القرين هو «آخر» تخلقه الشخصية، أي أنه ذات منقسمة على نفسها تخضع واحدة منهما لمبدأ الواقع والأخرى لمبدأ الرغبة وهو أشبه بتقنية «المرآة» التي يتأمل فيها الوعي ذاته فيغدو «الناظر والمنظور اليه»
تتباين وظائف القرين الرمزية، فيكون أحيانًا تمردًا لا شعوريًا، أو فرارًا من ضغوط لا قبل للوعي بها، فيغدو لازمة من لوازم صراع غير معلن بين الدوافع المتناقضة المتصارعة للذات، أويغدو مرآة معرفية يتأمل فيها الوعي نفسه،فيغدو الناظر والمنظور إليه،وذلك بما يجعل من تقنية القرين تقنية موازية لتقنية «المرآة». يجمع بينهما فعل التعرف الذي يضع به الوعي نفسه موضع المساءلة، أو التأمل الذي يزيده معرفة وإدراكًا بكينونته، سواء في حضورها الذاتي، أو حضورها العلائقي، حيث تغدو الذات طرفًا في علاقة مع غيرها. وسواء كنا في هذا الوضع أو ذاك، فإن البعد المعرفي حاضر فيهما، حضور الوعي الذي يتأمل صورته في المرآة، وحضور الذات التي تحاور القرين، أو الظل أو الشبح، أو الاسم، وكلها مرادفات للذات الأخرى التي تبتدعها الذات، في مدى انقسامها، السلبي أو الإيجابي، ومدى توسيع حدقتي معرفتها بنفسها في العالم الذي يغدو إياها بأكثر من معنى.
لرمزية «القرين» حضور طويل في الرواية العالمية، خصوصًا من المنظور الذي يجعل من الذات الأخرى تعويضًا متمردًا على الضغوط التي تواجهها الذات الأولى، وذلك في السياق الذي يبدأ من جوجول (1809 - 1852) كي يبرز في رواية دويستوفسكي (1821 - 1881) «القرين» التي سبقت اكتشاف فرويد (1856 - 1939) لقارة اللاوعي الفردي، وكان ذلك في السياق الذي أضاف إليه ر.ل ستيفنسون روايته الشهيرة «دكتور جيكل ومستر هايد». في التقاليد الروائية نفسها التي تمثلها، أخيرًا، الكاتب البرتغالي خوسيه ساراماجو الحاصل على جائزة نوبل سنة 1998، عندما نشر روايته «القرين» سنة 2003 (التي تُرجمت إلى الإنجليزية في العام اللاحق).
وقد انتقلت رمزية القرين من الرواية إلى الشعر، متخذة تجليات عديدة، منها الشبح والآخر والاسم والمرآة، وكلها تجليات لا تفارق الثنائية نفسها التي ينعكس فيها الوعي على نفسه، وذلك في تجاوب أصداء السياقات التي انتقلت من شعر الحداثة الغربية إلى شعراء الحداثة العربية، ودفعت خليل حاوي الى استخدام رمزية القرين، في قصيدته «وجوه السندباد» في ديوانه «الناي والريح» (1957) حيث حضور القرين الذي تصنعه القصيدة، في أحد مقاطعها، على النحو التالي:
كنت أمشي معه في درب «سوهو»
وهو يمشي وحده في لا مكان
وجهه أعتق من وجهي ولكن
ليس فيه أثر الحمى
وتحفير الزمان
وجهه يحكي بأنا توأمان»
وكانت تلك هي البداية التي اتسعت على يدي سعدي يوسف الذي خلق قرينه «الأخضر بن يوسف» وظل يعاوده في ثلاثة دواوين أولها يحمل اسم القرين هو: «الأخضر بن يوسف ومشاغله» (1972) ثم «الليالي كلها» (1976) وأخيرًا «الساعة الأخيرة» (1977). ونسمع استهلال اللحن في القصيدة الأولى على النحو التالي:
نبي يقاسمني شقتي
يسكن الغرفة المستطيلة
وكل صباح يشاركني قهوتي والحليب،
وسر الليالي الطويلة
وكانت ملابسنا في الخزانة واحدة
كان يلبس يومًا قميصي
وألبس يومًا قميصه
***
يرافقني في زيارة محبوبتي
ثم يدخل قبلي
يقبلها في الجبين
وينظر في مقلتيها طويلاً
ويعاود سعدي الإلحاح على «القرين» الذي اكتشف رمزيته، فيكتب قصيدته «حوار مع الأخضر» وثالثة «عن الأخضر» (في ديوان الليالي كلها) ولا يتركه إلا بعد أن يستعين به في كتابة «قصيدة شارحة»، أي قصيدة موضوعها القصيدة، تمامًا كما أن «سعدي يوسف» موضوعه قرينه «الأخضر بن يوسف» الذي هو إياه في آخر المطاف.وغير خاف أن صفة «الأخضر» تدل على الخصب، ولا تخلو من ظلال دينية لا تفارق معاني النماء والخير والحياة المتدفقة المرتبطة بحضور «الخضْر». وتنطوي دلالة الاسم على تشبيهه بالنبات الأخضر الغضّ، مما يردنا إلى البعد الأسطوري للبعث الذي اتخذ صفات نوعية في الموروث الشعبي الإسلامي.
ولذلك، نقرأ في «لسان العرب» أن الخضر صاحب موسى الذي التقى معه بمجمع البحرين. وعن مجاهد: أنه كان إذا صلّى في موضع اخضرّ ما حوله، وقيل ما تحته.
ومن الواضح أن تقنية «القرين» لم تجذب غير خليل حاوي وسعدي على الأخص، أما غيرهما فقد آثروا تقنية القناع والمرآة، كما فعل السياب وأدونيس والبياتي وصلاح عبدالصبور وغيرهم كثر.
يبدأ محمود درويش من حيث انتهى خليل حاوي وسعدي، لكنه يصنع سياقه الخاص وتوظيفاته النوعية للقرين، والبداية هي ما ينبهنا إليها السطر: «أنا المسافر داخلي» أو السطران:
وأنا بديلي
أنا من يحدث نفسه
تجليات متعددة
ولا غرابة أن يكون «القرين» متعدد التجليات في شعر محمود درويش الأخير، أولاً لاقترانه بتعدد أشكال التأمل في الذات وتنوع مواقفه، وثانيًا لحرص الذات الشاعرة على اقتناص «الآخر الشخصي» مراوغة تجلياته، هكذا يمكن أن نرى «القرين» رؤية مباشرة في أسطر من مثل:
هو هادئ، وأنا كذلك
يحتسي شايًا بليمون،
وأشرب قهوة،
هذا هو الشيء المغاير بيننا
هو يرتدي مثلي قميصًا واسعًا ومخططًا
وأنا أطالع، مثله، صحف المساء،
هو يراني حيث أنظر خلسة
وأنا لا أراه حين ينظر خلسة
وأصداء قرين سعدي متجاوبة،في الحضور التفاعلي لسياقات التناص، على نحو من الأنحاء لدى قرين محمود درويش الذي يعاود حضوره في أسطر، تتركز بؤرة الاتمام فيها على القرين في أسطر من مثل:
ويروّض الذكرى.. أأنت أنا
وثالثنا يرفرف بيننا «لا تنسياني دائمًا».
وبقدر ما يشير «الثالث» إلى تعدد انقسام الوعي لا ثنائيته، في مدى انشطار الذات، فإنه يشير في الوقت نفسه إلى أن الثنائية هي المبدأ الفاعل الذي تنطلق منه الثلاثية، خصوصًا حين تنقسم الذات إلى أولى تحقق مبدأ الرغبة، وثانية هي نقيض الرغبة في تجسيدها لكل ما لا تريد الذات أن تكونه، وثالثة تمثّل مبدأ الواقع الذي يجسّد الذات بقدر ما تجسده، في مدى توافقها الاجتماعي مع غيرها الذي لا تنكره ولا تنقضه. والحوار بين هذه الجوانب الثلاثة للذات هو حوار ثلاثي الأبعاد، ينطوي على التوتر الدرامي بالضرورة من ناحية، ويؤكد تمزقها بين أبعادها من ناحية ثانية، وتعدد تجليات هذا التوتر أو التمزق من ناحية أخيرة. لكن الثنائية هي الغالبة على تجليات الذات المنقسمة ما بين الممكن والواقع، المشتهى والمفروض، الممنوع والمقبول، اجتماعيًا ونفسيًا، ولذلك، لا تلبث أن تعود الثنائية في أسطر من قبيل:
قد كنت أمشي حَذْو نفسي: كن قويا
يا قريني وارفع الماضي
كقرني ماعز
بيديك واجلس قرب بئرك
ربما التفتت
إليك أيائل الوادي.. ولاح الصوت
صوتك صورة حجرية للحاضر المكسور
وكلا المقطعين ينطوي على الدلالة نفسها في ازدواجها: الأنا الأولى التي هي تجسيد لمبدأ الرغبة والأنا الثانية التي هي نقيضها من منظور مواز ومتطور بأكثر من معنى: والوظيفة هي المشابهة التي تدني بطرفيها إلى حال من الاتحاد، في علاقة لا تفارق علاقة صورة المرآة بأصلها، ولكن بما يجعل من المشابهة إضاءة للذات التي ينطقها ضمير المخاطب، لا يفصلها عن ضمير الغياب سوى علامة لا تنفي قوة المشابهة، بل تؤكده بما يضع كلا الطرفين في دائرة الرؤية المتبادلة التي تضيء حضور القرين، خصوصا حين يتم التصريح باسمه في المقطع الثاني، حيث تتوجه إليه الأنا الناطقة للخطاب، كي يرفع ماضيهما ليغدو في مدى الرؤية، وذلك قبل أن يجلس القرين قرب بئر أشبه باللاوعي الذي يتدفق بتداعياته المكنونة، ويتجلى القرين، فضلاً عن ذلك، في هيئة صورة، يمكن أن تكون صورة فوتوغرافية للذات،غير بعيدة تمامًا عن المدى الدلالي السلبي لرواية «صورة دوريان جراي» التي تنعكس فيها الذات (مع تأجيل المصاحبات الدلالية السلبية) فترى صورتها ترنو إليها في بيت أمها، لا تكف عن السؤال:
في بيت أمي صورتي ترنو إليّ
ولا تكف عن السؤال
أأنت يا ضيفي أنا؟
هل كنت في العشرين من عمري
بلا نظارة طبية
وبلا حقائب؟
كان ثقب في جدار السور يكفي
كي تعلمك النجوم هواية التحديق في الأبدي
(ما الأبدي؟ قلت مخاطبًا نفسي)
ويا ضيفي أأنت كما كنا؟
فمن تنصل من ملامحه؟!
أتذكر حافة الفرس الحرون على جبينك؟!
وتمضي الصورة في مساءلة صاحبها،كأنها تعيده إلى ماضيه، وإلى بذرة التأمل الميتافيزيقي التي انبثقت في أعماق الطفل الذي كان إياه، لكنها سرعان ما نمت في أعماقه،خصوصًا بعد أن كبر بما يكفي ليقفز فوق السور لكي يرى ما لا يُرى، ويقيس عمق الهاوية.
ولا يخلو الحوار من تناص يشير إلى أكثر من تداع على الذاكرة، أولها التداعي الذي يسترجع قصيدة «الجنوبي» لأمل دنقل، خصوصًا في مقطعها الأول الذي يحمل عنوان «صورة» ويمضي على النحو التالي:
هل أنا كنت طفلا..
أم أن الذي كان طفلا سواي
هذه الصور العائلية
كان أبي جالسًا، وأنا واقف تتدلى يداي!
رفسة من فرس
تركت في جبيني شجا، وعلَّمت القلب أن يحترس
أتذكرُ
سال دمي..
ولا أريد إكمال بقية المقطع، فقد أردت التوقف، فحسب، على ما يمكن أن يفضي إلى تذكر «حافة الفرس الحرون على الجبين» التي تتجاوب معها أسطر صورة الأنا - الطفل الذي يتطلع إليه الأنا الكبير في تداعيات الذاكرة التي تتجاوب موجات تفاعلاتها النصية الحاضرة، مومئة إلى ما يوازيها في علاقات الغياب التي تكمل معناها، والنتيجة صعود الحوار بين الذات الناظرة والذات المنظور إليها في الصورة، إلى مدى التأمل الميتافيزيقي الذي لا يتوقف عن مساءلة الوجود والأبدية والهاوية التي هي نهاية كل وجود. ولكن الأهم هو دلالة الحوار الذي ينقسم فيه الوعي على نفسه فيصبح السائل والمسئول اللذان تقرن بهما الصورة التي تؤدي وظيفة القرين أو تغدو مجلى من مجاليه.
والمجلى الثالث للقرين، هو «الاسم» الذي يشخّصه الخيال، ويجعل منه موضوع المساءلة في الثنائية التي نقرأ فيها:
كنت أحاور اسمي: هل أنا صفة
فيسألني: وما شأني أنا؟
أما أنا: فأقول لاسمي
أعطني ما ضاع من حريتي
ولا فارق بين سؤال الاسم وسؤال الهوية، كلاهما وجه للآخر في عملية معرفية يرتد عجزها على صدرها، في تقنية بلاغية تلجأ إلى حيلة من حيل المجاز المرسل، سرعان ما تتحول إلى نوع مواز من التجريد البلاغي الذي يغدو به فعل التسمية فعلاً من الأفعال المقدورة على الذات، قبل أن يكتمل وعيها وتمتلك حرية الرفض للمقدور عليها:
أما أنا، فأقول لاسمي: دعك مني
وابتعد عني، فإني ضقت، منذ نطقت
واتسعت صفاتك: خذ صفاتك
غيري... حملتك حين كنا قادرين على
عبور النهر، متحدين «أنت أنا» ولم
أخترك يا ظلي السلوقي الوفيّ، اختارك
الآباء كي يتفاءلوا بالبحث عن معنى،
ولم يتساءلوا عما سيحدث عندما
يقسو عليه الاسم، أويملي عليه
كلامه فيصير تابعه.. فأين أنا؟
والتمرد على الاسم تمرد على الآخرين الذين اختاروه للمسمّى به، وذلك على نحو يبدو معه التمرد على الاسم تمردًا على «اسم الأب» في تفسيرات اك لاكان لفرويد، أو تمردًا على الآخرين الذين هم الجحيم الذي ينسرب إلى الأنا بمعنى أو آخر، فتتمرد عليه - عليهم - بالمعنى الوجودي، كي تكتمل حريتها، وتتحقق لقصيدتها صفة الإبداع.
الصورة الموازية
والمجلى الرابع للقرين هو «الشبح» الذي هو صورة موازية للأنا في مدلول من مدلولات انقسامها. وللشبح ميراث رمزي طويل، يبدأ من قبل هاملت شكسبير، حيث مشهد شبح الأب الذي يكشف له ما لم يكن يعلمه عن سر موته، صاعدًا إلى بورخيس المغرم برمز الشبح في أقاويل من مثل: «التيقن بأن كل شيء قد كتب يمحونا أو يجعل منا أشباحًا». ويمضي السياق إلى أن نصل، أخيرًا، إلى جبران خليل جبران الذي جسّد «أشباح الوحدة» و«أشباح الكآبة والشتاء» والأشباح السائرة» محدقة في «شبح مكلل بالأشواك، باسطًا ذراعه أمام اللانهاية». وتتجاوب أصداء كل هذه المتناصات وسياقاتها المماثلة أو الموازية التي تتسرب إلى شعر محمود درويش، في أسطر من قبيل:
سلام على من يقاسمني قدحي
في كثافة ليل يفيض من المقعدين
سلام على شبحي
ورأيت أني قد سقطت
عليَّ من سفر القوافل، قرب أفعى، لم
أجد أحدًا لأكلمه سوى شبحي، رمتني
الأرض خارج أرضها، واسمي يرن على خطاك
ومقاسمة القدح التي تومئ إلى رمزية الخمر بدلالاتها التي لا تنفصل عن كثافة الليل الذي يتحول إلى نبع للإبداع، ويقود إلى الحضور الشبحي الذي يقترن بالليل الذي جعله جبران «ليل الأشباح والأرواح والأخيلة» ورآه «شبحًا هائلاً جميلاً منتصبًا بين الأرض والسماء» وسلام الأنا على شبحها سلام على روحها المبدع في هذا السياق من التناص، أعني السياق الذي يدل فيه توازي الضمائر على مواجهة الأنا لذاتها، بعد أن سقطت على نفسها، تخيلاً، قرب أفعى هي، بدورها، دالة على رموز عديدة، منها الغواية وحكمة الأعماق والقوة الصافية، والمعرفة، فضلاً عن مبدأ الخصب الذي يعيدنا إلى الترابطات الدلالية لعودة الحياة.
وتكتمل هذه الدلالات بدال التوحد الذي لايجد في سياق المتوحد من يكلمه سوى نفسه، أو شبحه بلا فارق، كأنه نبتة وحيدة خارجة من باطن الأرض، اسمها يرن على خطا الذات ليس في المدى الدلالي سواها، ولا غرابة أن يتجاوز الشبح والقرين الذي هو إياه في مقطع من مثل:
سألت الظلَّ قرب السور
فانتبهت فتاة ترتدي نارًا،
وقالت: هل تكلمت؟
فقلت: أكلم الشبح القرين
والمقطع دال تتعدد مدلولاته، خصوصًا في وصله بين الظل والشبح والقرين، بما يرد كل واحد منها على غيره في تجاوب دلالة التقنيات الثلاث التي تجعل من الشبح القرين من ناحية، وتضع الظل بوصفه من يتلقى السؤال من ناحية ثانية، وذلك في التجاوب الرمزي للدلالات التي تصل بين مبدأ الأنوثة (الفتاة) والنار التي لا تخلو من دلالة المعرفة، أو دلالة الولادة الجديدة التي يعيد به العنقاء سِفْر تكوينه. هكذا نصل إلى المجلى الأخير الذي يجعل الظل وجهًا من أوجه القرين. وللظل ميراثه الرمزي الذي تتجاوز أصداؤه التناصية على لسان زرادشت نيتشه الذي اكتشف أن له ظلاً يناديه، فركض محاولاً الفرار منه، كما لو كان يفر من ذاته الثانية: «مالي وظلّي! ليركض ورائي، أما أنا فأظل أفر من أمامه».وتنطلق دوال الظل في مثل هذا المدى الدلالي، وفي موازاته، وذلك في تجاوب المدلولات التي تجمع ما بين عنوان قصيدتي «أنا آت إلى ظلّ عينيك» و«الرجل ذو الظل الأخضر» في ديوان «حبيبتي تنهض من نومها» (1970). والأولى غزلية يتحول فيها ظل العينين إلى نبع حنان للهارب من رمضاء المنفى والموت ولغة الدم، حين تصير الشوارع غابة. والثانية مكتوبة في ذكرى جمال عبدالناصر الذي كان حلمًا ووعدًا، ليس نبيًا ولكنه ظلٌّ أخضر، كأنه حضور مواز لحضور «الخضر» الذي هو رمز آخر من رموز البعث والولادة الجديدة، في الموروث الإسلامي.
وأضف إلى ذلك «مديح الظل العالي» التي هي قصيد تسجيلي لحصار بيروت سنة 1983. وهو الديوان الذي تتقابل دلالة عنوانه، في تجاوبات التناص، وعنوان كتاب «مديح الظل» الذي انطوى على عشق اليابان القديمة، النافرة من كل ما هو ساطع كالشمس، ميالة إلى كل ما هو أخفت ضوءًا، من منظور الكاتب الياباني جونيشيرو تانيزاكي الذي ترجم الحبيب السالمي كتابه سنة 1988، أما دال الظل عند محمود درويش فهو أقرب إلى عنوان ديوان الكاتب الشهير بورخيس «مديح الظل» الذي أصدره سنة 1969، وقد ترجم لي أهم قصائده صديقي محمد أبو العطا (أستاذ اللغة الإسبانية وآدابها)، وهو ديوان يشير دال الظل فيه إلى تضاؤل الضوء التدريجي الذي يسبق الظلمة التي ينتهي إليها الإبصار بعد العمى.
مرايا الروح
ولذلك، تنطوي سياقات ديوان بورخيس على نفي «المرايا المظلمة للروح» حيث الأنا تتراوح ما بين أزمنة الماضي والحاضر والمستقبل، وحيث يتفجر نبع الظل من الداخل إلى الخارج في الممالك الشبحية للذاكرة، ذلك المتحف الزائل من الأشكال العارضة، وكومة المرايا المحطمة «في زمان غسقي، يتراوح بين أشكال مضيئة وأخرى مبهمة، هي ليست بعد من الظلمة»، وينساب الظل في منحدر هادئ، بطيء ولا يؤلم، لكن تبهت صور مرايا الذاكرة، وتغدو معتمة.
ويصل «مديح الظل» ذروته عند بورخيس عندما يقول:
أعلم أن، في الظل، ثمة «آخر»
مصيره أن يجهد في أوقات الوحدة الطويلة
التي تنسج ثم تفك نسيم هذا الجحيم
وأن يتوق إلى دمي، ويزدرد موتي
يبحث كلانا عن الآخر
ولا تخلو قصيدة «المرآة» - في ديوان بورخيس من الانعكاس الفجائي في الظل، حيث تغدو الصورة في المرآة الأخرى، وذلك بالقدر الذي يغدو القمر مرآة الحبيبة في قصيدة القمر.
ولا تتباعد توازيات دال الظل في قصائد درويش كثيرًا، عن نظائرها، في مدى علاقات الحضور والغياب في تجاوب المتناصات، عن دالي الظل عند تانيزاكي وبورخيس، ولكن في سياقات محمود درويش التي يظل لها خصوصيتها ومذاقها، ابتداء من السطر: «الحياة على الأرض ظل» مرورًا بالأسطر التالية:
أسماء المكان تشابهت. أرهقتُ أغنيتي
بوصف الظل. والمعنى يرى قلب
الظلام ولا يرى: قال الكلام كلامه
فبكت إلهات كثيرات على أدوارهن
لو كان لي دربان لاخترت البداية
وتقودنا الأسطر إلى متاهة دلالية أشبه بمتاهات بورخيس، حيث تفقد الأمكنة الحدود الفاصلة بينها، فتتشابه أسماؤها، فتبرز المفارقة بين الأغنية المرهقة بوصف الظل، بينما المعنى يرى قلب الظلام ولا يراه، كأنه يحيل الظلام إلى ظل آخر يبعث على الحزن الذي يبدو كأنه العدم الذي تفقد فيه إلهات الخصب أدوارها فلا يبقى سوى الجدب، والمضي في الظل، جبرًا، إلى منتهاه: الموت. ويصل دال الظل إلى ذروته في قصيدة «الظل» - في ديوان «لا تعتذر عما فعلت» - التي تمضي على النحو التالي:
الظل لا ذكر ولا أنثى
رماديّ، ولو أشعلتُ فيه النار
يتبعني، ويكبر ثم يصغر
كنت أمشي، كان يمشي
كنت أجلس، كان يجلس
كنت أركض. كان يركض
فقلت أحمله على كتفي
فاستعصى
فقلت: إذن سأتبعه لأخدعه
سأتبع ببغاء الشكل سخرية
أقلّد ما يقلدني
لكي يقع الشبيه على الشبيه
فلا أراه ولا يراني
وقد حرصت على نقل الأسطر - على الرغم من طولها - لأدلل على المكانة التي يحتلها دال الظل في تجليات القرين. والنفي الذي يبدأ به السطر الأول يقود إلى البينية أو الثنائية التي يؤكدها السطر الثاني، وهو السطر الذي يقودنا، بدوره، إلى تيمة متابعة الظل لأصله، وهي تيمة ترجع إلى نيتشه في «هكذا تكلم زرادشت» وتجاوزه إلى دال إشعال النار التي تظل رمزًا للمعرفة، فترد الظل على القرين فيصبح إياه في علاقته بالذات التي هي، بدورها، تحاول أن تحمله على كتفيها، كما حمل السندباد العفريت على كتفيه، لكن سدى، فالثنائية تظل قائمة، ثقيلة الوطء لا نجاة منها إلا بإلغائها، ومن ثم رد عجزها على صدرها، أو ثانيها على أولها، فلا يقع الشبيه على الشبيه، لأن الشيء لا يشبه نفسه، فيختفي الظل من حال الاتحاد التي لا وجود له فيها، إلى حال يدنو من الاتحاد، دون أن يكون هو إياه، هكذا، يفرض «الظل» حضوره الذي يتحول إلى حضور القرين في أسطر من مثل:
أمشي الهوينى، على نفسي، ويتبعني
ظلي، وأتبعه، لا شيء يرجعني
كأني واحد مني يودعني
الظل وصاحبه
والتبعية المتبادلة بين الظل وصاحبه هي التمثيل الكنائي لثنائية الذات المنقسمة، كأن واحدًا منها يودعها، وذلك في مدى السياقات التي يغدو للظل فيها رائحة الثوم حينًا، والدم حينًا ثانيًا، وكلاهما قريب من العدم الذي هو استبدال للموت بالظل، حيث تتأكد الثنائية في مدى الحياة التي هي ظل على الأرض في النهاية:
حيث يمر الزمان بنا، أو نمر به
كضيوف على حنطة الله
في حاضر سابق، حاضر لاحق
هكذا، هكذا نحن في حاجة للخرافة
كي نتحمل عبء المسافة ما بين بابين
ولا يمكن أن نفصل ثنائية البابين في السطر الأخير عن الأنا التي تنقسم على نفسها، ومن ثم يتوتر عبء المسافة، كالزمان، ما بين حاضر سابق وحاضر لاحق، في مدى التحولات التي تتولد منها الأسطورة أو الخرافة التي تصل، آنيًا،بين الأزمنة الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، والمدى الدال، هنا، هو مدى الثنائية التي ينوس فيها الخطاب ما بين بابي الذات، أو المدخل إلى أناها الأولى، وأناها الثانية، فنقرأ عن حضور «الآخر الشخصي» في أسطر من مثل:
لا تعتذر عما فعلت، أقول في
سري، أقول لآخري الشخصي
ها هي ذكرياتك كلها مرئية
والإشارة إلى فعل الرؤية، في السطر الأخير، إشارة إلى الأنا التي تغدو، في انقسامها الناظر والمنظور إليه،كما لو كانت تتطلع إلى نفسها في المرآة، وذلك في السياق نفسه الذي يتجسد في أسطر من مثل:
«هل هذا هو؟» اختلف الشهود:
لعله، وكأنه، فسألت «من هو؟»
لم يجيبوني: همست لأخرى: «أهو الذي قد كان أنت... أنا، فغض الطرف»
والتفتوا إلى أمي لتشهد
أنني هو... فاستعدت للغناء على
طريقتها: أنا الأم التي ولدته
لكن الرياح هي التي ربته
قلت لآخري: لا تعتذر إلا لأمك
وهي أسطر تدخلنا إلى متاهة دلالية، لكنها لاتخلو من بعض الشفافية التي ندرك، من خلالها، أن «الأنت» «أنا» وأن النفي يستوي والإيجاب، وأن المتكلم الحاضر هو المشار إليه الغائب، وأن الأم التي ولدته، وتركته للرياح تحمله من مكان إلى مكان. والمسافة الرمزية غير بعيدة عن الأم بصيغة المفرد والأم بصيغة الجمع، أعني الأم الكبرى: الأرض التي تسلم عنصرها الترابي إلى عنصرها الأثيري، في علاقات العناصر الأربعة للوجود: التراب، الماء، الهواء، النار. أعني العناصر التي يشير دال الريح، في تفاعل سياقاتها إلى الصيرورة والحركة والطاقة ومن ثم إمكان حضور كل الأزمنة في زمن واحد، وكل الضمائر في ضمير واحد هو ضمير الذي رأى والذي عرف كأنه جلجامش، أو الذي ازداد حزنًا لأنه ازداد معرفة، فيخرج من «أناه» إلى سواه، ومن رؤاه إلى خطاه، ويمد جسر وعيه عاليًا في أفق المعرفة.