الصعداء حينما خلع إسماعيل, ولكنه يعاني اليوم من القيود نفسها, ولن يزيد الضغط إلا الانفجار), ولم يأبه الخديو ومضى يتحدث عن حبّ الشعب له وقد خلصه من إسماعيل. وعندما كان علي الديب يقول له: (احترس من الهاوية يا مولاي), كانت الهاوية فعلاً تحت قدمي توفيق.
أما الجيش, فقد قرر متعاوناً أن يعمل مع كل الثائرين, وانتخب الجيش أحمد عرابي زعيماً له, وكان الثائرون من غير رجال الجيش قد وجدوا في الفلاح الأسمر خير مَن يمثلهم.
وبدأت المواجهة, فقد قدم الضباط عريضة إلى الخديو يطالبون فيها بعزل وزير الحربية عثمان رفقي الشركسي الذي يمثل أمامهم كل سوءات العهد, ولم يكد توفيق يتلقى العريضة حتى ثار وأقسم أن يذيق كل من جرؤ على رفع رأسه أمامه كل العذاب. ودبّر الأمر بأسلوب غادر, فدعا الضباط إلى ديوان الجهادية بقصر النيل بحجة الاستعداد لحفلات زفاف إحدى الأميرات, ولم يكادوا يدخلون الثكنات حتى أحاط بهم شراذم الشركس الأجلاف يسبّونهم ويصفونهم بأنهم فلاحون أقذار. ونزعوا عنهم سلاحهم وأودعوهم السجن دون محاكمة, وصدر أمر الخديو بحبس عرابي ومَن معه من الضباط وعزلهم من مناصبهم: وفي ثكنات قصر النيل جلس الضباط المحبوسون ينتظرون المجلس العسكري.
ولم يكد الخبر يشيع في القاهرة وما حولها حتى بدأت الشوارع والدروب تقذف بالناس إلى الثكنات, وتحرّك الجيش تحت رئاسة الأميرالاي محمد عبيد, واقتحم الثكنات وأخرج الضباط المحبوسين بالقوة, وبحث عن وزير الحربية ليعتقله, ولكنه كان قد لاذ بالفرار.
ومرة أخرى حاول الخديو أن يتخلص منهم بأسلوب مبتكر, فحاول اغتيالهم ودسّ لهم من يضع السم في طعامهم, واكتشف عبدالعال حلمي الخديعة ففشلت الخطة القذرة.
محاصرة قصر عابدين
وفي يوم 8 سبتمبر سنة 1881 كتب عرابي إلى الخديو يخطره بأنه قادم مع الجيش للقائه, وحدد له موعداً في ساحة عابدين, وفي الصباح الباكر, بدأت الشوارع المؤدية إلى القصر تزدحم بالناس هاتفة لعرابي. وفي الموعد المحدد, كان المستشارون الأجانب قد احتشدوا وعلى رأسهم مستر كلفي المستشار الإنجليزي الذي نصح الخديو أن ينزل إلى عرابي فيأمره بتجريد سيفه ثم يطعن عرابي أمام الشعب ليخر صريعاً, ولجبنه لم يستطع تنفيذ النصيحة ووقف يرتعد أمام عرابي الذي وقف شاهراً سيفه وهو يقدم له مطالب الجيش والشعب بعزل الوزارة وإجراء انتخابات وإقامة حكم نيابي على الفور, وحين قال له الخديو: (نحن ورثنا هذا البلد منذ محمد علي, وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا), رد عليه عرابي وهو رافع سيفه: (إن مصر للمصريين... خلقنا الله أحراراً, ولم يخلقنا تراثاً وعقاراً... وأقسم بالله لن نورث أو نستعبد بعد اليوم).
وأحنى توفيق رأسه للريح واستجاب مرغماً لمطالب عرابي ورجاله, وجاءت وزارة برياسة البارودي وعيّن فيها عرابي وزيراً للحربية, وشكّل مجلس نيابي بدأ يمارس سلطاته بشكل جدي, ولكن دماء الخيانة التي كانت تجري في عروق توفيق دعته إلى التآمر مع المستشارين الإنجليز والفرنسيين حوله, وحيكت المؤامرة بحيث يستقدم الأسطولان الإنجليزي والفرنسي إلى الإسكندرية التي ينتقل إليها الخديو طالباً المعونة من المستعمرين لاستعادة نفوذه, وفي الاسكندرية ألحّ توفيق على الأسطول الإنجليزي أن يعجّل بالضرب, ولم يكن الأسطول في حاجة إلى من يستحثه, فقد بدأ يتحرّش منذ رأى المصريين يرممون الطوابي ويسلحونها.
وفي 11يوليو بدأ الأسطول يمطر الإسكندرية الآمنة بوابل من القنابل, وبعد أن هدأ الضرب وتحطمت الطوابي أشعل الخديو وأنصاره النار في الاسكندرية واتهموا عرابي بأنه هو السبب, ونزل الجيش المستعمر أرض مصر بدعوة من الخديو الخائن ورجاله من أمثال سلطان باشا, وبالرغم من صمود عرابي وجيشه والشعب من خلفهما في مواجهة المستعمرين فإن سلسلة من الخيانات توالت عليه, فقد استجاب السلطان العثماني لدعوة الخديو الخائن فأعلن أن عرابي عاصٍ مرتدٍ يباح للمسلمين قتاله مما فتت في عضد الشعب المسلم, وحين استعد عرابي لمواجهة الإنجليز في التل الكبير, وأراد أن يسد قناة السويس حين علم أن الإنجليز سيدخلون عن طريقها, أقسم له فرديناند ديليسبس أنهم لن يستطيعوا أن يفعلوها لأن المواثيق الدولية تمنعهم من استخدامها. وحين جاء الإنجليز بالفعل وعسكر عرابي في التل الكبير لمواجهتهم, جاءت الخيانة من أحد قواده المسمى علي خنفس الذي دل الإنجليز على الطريق إلى المعسكر حتى انقضّوا على الجيش المصري قبيل الفجر فكانت (المجزرة والهزيمة)!
وعندما دخل جيش الاحتلال إلى أرض مصر كان في زمان توفيق وسلطان وخنفس, وصودرت أملاك عرابي ونفي هو وزملاؤه, وأعدم الوطنيون بالمئات وصودرت أملاكهم جميعاً.
ولكن الشعوب تنهض دائماً على الرغم من الخيانة والفظائع لتعلن براءتها, حتى كانت ثورة يوليو التي طردت المستعمر وكل بقايا العهد الملكي ورموزه من الخونة, ووقف الشعب المصري الباسل ليصنع لنفسه المستقبل والحياة