الواقف في صمود حول الوديان, حافلاً بالأدب والتاريخ والموسيقى, وقُطّاع الطرق, والباحثين عن الهدوء أو الوحدة أو الاستشفاء أو الـذهب, ما تكاد عيوني تلامس- أو تتسلق- جبلاً: حتى تتراقص في أفق الخيال هالات تاريخية, ترسو فيها سفينة النبي نوح على قمة (أرارات) في جنوب الأناضول بعد انزياح الطوفان الذي به تمّت تنقية الأرض- كل الأرض- من المفسدين, بعدها يضطجع جبل عرفات- غربي مكة المكرمة- الذي يكمل طقوس حج المسلمين وقوفاً به (بين زوال اليوم التاسع من ذي الحجة إلى فجر العاشر), ولا يلبث الجبل أن يضغط- بضخامته وشاهق تكويناته- على النص الأدبي الحديث ليتيح لفتحي غانم كتابة روايته الأثيرة التي نبهت كل ذوي الخطط في العمارة الحديثة: أن ينتبهوا إلى معنى الجبل- الموقع الشرس- داخل نفوس الذين يتنفسون- حياة- في سراديبه, ولعل ذلك وراء سطوة الجبل على الغناء الشعبي- في صعيد مصر- حينما ينشدون في شجن توديعهم للأحبّاء المسافرين بعيداً (خدوني معاكم آكل حشيش الجبال وأعيش في حماكم), أي باللغة العربية الفصيحة: خذوني معكم كي أتغذى على كلأ الجبال مقابل أن أكون في صحبتكم- أو تحت سطوتكم.
ونادراً ما يخلو وطن من جبال- تقلصت أو كانت بالغة الضخامة, ولاسيما أن الجبال ظلت منذ أن خلق الله الأرض مرتبطة بالصحراوات, غير أن العصر الحديث- والذي وصلت فيه حركة إصلاحات أو تجريف أو تحريك التربة إلى أوجها- أنتج جبالاً بلا صحراوات, تلك التي غزتها خضرة استحداث السهول والمنشآت والمؤسسات, وهو ما يمكن أن يكون دليلاً عليه جبل السلسلة في منطقة كوم أمبو- جنوب مصر- والذي نمّقت صحراواته قرى النوبة الجديدة بعد تهجيرها من موقعها القديم خلال إنشاء السد العالي, كما أن جبل المقطم- الشاهق على الحافة الشرقية للعاصمة المصرية- اخترقته التجمعات السكانية بما تستوجب من طرق ومتنزهات وحدائق.
وتعد جبال أطلس- والتي تقف شرسة جنوب المغرب وشمال موريتانيا ممتدة إلى شمال الجزائر وجنوبها, وجبال شبه جزيرة سيناء والبحر الأحمر في مصر, وجبال لبنان, ثم تلك الجبال المتناثرة, وشديدة الجمال الهادئ في شمال العراق- منطقة الأكراد- ومأرب اليمنية (وطن بلقيس صاحبة الموقعة التاريخية التي أدت إلى امتثالها لسيدنا سليمان)- وجنوب شبه الجزيرة العربية, كل هذه الجبال هي الأشهر والأكثر بروزاً على الساحة التأثيرية في الخيال العربي, وأي مبدع: رساماً أو أديباً- شاءت له ظروفه أن يعيش فيها فترة, لأصاب الإنتاج الأدبي والفن الحديث تغيّر وتبدّل يتخلص بهما من تهويمات ركود خيال مدن الوديان, وهو ما جعل كثيراً من النصوص الأدبية والموسيقية غير العربية- أقصد الغربية بالذات- أكثر اتساعاً وخيالاً وزهواً, والذي يمكن أن تحس به في رائعة هيمنجواي: وداعاً للسلاح, حينما يتراجع جيش الحلفاء من فوق قمة جبال الألب الإيطالية, ثم في هذا التدفق الحالم الحي في موسيقى رودريجو الإسباني الغارق في جبال البرانس شمال إسبانياً, أو في موسيقى جورج بيزيه في أوبرا (كارمن) في الناحية الفرنسية من الجبال نفسها, كما أن دورنيمات استفاد- في معظم مسرحياته- من معايشته لمنطقة الألب السويسرية الألمانية, ولعل جبال الأورال- شرق روسيا- كانت موضوعاً أثيراً لأفلام وقصص أبرزها رواية الحرب والسلام لتولستوي, فإذا اتجهت شمالاً أكثر فسوف تأخذك جبال اسكندنافيا- السويد والنرويج والدانمرك- إلى العديد من رؤى جبلية عند ستندبرج وابسن, أما أمير الأراضي البور لماكس فريش- الألماني أو السويسري- فقد ظل يرنو من بعيد إلى جبال مكللة بالجليد.
ورؤانا- (أو ما قد أعرفه شخصياً) ليست قاصرة عن إدراك ما كان لجبال روكي والإنديز في الأمريكتين من سطوة على السينما الأمريكية, ولاسيما في أفلام (الكاوبوي) التي استطاعت أن تنقل تضاريس وتكوينات الغرب الأمريكي إلى المخ الشرقي بشكل لم يحدث لأي منطقة- ولو وطنية أو محلية- من قبل, في حين أن جبال الهيمالايا في شمال الهند, ومعها منطقة التبت وهضبة الحبشة, فقد ظلت معرفتنا بها في حدود الثوابت الجغرافية, وهو ما قد ينطبق أيضاً على جبال اليابان, إذ إن الجبل- هناك- تلألأ في القليل مما شاهدناه أو قرأناه, ولايزال الدب المختفي على قمة جبل الثلج في فيلم ياباني أشهرها, وإن كان جبل كليمنجارو لهيمنجواي في وسط إفريقيا قد وجد سبيله للظهور في نص لكاتب غير أفريقي.
الجبل- هذا الساحر, تعمدت ألا أطرح أخطر ما قد يعنيه للناس: في سراديبه ومغامراته, حين يكون ملاذاً- أو موطناً- لقطاع الطرق, والخارجين على القانون, وملاذاً أيضاً للرهبان, والضالين, والمتعبّدين, والباحثين عن الحقائق القديمة في رعي الغنم, والخيال, والمعادن, والحزن, ثم: الجبل هو ذاته أرقى موقع لمن يبحث عن الاستشفاء, أو الشفاء من أمراض وهموم وضجيج الوادي.