كان علي الراعي رابع النقاد الكبار الذين تسبّبوا في غوايتي وضلالي وعشقي لهذه المهنة العسيرة.
أولهم كان محمد مندور, شيخي العظيم, وثانيهم لويس عوض, حامل أختام دمغة الذهب- كما كان يقول- يدمغ المصوغات الإبداعية, فيمنحها قيمتها التداولية في سوق الأدب, وثالثهم غنيمي هلال: الأستاذ الرائد الذي اختطفه الموت وهو في أوج العطاء. ثم يأتي الراعي المتحفّظ الذي تخصص في المسرح وفاجأنا بأسراره وأمتعنا بكتاباته التلقائية العميقة عنه, ظل صامتاً طيلة جلسات مجلس الكلية, مؤثراً ما كان يسميه (الفرجة) على القيام بأي دور تمثيلي على كثرة الأدوار الجدّية والهزلية في الجامعات. لم يسمح لأحد منا باختراق عالمه المصمت الذي يتغلف بالجهامة السمحة والحدّة الواضحة. لقد تركت تجارب العمل العام كثيراً من المرارة والحنكة على ملامحه, فاعتصم بهذا الكبرياء النبيل.
كنت توّاقاً للاقتراب منه, أرى أنني من قبيلته, لا أعرف إن كان قد قرأ لي شيئاً مما كتبت ولو في المسرح, أريد أن أعبّر له عن اعتزازي بالانتماء إلى عالمه والحب الخالص له, لكنه ظل متباعداً لا تستثيره مغامرة الصداقات الجديدة. وعندما أشرفت على سلسلة نقّاد الأدب التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب, راعني أنها مازالت تخلو من كتاب عنه وهو أبرز من تبقى من الأعلام, طلبت إليه أن يرشح أحد خلصائه والعارفين بمسيرته كي يكتب عنه, رشح لي اسمين من النقّاد الممارسين القريبين منه, اعتذر كلاهما بأدب عن القيام بالمهمة راجياً ألا أخبر الدكتور الراعي بذلك, أدركت أن المسافة التي صنعها مع الآخرين لم تكن تفصلني وحدي عنه, ومع ذلك, أخذت أطالع مقالاته الغزلية في المبدعين, كان يغدق عليهم بسخاء شديد عبارات الإطراء والمدح, ولابد أن من اختارهم يستحقون ذلك, لكنني كنت أخشى مغبة هذا التدليل, سوف يتبرّمون بأي نقد موضوعي غير مجامل بعد ذلك, وأذكر أنني قرأت منذ عامين رواية بهاء طاهر (الحب في المنفى) ثم فوجئت بمقال الدكتور الراعي عنها في الأهرام بعنوان (كاملة الأوصاف) خشيت على صديقي بهاء من أن يداهمه الشعور بالاكتمال إلى هذا الحد المخيف, وجدت نفسي أتخذ منه موقفاً نقدياً صارماً, بعيداً عن طريقتي, في الندوة التي عقدت بـ(أتيليه القاهرة) لمناقشة الرواية, ظن أصدقاء بهاء, وهم كثيرون, أنني قد انقلبت عليه بشكل عدواني, وانبروا يتصدّون للدفاع عنه, صاح فيهم بهاء ذاته, دعونا نتأمل النقد ونفيد منه, فأنا أحترم رأي الناقد الصديق. كانت كلمات علي الراعي المستعارة من لهجة الأوساط الشعبية في وصف العروس عند جلوتها بأنها (كاملة الأوصاف) هي التي ورّطتني في هذا الموقف المتوتر. لكنني لم ألبث أن أدركت بعد ذلك أن الراعي المتجهم المتحفظ كان يفيض في داخله تحناناً وحبّاً وحدباً على المبدعين, وكان خاصة في الأعوام الأخيرة سيئ الظن بالحياة الثقافية عامة, يراها شديدة القسوة على أصحاب المواهب الخلاّقة, ومن ثم, فإنه يرى رسالته في تشجيعهم وإضاءة الطريق أمامهم, ولابأس بنثر بعض الورود تحت أقدامهم. إنه قد تلبّس دور (الراعي) الحقيقي, وهو لم يخلع رداءه طيلة حياته, وأخذ يقدم قراءات عاشقة للأعمال الإبداعية, قد لا يزيد عن تلخيصها بحبّ ومودة, وكشف دلالتها المباشرة في سياقها القريب, دون أن يعنّي نفسه, ولا يرهق قرّاءه, بشيء من الحصاد المعرفي المنهجي الذي تمخضت عنه نظريات الأدب والنقد وعلوم السرد في النصف الثاني من هذا القرن, كان شديد الامتلاء بمعرفته وخبرته, عظيم الثقة بذائقته وحساسيته, يرى في ذلك الكفاية لقارئ الصحيفة ومحب الأدب, كما كان حريصاً على أن تظل لغته رائقة متدفقة تلقائية, تلمع في ثناياها أوصاف جذّابة فاتنة- كما كان يقول, وتتخللها بعض العبارات التي مازال يذكرها من النقد الجديد, دون أن يتسرّب إليها أي مصطلح ثقيل مما وفد بعد ذلك.
فتظل لغته نتيجة لذلك إعلامية تواصلية في الدرجة الأولى, أقرب إلى هذا الطابع الشفاهي الذي تمرّس به الراعي منذ شبابه الأول في الإذاعة المصرية, وأتقنه في نضجه عندما ظلت قنواته موصولة بالمجلات الثقافية منذ الفجر الجديد إلى مجلة المجلة, وبالصحف ابتداء بالمساء وانتهاء بصحيفة الأهرام. كان خطاب الراعي النقدي أنشودة للبساطة, وخلاصة لهذه الروح التبشيرية التي وضعت النقد في خدمة الحياة الثقافية والإبداعية.
ناقد الفن الشامل
كان الراعي أبرز ناقد احتضن مفهوم الفن الشامل الذي بذره توفيق الحكيم في ثقافتنا المسرحية المعاصرة, بحيث يتوازن الجانب الأدبي للنصوص المقدمة مع فنون الممارسة العملية والمهارات الحركية والتعبيرية ذات العروق الشعبية الأصيلة. ومع أن رحلته الفكرية بدأت مع فيلسوف المسرح الإنجليزي الحديث (برنارد شو) في أطروحته للدكتوراه عنه, إلا أنه وعى جيداً الدرس الأول الذي لقّنه إياه أستاذه (ألارديس نيكول) في جامعة برمنجهام) حيث حذّره من التركيز على الجانب الفكري للفن فحسب, قائلاً: (لا أريد أن أقرأ منشوراً أيديولوجيا آخر عن برنارد شو) مما جعله يخصص بحثه لدراسة المؤثرات المشكّلة للتقنيات الفنية, أي تلك العناصر الداخلية والخارجية التي تحدد أساليب العروض المسرحية من كلمة وحركة وضوء وإيقاع.
وكان الراعي المفتون منذ صباه الباكر بأشكال الفرجة الشعبية مهيأ بطبيعته للعزوف عن هذه التوجهات الأيديولوجية, مع أن الموضوع الذي كان يود بحثه يدور حول (الالتزام في المسرح), ومن الطريف أنني اعتزمت دراسة الموضوع ذاته عندما شرعت في دراسة المسرح الإسباني بمدريد, ويبدو أننا نغادر أوطاننا حاملين مسئوليتها على رءوسنا الصغيرة. المهم أن الحس الشعبي القريب من نبض الإنسان العادي كان يضمن لعلي الراعي البعد عن الأرستقراطية الفكرية المغرية في الجامعات والمؤسسات الرفيعة.
كان مثل الحكيم يتباعد عن أوساط الناس محصّناً نفسه في الظاهر في برج عاجيّ يعصمه من لغطهم, بينما هو في واقع الأمر شديد الاندغام في وجدانهم, والتفاعل مع التيارات الحارة المتدفقة في حياتهم. وعندما اكتشف الراعي هذا العرق الذهبي في فن توفيق الحكيم الذي يجمع بين الفكر والفرجة كان يعبّر عن المثل الأعلى للفن لديه شخصياً. ومن العجيب أن أحداً ممن عشقهم الراعي لم يسلم من إسقاط هذا النموذج التأويلي على إبداعه, حتى (شكسبير) الذي قدمه لنا نقّاد في طبقة طه حسين ولويس عوض ومحمد مندور باعتباره خلاصة السمو الفكري والدرامي والأرستقراطية الشعرية الرفيعة, كـان الراعي لا يرى فيه سوى ممثل أصيل لفنون الفرجة المسليـة, فهـو على حد تعبيره قد (استخدم كل فنون البهلوان والمهرج الشعبي وفنون (القافية) وجلسات السمر خاصة, كما استخدم تجاربه الكثيرة كممثل جوال وحرفي ومقاول لتوريد المتعة للجماهير العريضة, استخدم هذا كله في صياغة مسرحيات باقية, باقية لأنها تجمع بين الفرجة والفكر معاً, ولأنها تبدأ بالفرجة أولاً, كأساس لابد منه لبناء صرح الفن الشامخ الجميل).
مصطلح الفرجة
ومن الواضح أن هذا النموذج يختلف جوهرياً عمّا اجتهد النقاد الآخرون في تحليله من أعمال شكسبير لكشف فلسفته وشعريته ورفعة فنه.
كان الراعي هو الناقد الذي ابتكر مصطلح (الفرجة)- أو التقطه من الشارع- ليشير به إلى ما كان يقصده توفيق الحكيم في حديثه عن (الحاوي) الفنان, وما كان يرمي إليه يوسف إدريس في تجسيده لـ(الفرفور) الفنان أيضاً, فأعطى للكلمة قواماً نقدياً وطبيعة إبداعية, جعلها وسيلة تشير لامتصاص العناصر الشعبية من أراجوز وسامر وجلسات قافية وحلقات سحر وعروض مهرجين, وصهرها في نار المسرح الجامعة. إنه في سيرته الفكرية يعتز بدوره في تأسيس مسرح العرائس والفرقة القومية للفنون الشعبية بقدر ما يفخر بأنه أحد صنّاع حركة المسرح في الستينيات في ذروة توهجه, وهو يقدم أعمال نعمان عاشور وعبدالرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس وألفريد فرج, وسعد الدين وهبة, وصلاح عبدالصبور وميخائيل رومان إلى جانب أعمال تشيكوف ولوركا وبريخت ومسرح العبث العالمي, بل إنه يرى أن المسرح العربي أقرب إلينا وأهم لنا من هذا المسرح العالمي, فقد عارض لويس عوض بشدة عندما دعا إلى أن تكون نسبة 05% من العروض المصرية مخصصة لهذا المسرح العالمي, ورأى أن هذه النسبة ينبغي أن توجه للدراما العربية السورية والعراقية والكويتية والتونسية والمغربية, لأن هذا كفيل بصناعة نموذجنا في المسرح القومي العربي, وكان ذلك إيماناً من علي الراعي بهذا المنظور الأصيل.
كان علي الراعي شديد التمثل للوعي الشعبي والثقة في حصافته ونضجه, فهو يرى- مثلاً- أن الأرض العـربية لا تمنح الغذاء والنماء لجميع الأشكال الفنية على السواء. فهناك- على حد تعبيره- (فنون يجود زرعها في بلادنا, وأخرى تنمو نمواً متوسطاً, وثالثة تعيش على الهامش, ورابعة تموت ونحن نزرعها), ويأخذ مثلاً على ذلك فن الأوبرا, ما أكثر ما حاولنا أن نمد له جذوراً بيننا, وما أقل ما حققته هذه المحاولات جميعاً من نجاح.
(إن فن الأوبرا- في تقديره- مجاف لوجدان الشعب ولطريقته في الغناء والاستمتاع بالغناء, إن شعبنا يرى طريقة الأداء في الأوبرا مصطنعة وغريبة, وبعضنا يراها مضحكة, ومن العبث أن نحاول بالزجر أو الإهانة أو الاتهام بالتخلف, إقناع الشعب بقبول مالا يقبله).
كان الراعي يرد بذلك على كلام لويس عوض أيضاً, وكان قريباً جديداً من نبض الرجل العادي في الشارع بقدر ما كان يبتعد عن طموح صفوة المثقفين في تطعيم الفنون العربية بنماذج راقية ترتفع بمستوى فن الحركة الراقصة إلى آفاق موسيقية عالية, وكان الراعي ينتصر بشدة للموسيقى العربية التي يراها طه حسين نكراً شديداً, ويسمعها لويس عوض- وهما يعيشان مع زوجتين أجنبيتين ـ على مضض, لقد ظل علي الراعي ابن بلد أصيلاً في حماسه للفنون الشعبية, وسعيه لتنميتها تعبيراً عن الهوية الخاصة المحلية.
شرارة العروبة
لم يعرف النقد العربي واحداً من أبناء الجيل الأوسط في هذا القرن قد انقدحت في أعماقه شرارة العروبة, ورآها مستقبلاً واعداً قريباً مثلما حدث لعلي الراعي. فقد كان رفاقه من كبار النقاد مشغولين بهمومهم المنهجية والأيديولوجية المحدودة, أما علي الراعي, فقد امتد به العمر ليشهد ذروة المد القومي ويتذوق حلاوته, وليعاني في عظمة آلام انحساره وتمزيق حلمه. ومع ذلك, فقد كتب في إهداء موسوعته النوعية عن (المسرح في الوطن العربي), يقول: (إلى الوطن العربي الكبير, إنهم يرونه بعيداً وأراه قريباً).
ولو تذكرنا أن هذا الكتاب قد نُشر في الكويت عام 1980 خلال فترة المقاطعة العربية لمصر بعد توقيع اتفاقية السلام, وخلال مقام الراعي فيها, أدركنا دلالة هذا الإهداء وأهمية الرؤية العروبية فيه, فهو لا يأتي في لحظات نشوة الانتصار وزهوة الأمل, بل في أحلك ساعات التمزق التي تنذر بمصير الشرذمة والعدوانية.
وربما كان التيار الذي يسري في العمل كله يكشف عن تصوّر جديد للمصير العربي قد تشكّل في فكر علي الراعي, فهو يلح على تأصيل فن المسرح في الفضاء العربي الكامل قبل أن يلتقي المؤثرات الأجنبية.
يقول مثلاً بعد أن يشرح أصول الممارسات المسرحية المحلية خلال القرون الماضية: (لو تخيلنا داراً كبرى للملاهي يعمل على أرضها القراد والحاوي ومسرح خيال الظل, ومسرح الأراجوز والمحبظون, لاستطعنا أن نحيط بالطاقة التمثيلية الكبرى التي تمتع بها أهل بلدنا قروناً طويلة قبل أن يفد المسرح البشري الغربي إليها على أيدي فرق أجنبية عديدة, ثم في شكل فرق مصرية نبتت في بلادنا, وأخرى عربية أتت لتزورنا من سوريا ولبنان. ومن يزر اليوم سوق جامع الفناء بمراكش, يجد هذه الصورة التي نتخيلها حقيقة واقعة, يجد مسرح الحلقة في أشكال متعددة, ويجد مسرح الممثل الفرد الذي يقوم وحده بجميع الأدوار, ويجد تمثيلاً عادياً يتعدد فيه المؤدي ويشبه من قريب تمثيل المحبظين, كما يجد ألعاباً مختلفة للحواة والمشعوذين, وهذا كله يدل على دراما بشرية شعبية عرفتها الأقطار العربية في مصر والشمال الأفريقي قبل أن يفد إليها المسرح البشري الغربي بوقت طويل).
المهم لدينا في هذا المشهد المستوعب للتراث التمثيلي الشعبي إصرار علي الراعي على إبراز تكامل الفنون الشعبية العربية بتاريخ الوسيط ومحاولات (إنولادها)- على حد تعبيره- في فضاء قومي عربي خالص قبل التلقيح المسرحي الأوربي الحديث. إنه يصف هذه المحاولات بحنو شديد, وتقدير حقيقي يخلو من الانبهار بالأشكال الغربية, ويرى أن نمو طاقتنا الإبداعية مرهون بهذه العناصر الشعبـية التي لا تحتل مرتبة دنيا في تقديره, بل لا تقل سمواً ولا رفعة عن النماذج العالية, فهي الحضن الدافئ المتناغم الكفيل وحده بضمان اتصال عروقنا بأسلافنا ومعاصرينا الأقربين.
غير أن الفترة الحاسمة في تشكيل وعي الراعي العروبي كانت تلك السنوات التسع التي قضاها في الكويت. وذلك لأن الانخراط في الحياة الثقافية المصرية والامتلاء بزخمها الداخلي فحسب يصبغ من يمارسه بلون من الإحساس الخفي بالاكتفاء الذاتي والانحصار داخل القوقعة الوطنية, حيث يتشكل منظوره من آلاف التفاصيل الوجدانية المنغلقة على ذاتها.
فإذا ما أتيحت له فرصة الرحلة الأوربية أدرك أهمية التفاعل الحضاري في علاقات الشرق والغرب, لكن يظل جناحه العربي مهيضا, ينظر إليه باعتباره خارجاً عنه. كان لويس عوض مثلاً يعتبر الرحلة إلى بعض أقطار الوطن العربي (تدهوراً) في تكوين المثقف, لأنه لم يمر بمثل هذه التجربة الخصبة الغنية. لم يشهد عن قرب كيف يقوم بلد صغير بدور طليعي خلاق في تعميق الإنتاج الثقافي الفكري وتنظيم تداوله وتوالده عبر الفضاء العربي كله كما تفعل الكويت, ومع أن كتابات الراعي عن هذه الفترة لم تنشر بعد, باستثناء صفحات قليلة حكى فيها قصة استقدامه إلى الكويت للنظر في أمر الحركة المسرحية ودراسة وضع معهد المسرح حيث اقترح تحويله إلى معهد عال من ناحية, وإدخال مناهج الأدب المسرحي إلى مقررات كلية الآداب من ناحية ثانية, ثم يذكر بعض أساتذة المعهد وطلابه ممن حملوا شعلة النشاط المسرحي, لكنه يورد ذلك باقتصاد شديد حتى يرسم صورة متوازنة ودقيقة للمشهد العربي بأكمله. وإن كان اللافت للنظر أن الراعي في هذه الفترة الخصبة من حياته لم يقتصر دوره على المجال التعليمي فحسب, بل تجاوزه إلى ميدانه الأثير وهو الإعلام, حيث قدم برامج ناجحة في التلفزيون الكويتي, ونشر مقالات صحفية ونقدية كثيرة, ورعى الحركة المسرحية النشطة.
كان يبذل روحه وتجربته ووعيه لترشيد ثقافة الفرجة وتنميتها في هذه الرقعة العربية من الجامعة إلى الشارع مثلما فعل تماماً في القاهرة, فوحدة الوطن العربي ثقافياً حقيقة فادحة لمن يمارسها بحماس وإخلاص علي الراعي.
الرواية ديوان العرب
ولعل المغامرة العروبية الأخرى التي استقطبت السنوات العشر الأخيرة من عمره, كانت في مجال الرواية, فإلى جانب عشقه الأول للمسرح, كان يهرع إلى قراءة الأعمال الروائية في تلك الليالي التي لا تُضاء فيها خشباته. ويبدو أن موسوعته النوعية الأولى قد مثلت له تحدّياً لكتابة العمل الثاني (الرواية في الوطن العربي), لكنه عندما جال في أبهائها الرحبة, هتف بحماس شديد (المجد للرواية العربية), وكتب يقول: (لقد جعلها أفضل المبدعين فيها لسان حال الأمة وديواناً جديداً للعرب, ومستودعاً لآمال وآلام أمتنا العظيمة المقطعة الأوصال, لاتزال شعوب هذه الأمة ترنو إلى التوحد من جديد, لاتزال تناضل الحدود الزائفة ومؤامرات الأجنبي, وقصر نظر الحكام المحليين, لاتزال تستهزئ بالحواجز والكوارث وأسلحة البغي التي تحاول جاهدة الهيمنة على الشعوب) وعندما يستخلص على عادته (التيمات) الأساسية في الرواية العربية يضع القهر السياسي والاجتماعي على رأس قائمة المشكلات الحارة للإنسان العربي, قهر الرجال والنساء والمجتمع بحيث تغدو الحرية هي أنشودة الإبداع الحقيقي. وهكذا نجد أن الموضوع المحبب لدى الراعي- الذي ذهب إلى إنجلترا شابا ليدرسه وهو (الالتزام)- لم يفارقه طيلة حياته منذ أمسك بالقلم في أربعينيات هذا القرن حتى نهايتـه في التسعينيات الأخيرة.
كان الراعي ناقداً, صاحب رسالة إبداعية وفكرية وقومية, لم يترك للأيديولوجيات الطاغية صوغ معالم هذه الرسالة في أوج سخونتها واستقطابها, ولم يتخل عن مبادئها طيلة حياته.
وعندما جلست مع بضع عشرات في سرادق عزائه ثاني أيام عيد الفطر الموافق 19 يناير 1999 خيّل إليّ أنه يجلس بجانبي, لا متجهماً عبوساً كما تحتفظ ذاكرتي بصورته, بل باسماً يهمس لي: ألم أقل لك وأنا أتحدث عن شهداء المسرح, وأصف جنازة شيخوف التي لم تزد عن هذه بأن الناس هكذا لا تفتنهم سوى الفرجة, وأن العظماء يمضون وحدهم إلى الخلود؟