مختارات من:

العالم الروائي.. وخمس علامات مميزة

نبيل سليمان

من دكان متواضع للحلاقة على حافة حي القلعة من مدينة اللاذقية، خرج حنا مينة إلى فضاء الكتابة.

كانت قصته الأولى هي «طفلة للبيع» عام 1946. لكن روايته الأولى «المصابيح الزرق» تأخرت حتى عام 1954. وقد جاءت هذه الباكورة كما يليق برواية الحارة، وعادت إلى نهاية الحرب العالمية الثانية والاستعمار الفرنسي لسورية. أما فضاؤها فكان حي القلعة الذي أقمت فيه خلال السنة الأولى من دراستي الثانوية «1959 / 1960» وكنت زبونا لدكان الحلاقة إياه، وبه أعبر كل يوم مرارًا، ولم أعلم أن حنا مينة خرج من هنا إلا بعد سنين. وهاهو الدكان العتيد لا يزال مفردا إفراد البعير المعبّد وسط العمارات الجديدة التي اجتاحت الحي والشارع.

الحارة

في الثلاثين من عمره، جاءت رواية حنا مينه الأولى لترسم بـ «الحارة» أولى علامات عالمه الروائي التي ستبدأ بالتمايز بعد عقدين. وقد ترسخت علامة الحارة في رواية «المستنقع» -1977، وهي الجزء الثاني من الثلاثية السيرية «بقايا صور» التي تركّز فضاؤها في حي الصاز «أي المستنقع» من ميناء إسكندرونة الذي اقتطع من سورية وألحق بتركيا عام 1939، فهاجر حنا مينه مع أسرته، كما هاجر سليمان العيسى وصدقي إسماعيل وسواهم ممن كان لهم دور ثقافي وسياسي كبير في سورية.

في رواية «المستنقع» يستعيد الفتى حنا من ثلاثينيات القرن الماضي الحي «الحارة» وذلك المرشد الذي كان يقدم له الكراريس الثورية، ومثله شخصيات الحارة النقابية والشيوعية. وبعد أكثر من عقدين سيعود حنا مينه إلى الحارة في الثنائية الروائية التي حمل جزؤها الأول اسم الحارة اللاذقانية «حارة الشحاذين» -2000. وقد عاد هذا الجزء، وبعده الجزء الثاني «صراع امرأتين» -2002, إلى فترة خروج الفاشيين من سورية ودخول الديجوليين مطلع أربعينيات القرن الماضي، وإلى القاع الشعبي المقاوم كما تمثل في شخصية «حمدان الداش» قبل سجنه وأثناءه وبعده، وحيث كان له في السجن مرشده اليساري راغب، مثلما كان للفتى حنا في «المستنقع».

الطبيعة: البحر الغابة

في عام 1966 جاءت الرواية الثانية لحنا مينه «الشراع والعاصفة» لترسم بـ «البحر» العلامة الثانية والأكبر من علامات عالمه الروائي. وقد تأخر صدور هذه الرواية التي كتبها الكاتب قبل عقد بسبب فراره وتطوحه في المنافي إثر الحملة على الشيوعيين في عهد الوحدة السورية المصرية 1958 - 1961.

برواية «الشراع والعاصفة» بدأت مغامرة حنا مينه في ذلك الفضاء الروائي البكر عربيا: البحر. وقد تجسد الطابع الملحمي لهذه المغامرة في شخصية البحار المجرب «الطروسي» الذي حطمت العاصفة مركبه ففتح مقهى في ميناء اللاذقية، ليدخل الصراع الاجتماعي والسياسي بعدما دخل الصراع مع الطبيعة، بينما كان يتهيّأ للعودة إلى البحر متعمدا بعشق «ماريا» وبانتصاره على عاصفة أخرى إنقاذا لبحار صديق، إلى أن يصير له مركب جديد ويبحر متوجًا بأمثولات الشجاعة والنبالة، ومطلقا اللقب الذي سيظل حنا مينه يعتز به: روائي البحر.

وفي عام 1975 جاءت رواية «الياطر» بالصياد «زكريا المرسنلي» الذي ربط الحوت في ميناء إسكندرونة، حيث يعود الكاتب إلى زمنه الروائي الأثير في مطلع القرن العشرين، بينما كان مطلع خمسينيات ذلك القرن هو زمن «الطروسي». ولئن كان البحر حاضرًا في «الياطر» دومًا، فالغابة هي التي ستغدو الفضاء الأساس، بعد أن يلجأ إليها المرسنلي إثر قتله للخمار اليوناني ازخريادس. وفي ملجئه يلتقي ذلك البدائي المتوحش بالراعية التركمانية شكيبة، فيؤنسن العشقُ ذلك القاتلَ الذي كان يرى الإنتياسة «السمكة» أنثاه وعاهرته، والذي اقتحم عليه ابنه خلوته مع عاهرته ازنيف، فكاد أن يقتل الأب ابنه.

من منجم الطروسي والمرسنلي ستطلع العناصر النقيضة في ثلاثية حنا مينه «حكاية بحار». ففي جزئها الأول الذي حمل هذا العنوان وصدر عام 1981, ينهض البحار المجرب صالح حزوم في صراعه مع البحر، إلى أن يغرق مركبه ويختفي هو، مخلفًا عشيقته كاترين الحلوة، وابنه سعيد الذي سينهض في الجزأين الثاني «الدقل» -1982، والثالث «المرفأ البعيد» -1983، في ما الزمن يمضي من عهد المرسنلي قدما، والفضاء يترامى من إسكندرونة إلى اللاذقية.

يبدو البحر في ما كتب حنا مينه مرة كالقدر ومرة كالمرأة، له غوايته وكيده وسطوته ولذته ومجهوله. وإزاء ذلك، هو ذا سعيد حزّوم يوقن أن أباه لم يغرق، بل سافر وسيعود. وسعيد لا يفتأ يبحث عن أبيه، لكأن الرواية رواية البحث عن الأب المفقود أو رواية انتظار الأب الذي لا يعود. وعلى هذا المعراج، في البحر والبر، في الموانئ والسجون، يتشكل سعيد حزوم على يد الأب الثاني أو البديل، المرشد والمعلم والصديق السياسي اليساري الشيوعي/ أو النقابي الذي لا يكاد يغيب عن رواية لحنا مينه. لكن تشكّل سعيد حزوم سيأتي أيضا على يد المرأة، ابتداء بعزيزة المتزوجة من عجوز، والتي تفّح بسعيد «قبلني بعنف» كما كانت شكيبة تفّح، وكما ستكون العاشقات في روايات الكاتب، ومنهن دوما من هي صنو كاترين الحلوة، معشوقة صالح حزّوم، ثم معشوقة ابنه التي تجدد «عقدة» المرسنلي وابنه مع العاهرة ازنيف. وسوف يعود حنا مينه في رواية «الرجل الذي يكره نفسه» -1998، إلى صالح حزّوم وابنه، فيتوحّد الراوي دعبس الفتفوت بصالح الذي لم يمت، بل هو هارب من الحب «كاترين الحلوة» عائد إليه، كما يقص قصة غيابه في هذه الرواية، بينما ابنه يبحث عنه.

بعد ثلاثية «حكاية بحار» كتب حنا مينه رواية «الرحيل عند الغروب» -1992، فقدم البحّار اللجاوي في استعادته لعهده مع البحر إلى أن يعود إليه مفعما بالأمل. وعبر ذلك سنرى اللجاوي يصارع العاصفة وينتصر، وسنراه عاشقا لسلافة التي تذكّر بكاترين الحلوة، وتلميذًا نجيبًا في السجن لمرشده. وعلى خلاف روايات البحر تلك، ستأتي رواية «البحر والسفينة وهي -2002» مذكرة برواية جبرا إبراهيم جبرا «السفينة»، حيث ينطلق بدر الزرقا في رحلة سياحية على السفينة سانتا ماريا بعيد توقف الحرب الأهلية في لبنان. وبدر الزرقا قبطان سابق ترك العمل في البحر إثر خطأ فادح، واختار الرحلة المملة ليمل البحر ويكرهه. وكالعهد بأبطال روايات حنا مينه من المثقفين والبحارة، لبدر الزرقا خبرته العتيدة بالشراب، وهو الصياد الماهر الذي يرى النساء سمكات، وصديق البارمانات.

إلى جانب ذلك كان للبحر حضور ما وفعل ما في الروايات التي كان فضاؤها شاطئيا. فالرواية الأولى «المصابيح الزرق» تتعلق بحي القلعة من مدينة اللاذقية. وقد كانت لبطل الرواية «فارس» رحلة صيد مع الصياد الشقي «الصفتلي». وتتعلق رواية «نهاية رجل شجاع» -1989، بميناء اللاذقية والصيد والتهريب. أما رواية «حارة الشحاذين» -2000، وجزؤها الثاني «صراع امرأتين» -2002، فتتعلقان بالحارة اللاذقانية التي حمل الجزء الأول اسمها، ومنها الصيادون. وقريب من ذلك ما سيكون للبحر وللغابة في رواية «الفم الكرزي» التي ذُيّلِتْ بتاريخ كتابتها «1976» ونشرت عام 1999. لكن الغابة وحدها ستكون فضاء روايتي «النجوم تحاكم القمر» -1993، و«حين مات النهد» -2003.

السيرة الروائية أو الرواية السيرية

في غمرة الاشتباك بين الرواية والسيرة الذاتية تأتي العلامة الثالثة والأكبر أيضا للعالم الروائي لحنا مينه، وهو الاشتباك الذي «يشتبك» فيه القول بالسيرة الروائية أو الرواية السيرية.

في عام 1975 جاء الجزء الأول من ثلاثية حنا مينه السيرية، التي ستحمل عنوان هذا الجزء «بقايا صور»، وفيه يعود الكاتب إلى عشرينيات القرن الماضي، مستذكرا الأب السكير الشهواني الرحالة، والأم الضعيفة الطهرانية، وحكايات الأخوات والمدرسة والخال والصراع في ريف الإسكندرونة واللاذقية بين الملاك والفلاحين. وتنهض بخاصة شخصية العاهرة زنوبة الأرملة وعشيقة الأب. وفي الجزء الثاني «المستنقع» تنهض في ثلاثينيات القرن الماضي شخصيات الشيوعي اسبيرو الأعور وعبده حسني المرشد الذي يقدم للفتى حنا الكراريس الثورية، وكذلك النقابي فايز الشعلة، بينما تتركز الرواية في حي الصاز «المستنقع» من ميناء إسكندرونة. وهكذا سيظهر كم تعني «الحارة» في العالم الروائي للكاتب، منذ البداية في «المصابيح الزرق» وإلى «حارة الشحاذين».

في الجزء الثالث من ثلاثية «بقايا صور» وهو «القطاف» - 1990، يواصل الكاتب سرد سيرته وقد غدا مراهقًا، بهجرة الأسرة إلى اللاذقية بعد ضمّ لواء (محافظة) إسكندرون إلى تركيا عام 1939. ويبدو الكاتب ينشد التقية إذ يكتفي بالحرف الأول من أسماء بعض الشخصيات والأسر والقرى، سواء في استذكاره لبداية الهجرة في اللاذقية، أو للعمل في قطاف الزيتون في الريف.

إن الكثير من هذه العناصر السيرية التاريخية في ثلاثية «بقايا صور» سيعود إلى رواية «شرف قاطع طريق» - 2004، في ما يشبه مقالات سيرية تستدرك ما فات الثلاثية، وتكرر الكثير منها. حيث الراوي الذي يعلن نفسه «حنا مينه» والأم والأب والخال برهوم الذي كان قاطع طريق في عشرينيات القرن الماضي، ثم تاب وصار يحرس المسافرين من قطاع الطرق. وبالطبع ستظهر العاهرة كاترين التي اعتدى باصوص عليها في غياب زوجها، فَنُبِذَتْ.

إذا كان راوي ثلاثية «بقايا صور» هو الفتى الذي يروي بضمير المتكلم ولا يحمل اسما، ففي الروايات السيرية الأخرى سيتقنّع الراوي الذي سيظل يروي بضمير المتكلم، باسم فاسم.

تلك هي رواية «النجوم تحاكم القمر» -1998، تقدم حوارًا «محاكمة» بين الكاتب الذي تقنّع باسم عناد الزكرتاوي وبين شخصيات روايات «المصابيح الزرق الشراع والعاصفة ثلاثية حكاية بحار الربيع والخريف فوق الجبل وتحت الثلج». وغير بعيد عن ذلك ما كان في رواية «الرجل الذي يكره نفسه» من حضور عناد الزكرتاوي، ومن حضور مدام نيلسون من رواية «المغامرة الأخيرة»، ومن حضور صالح حزوم وكاترين الحلوة من «حكاية بحار» في رواية «الرجل الذي يكره نفسه»، وهي الرواية التي جرّب فيها حنا مينه سبيلاً آخر ينادي كليلة ودمنة. فقد جاءت شخصيات الرواية في هيئة البومة والعنقاء والوطواط والسوسة، لتكون قنوات حوار الكاتب دعبس الفتفوت مع نفسه، وهو الذي يعاني الوسوسة القهرية والتناذر الفكري ويكره نفسه ويحاكمها بلسانه وبألسنة الحيوانات الأخرى. لكن «المحاضرات» تبهظ المحاكمة والرواية، وكأنما أرادها الكاتب لتكون إعلانا عن رؤيته للعالم في نهاية القرن العشرين. فدعبس يقر بسيادة منطق الشر في هذا الزمن، وبأنه ما عاد ممكنا سوى «التعامل مع الأحداث وتفحصها، والسعي لمعرفة الأسباب التي أدت إليها، وتدارك ما يمكن تداركه». والكاتب يأخذ بالحسبان المتغيرات التي كانت تنمو في رحم الممارسات السابقة، ويرى أن على البشرية أن تدفع ثمن أخطائها وجريرة غياب الحوار والنقد والنضال. ويتوج ذلك بالصمت احتجاجًا وقرفًا، وبالأسئلة الحائرة إزاء الجنون والهلوسة الضاربين في الذات وفي العالم.

المنفى

في روايات سيرية عديدة أخرى، تشتبك بعلامة السيرية علامة «المنفى» للعالم الروائي لحنا مينه، وهو ما اقتضى إفرادها في هذه الفقرة.

فإثر ملاحقة الشيوعيين في سورية، كما سبقت الإشارة، تخفى حنا مينه قبل أن يهرب إلى لبنان، ثم يتابع الفرار إلى الصين فالمجر. وقد بدأت استعادة الكاتب لتجربته في المنافي بروايته الثالثة «الثلج يأتي من النافذة» - 1969. وهنا ينبغي التنبّه إلى أن كل رواية من روايات حنا مينة الثلاث الأولى أعلنت علامة أساسية من علامات عالمه الروائي، ستتعزز من بعد في رواية فرواية، كما رأينا فيما سبق.

يهرب الكاتب فياض بطل «الثلج يأتي من النافذة» إلى لبنان بعد التخفي في الوطن، لكنه يضطر إلى التخفي في منفاه، لأن سلطة المنفى حليفة لسلطة الوطن. وفي المنفى واصل فياض «تعلّم» النضال على يد رفيقه ومعلمه الأول في الوطن «خليل» الذي سبقه إلى لبنان. ولعل الرواية في إلحاحها على أن يكون العامل الثوري معلما للتثقيف مما يتكرر في روايات أخرى للكاتب إنما يرجّع ما التبس بالشيوعية من الميكانيكية والسذاجة زمنا طويلا. والرواية ترسم فياض محبوبا دائما من المرأة شأن أبطال روايات حنا مينه جميعا لكنه متردد وجبان في الحب، ويصطنع الحواجز بين النضال والمرأة، لذلك يدير ظهرًا لمبادرة دينيز فتاة النافذة الرومانسية التي ستعطي للرواية عنوانها. وهذا المثقف الثوري الذي يعمل في مطعم ثم يعود إلى التخفي، يصر على العمل العضلي، رافضا العمل المكتبي أو الذهني أو الصحفي في تعبير فج عن سذاجة وميكانيكية الشيوعية، وهو المسكون كمعلمه خليل بالأصداء الدينية المسيحية.

في رواية المنفى الثالثة «الربيع والخريف» -1984، يصل بطلها إلى بودابست بعد خمس سنوات من منفاه في بكين. وهذا المنفيّ سوري عازب وروائي وأستاذ للأدب العربي في الجامعة على الرغم من أنه لا يحمل شهادة في سيرة حنا مينه، أنه حمل الشهادة الابتدائية عام 1936 ولم يتابع تعليمه ويلوب على النساء مهما عرف منهن. وهو نقاد لعورات النظام الاشتراكي، ويدعي التحرر من عقدة الذكورة الشرقية، لكن المغنية إيرجكا ومعها بيروشكا وماكدا من طالباته، يتهافتن عليه، في تجسيد بامتياز للتجنيس الحضاري. ولئن كان فياض في نهاية الرواية السابقة قد اختار العودة إلى الوطن لمتابعة النضال فيه، فكرم في هذه الرواية سيعود إلى سورية مدفوعًا بهزيمة 1967، حيث يعتقل في المطار.

وفي رواية المنفى الثالثة «فوق الجبل تحت الثلج» -1991، يفرّ البطل الشاعر والصحفي الكهل والعازم «مرّان الطوراني» من الحرب الأهلية اللبنانية إلى لندن، وهو الذي تعود جذوره إلى لواء (محافظة) إسكندرون، وهاجر أهله إلى لبنان بعد ضم اللواء إلى تركيا.

من لندن يحضر مرّان إلى بلغاريا في مهمة صحفية فكانت مغامرته مع بربارة، وكانت مغامرته في «العالم السفلي» حيث السوق السوداء والعصابات، فتعري الرواية النخر في البلد الاشتراكي على يد الطلاب العرب، وهذا ما سبق بعضه في رواية «الربيع والخريف».

أما ثلاثية المنفى السيرية لحنا مينه فهي «حدث في بيتاخو» التي حملت عنوان جزئها الأول الصادر عام 1955، بينما صدر الجزء الثاني «عروسة الموجة السوداء» عام 1996 والجزء الثالث «المغامرة الأخيرة» عام 1997. ولأن المقام لا يسمح بالتفصيل، حسبي الإشارة إلى الجزء الأخير، حيث الراوي زبيد الشجري كاتب عازب سوري منفي إلى مصيف بيتاخو الصيني. وهذا البطل لا يفتأ يخوض مغامرة فمغامرة فلا ترتوي نرجسيته، وبخاصة من أحضان النساء: الشابة والفنانة والمتقاعدة والفرنسية والانجليزية والصينية التي تخترق التعليمات الصارمة بمنع الحب أو الزواج من الأجانب، كرمى لزبيد.

يسوق زبيد الشجري في هوامش الرواية من حياة حنا مينه ما يؤكد السيرية، وأنه قناع للكاتب. وقد بدا زبيد في الرواية ذلك البوهيمي الدون جوان الذي يعمل في الترجمة من الصينية إلى العربية، ويقتني التحف. وهو دائما المختلف عن الآخرين والمقرع لنفسه والموسوم بالجنون كمن يدرن في فلكه. وزبيد أيضا هو الشيوعي السوري الانتقادي الذي ينقد الشمولية السوفييتية والكومونات الصينية وتبعية حزبه لموسكو، كما ينقد قيادة حزبه وموقفها المتشكك بالمثقفين. وقد تشرد زبيد في لبنان (لا ننس رواية: الثلج يأتي من النافذة) ونبذه حزبه عقابا على أفكاره الانتقادية، فأعانه على المضي إلى الصين صديقه الدكتور جورج حنا، شخصية لبنانية معروفة، وفي منفاه الجديد عزلته الفرقة الحزبية الشيوعية السورية، لكنه ظل ملتزما بالحزب، ومتشبثا بموقفه الاستقلالي، يقضي أوقاته بين البيت والمطعم، يترع الكونياك والقهوة، ويسوق المرأة إلى المهجع حيث تتعرى شعاراته التقدمية من بريقها، كما تتعرى عقده النرجسية السادية.

تشتبك علامة المنفى السيرية للعالم الروائي لحنا مينه بعلامة أخرى هي وعي الآخر. ففي روايات المنفى يبدو الآخر الاشتراكي ممجدا دوما وموضع انتقاد في الآن نفسه. وكما هو الأمر في ما عرف بالرواية العربية الحضارية، وهو ما أدعوه برواية وعي الذات والعالم، والتي ابتدأت منذ توفيق الحكيم بالتوجه إلى لندن وباريس، فإن المرأة الفرنسية أو الانجليزية أو الألمانية أو الأمريكية... وصولا إلى الصينية أو البلغارية أو المجرية... ظلت البؤرة التي يتركز فيها اللقاء الحضاري أو الصراع الحضاري، واستيعاء الآخر / العالم، وتعرية الذات واستيعاؤها. وهنا تبدو النساء الأجنبيات في روايات حنا مينه المعنية مثلما سبق في رواية «المغامرة الأخيرة». بل إن بعضهن يرددن العبارات عينها من رواية إلى رواية، لا فرق بين بيروشكا المجرية أو بربارة البلغارية أو تشين لاو الصينية، فكلهنّ يناشدن البطل الكاتب الفحل المنفيّ أن يكون عنيفا معهن ووحشا و... مثلما تفحّ شكيبة في رواية «الياطر» أو عزيزة في رواية «الدقل».

مقابل هذا الوعي الذكوري الشرقي للآخر، تعبر روايات أخرى لحنا مينه عن نقيضه، وبالطبع: تظل المرأة هي البؤرة. ففي رواية «الفم الكرزي» يتعلق الأمر بالأرمن، وبخاصة عبر شخصية بيرانيك الشيوعية التي قررت أخيرا أن تُؤْثر العودة إلى وطنها الأصلي أرمينيا على حبها للحبيب السوري. وفي رواية «الولاعة» يحضر الآخر الأرمني أيضا في شخصية فرح، كما يحضر الآخر التركماني في شخصية شكيبة في رواية «الياطر»، والآخر البرتغالي في شخصية ليديا في رواية «حمامة زرقاء فوق السحب» - 1988. فعبر هذه الروايات تضمر نسبة أعلى فأعلى فحولة الذات وذكوريتها الشرقية، وتحمل علامة الآخر في العالم الروائي للكاتب معاني التعددية والمساواة والتفاعل بين الأقليات والأكثرية في المجتمع السوري.

إذا كانت العلامات الخمس السابقة للعالم الروائي حنا مينه هي الأكبر، فله سواها كالفن في روايتي «الشمس في يوم غائم طويل» -1973، و«مأساة ديمتريو» غير أن هذا القول لا يستقيم دون الإشارة إلى ما غلب على تجربة حنا مينه الروائية من التقنية التقليدية، حتى ليمكن القول إنه قد حفظ للرواية التقليدية ألقها، بينما كانت الحداثة الروائية تطغى. وقد حاول الكاتب تطعيم تلك التقليدية أو الخروج عليها غير مرة. ففي ثلاثية «حدث في بيتاخو» جاء التطعيم في المزاوجة بين السرد واليوميات، وهذا ما حضر جزئيا في رواية «حمامة زرقاء فوق السحب» عبر ما تكتب الشابة المريضة رنا من يومياتها في المستشفى اللندني، بينما يتولى والدها اللاهث خلف ليديا البرتغالية، أغلب السرد. وفي هذا السياق يأتي إيثار الكاتب للحوار وتقليصه للسرد بعد روايته الأولى. وقد أعطت مهارة الكاتب للحوار الروائي طابعه المسرحي بامتياز، سواء بالاقتصاد اللغوي أو بانطباع الحوار بطابع الشخصية، أو بتوفيره للمعلومة وتطويره للصراع، وبلغ ذلك أقصاه في رواية «النجوم تحاكم القمر» حيث مضى الطموح إلى كتابة «المسراوية» والتنظير لهذا التوحيد بين المسرحية والرواية، في محاولة أكبر من الكاتب للتجريب والخروج من الإهاب التقليدي العام لرواياته.

لقد كان لروايات حنا مينه الأولى، مع روايات أخرى لغيره، فعلها العميق في نشأتي، حتى إذا صدرت روايتي الأولى «ينداح الطوفان» عام 1970 وكنت أعمل مدرّسا للغة العربية في الرقة وقيل لي إن حنا مينه أثنى على روايتك في برنامجه الإذاعي، دوّختني الفرحة والخوف، ورحت بهما أخاتل الشوق إلى لقاء هذا الكاتب الذي كان قد غدا علما شهيرا، ولم يفته أن يلتفت إلى كاتب جديد مجهول في عمله الأول.أليس هذا ما تتجدد به شكوى الطالعين من المكرّسين؟

بعد حين، لعله مساء من عام 1972، ستجمعنا حلب وكنت قد انتقلت إليها في أمسية قصصية. كان هو وزكريا تامر ووليد إخلاصي والمرحوم جورج سالم من نجومها، وشاركت فيها مع طالعين وسابقين كثر. وشرّفني حنا مينه إثر الأمسية في بيتي، وكانت رواية له تنشر مسلسلة في روز اليوسف لعلها «الشمس في يوم غائم»، وفي تلك الزيارة عبّرت زوجتي ربما بفجاجة عن أن ما قرأت من حلقات الرواية لم يعجبها، ولم يخف ارتباكي. على أن المهم أن حنا همس لي ونحن ننتظر على موقف الباص قبالة البيت: ليس للكاتب أن يأخذ برأي زوجته في شغله أو شغل غيره. ولعله نسي ذلك منذ ساعته، لكن الهمسة مازالت تدوّم فيّ، وإن كنت لم آخذ بها. ولقد أومأت لي منذ ساعتها أن حنا مينة يسعده الثناء، ويسيئه ضده، فهل هذا هو حقا شأن الكاتب عامة، حتى إن تظاهر باللامبالاة؟

لقد شيد حنا مينه عالمه الروائي بقدر أقل من التجريبية والحداثة الروائية، ولكن حسبه ما أبدع في التقنية التقليدية ليكون له هذا العالم الموّار بالبحارة والصيادين والعشاق والبغايا والمثقفين. وليس امتياز حنا مينه فقط في ما كان للبحر من ذلك، بل أيضا في ما يكاد أن يكون تأنيث العالم. ولكن، ولأنها الدراما البشرية التي أبدع حنا مينه في كتابتها، فقد اقترن ذلك التأنيث دوما بذكورة العالم في نبلها كما في انحطاطها.

نبيل سليمان مجلة العربي اغسطس 2007

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016