تتزايد الدلائل يوماً بعد يوم على وجود عدد كبير من الأطفال الذين يعانون من مخاوف غير طبيعية وتحتاج إلى المعالجة.
يغلب ألا ينتبه الأهل للمخاوف التي تنتاب الأطفال، أو أنهـم يغضّون الطرف عنها تاركين أولادهم تحت رحمة مشاعر الضيق والتوتر تنخر حياتهم بصمت وتنعكس على إحساسهم بالتوعك الجسدي، أو على شكل سلوكيات معينة كقضم الأظفار أو مص الأصابع أو رف الأعين المستمر، وعلى الرغم من أن المخاوف في سن الطفولة تلعب دوراً كبيراً، فإنها تحقق في الوقت نفسه وظيفة حماية مهمة، وبالتالي لا يحقق كل شكل من أشكال الخوف في سن الطفولة المعايير التشخيصية للاضطراب بدقة إلا فيما ندر، الأمر الذي يصعب عملية الملاحظة والتشخيص للوهلة الأولى.
وتشير دراسات أجريت في معهد التحليل النفسي والعلاج النفسي في هامبورغ بألمانيا إلى أن حوالي 40% من الأطفال الذين يراجعون العيادات يعانون من أعراض القلق والعدوانية، وفي ألمانيا بشكل عام، يعاني حوالي 15% من الأطفال في سن المرحلة الابتدائية و10% من اليافعين من اضطرابات القلق و10% تقريباً من الرهابات (الخوف المرضي من موضوع محدد) وحوالي 6% من قلق الانفصال والخوف من المدرسة والامتناع عن الذهاب إليها، ولا تختلف النسب كثيراً في بقية دول العالم. وتشير خبراتنا العيادية إلى انتشار المخاوف لدى الأطفال العرب بنسب لا بأس بها مع غياب الدراسات الواسعة في هذا المجال، والتي يمكن أن تقدم لنا صورة أفضل حول مدى الانتشار.
قلق الانفصال واضطراب الاتصال
ومن أكثر المخاوف شيوعاً عند الأطفال، قلق الانفصال واضطرابات تجنّب الاتصال، واضطرابات فرط القلق بالإضافة إلى طائفة أخرى من اضطرابات القلق التي تلاحظ عند الكبار والصغار على حد سواء كالرهابات واضطرابات الإرهاق ما بعد الصدمة واضطرابات القلق المعمم.
ولا نطلق في الواقع على كل المخاوف صفة الاضطراب إلا إذا ظهرت الأغراض بشكل متكرر أكثر من المألوف وبصورة مستمرة، وتتجلى أعراض اضطرابات القلق عند الأطفال بشكل خاص من خلال مجموعة من المظاهر الجسدية كالغثيان والإقياء والدوار "أو الدوخة"، وتسرع القلب وآلام البطن أو الصداع أو الإسهال، وغالبا ما يكمن خلف هذه الأعراض شكل من أشكال اضطرابات القلق أو سلوك عدواني أو انطوائي، وذلك حسب الجنس، فالصبيان يبدون سلوكاً عدوانياً، في حين أن البنات يبدين سلوكاً مصبوغاً بالخجل المفرط "واكتئابياً، وعلى الرغم من تكرار ظهور هذه الأغراض، فإنه قلما ينتبه الأطباء إليهـا كإشارة إلى أعراض القلق والخوف أو قلما يفسّرونها على خلفية إمكان وجود تضرر نفسي لدى الطفل ينعكس من خلال هذه الأعراض، ويسيرون باتجاه البحث العضوي عن السبب واصفين أدوية متنوعة لا تخلو في كثير من الأحيان من الأضرار الجانبية، وغالباً ما يتجاهل الأهل هذه الأعراض أو لا يتعرّفون إليها على أنها إشارات على وجود معاناة نفسية لدى طفلهم، ويعيقون بالتالي إمكان التدخل العلاجي المبكّر. وتشير الدراسات النفسية والخبرات العيادية إلى أن الأهل غالباً ما يستمرون لأكثر من سنتين في تجاهل خوف طفلهم من المدرسة- مثلاً- ويبدلونها له أكثر من مرة أو يراجعون أطباء مختلفين ليكتبوا لهم تقارير طبية من أجل إعفاء ابنهم من الذهاب المنتظم إلى المدرسة.
وهنا علينا التفريق بين الخوف من المدرسة وقلق المدرسة، فقلق المدرسة يقوم على الامتناع عن الذهاب إلى المدرسة بسبب الخوف من عدم الحصول على علامة جيدة في المذاكرات أو الخوف من المعلم أو المعلمة أو بسبب وجود مشكلات مع الزملاء، ومن السهل معالجة مثل هذا النوع من القلق بسبب إمكان تحديد ما يوثّر الطفل ويسبب له القلق، أما في حال الخوف من المدرسة، فإن المثيرات التي تسبب الخوف غالباً ما تكون موجودة خارج المجال المدرسي، وهو غالباً ما يظهر في سن المرحلتين الإعدادية والثانوية لدى يافعين ذوي تحصيل وعلامات جيدة في المدرسة وعلاقات اجتماعية عادية، وعلى الرغم من ذلك، فإن مجرد رؤية المدرسة أو المرور بقربها أو حتى أحياناً ذكرنا كفيل بجعلهم يتجمّدون من الخوف، وتظهر عليهم علائم اكتئابية مع شعور بصداع ودوار وألم في البطن وخفقان في القلب.
وعندما يلاحظ الأهل ذلك، فإن التدخل غالباً ما يكون صعباً بسبب تشابك وتداخل كثير من العوامل منها ضغط الإنجاز والتحصيل الذي يمارسه الأهل على الطفل ونقل طموحات الأهل اللاشعورية إلى الطفل الذي يرى فيه الأهل مجسّداً لكل أمنياتهم التي عجزوا عن تحقيقهاً بالإضافة إلى عوامل أخرى كثيرة.
وفي الواقع، فإن اضطرابات القلق عنده الأطفال غالباً ما تؤدي وظيفة معينة ضمن منظومة الأسرة، فالدلائل تشير إلى أن الأطفال مفرطي القلق غالباً ما يعاني أهلهم من فرط القلق والمبالغة في الرعاية، فالأمهات اللواتي يمتنعن عن إرسال الطفل إلى المدرسة عند أقل إحساس يالتوعك بسبب خوفهن (اللا شعوري غالبا) من البقاء بمفردهن، والوالدان اللذان يستخدمان الطفل وسيلة حماية عند وجود نزاعات أسرية، ويثيران بالتالي مخاوف الفقدان والانفصال عند الطفل، وكذلك اللذان يبالغان في تقدير علائم الآلام الجسدية، أو يمنعان ولدهما من ممارسة أي نوع من الألعاب التي يمكن أن تكون خطيرة ويحرمانه بالتالي من فرصة سبر قوته الذاتية، كل هؤلاء يعانون من شكل من أشكال القلق والمخاوف "اللاشعورية" ويستخدمون الطفل "لا شعوريا" من أجل تحقيق نوع من الاستقرار والتوازن في منظومة الأسرة، ويمهّدون الطريق لنمر اضطرابات القلق عند أطفالهم التي تقوم بدورها من خلال الانشغال المتزايد بالطفل المضطرب وتخفيف حدة مشاعر القلق والمخاوف الذاتية عند الوالدين، فمخاوف الأطفال من هذه الناحية انعكاس لمخاوف الوالدين.
معايير التشخيص
من أجل تشخيص قلق الانفصال عند الأطفال لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن الاضطراب (قلق الانفصال) لا يشخص إلا إذا ظهرت علائم الاضطراب في السنوات الأولى من العمر، وتحدد منظمة الصحة العالمية في دليلها العاشر للتصنيف العالمي للاضطرابات النفسية مجموعة من المعايير التشخيصية لقلق الانفصال عند الأطفال تتمثل في:
- انشغال أو قلق غير واقعي حول إمكان أن يصاب أحد الوالدين أو من يقوم مقامهما بمكرره أو الخوف من أن يذهب دون رجعة.
- انشغال أو قلق غير واقعي بحصول حادث مشئوم يفصل الطفل عن والديه أو من يحل محلهما، كالخوف- مثلاً- من الضياع أو الخطف أو القتل أو الدخول إلى المستشفى.
- النفور من / أو الرفض المستمر للذهاب إلى المدرسة الناجم عن الخوف من الانفصال عن الوالدين (أكثر من الخوف لأسباب أخرى كالخوف من الأحداث في المدرسة).
- النفور من/ أو الرفض المستمر للذهاب إلى السرير دون مرافقة أحد الوالدين أو من يقوم مقامهما أو دون البقاء بقربه وملازمته.
- الخوف المستمر وغير المناسب من البقاء في المنزل أثناء النهار دون وجود أحد الوالدين أو من يقوم مقامهما.
- كوابيس متكررة حول الانفصال.
- الظهور المتكرر للأعراض الجسدية ( كالغثيان أو آلام البطن أو الصداع أو الإقياء) عند الانفصال عن أحد الوالدين أو من يقوم مقامهما (عند مغادرة المنزل إلى المدرسة مثلا).
- تعاسة متكررة بشكل متطرف (القلق أو الصراخ أو نوبات من الغضب أو برودة المشاعر (اللا مبالاة) أو الانسحاب الاجتماعي) أثناء انتظار أحد الوالدين أو من يقوم مقامهما أو أثناء أو بعد الانفصال مباشرة.
متى تكون المعالجة لازمة؟
في البدء، لا بد من اختبار مدى التضرر الحاصل في النمو السوي للطفل من جراء معاناته، ويمكن للتضرر أن يظهر في قدرة الطفل على الاتصال والتواصل مع الأطفال الآخرين أو في عجز الطفل عن مواجهة الراشدين أو من خلال الصعوبات المدرسية.
ولا بد هنا من الأخذ بعين الاعتبار إمكان مبالغة الأهل في تقديرهم لمخاوف أطفالهم، وإمكان أن تكون معايير الوالدين عالية إلى حد ما (مثل هذه المعايير العالية يمكن أن تتمثل في طموحات الكمال لدى الأهل والضغط على الطفل باتجاه الحصول على علامات عالية باستمرار في المدرسة...إلخ)، وبشكل عام، لا بد من المعالجة عندما يتم إثبات وجود انحراف عن المعيار، وعندما يشعر الأهل أن نمو طفلهم لا يسير بالشكل الصحيح.
ولا يقتصر العلاج على الطفل وحده، بل لا بد مشاركة الوالدين أو من يقوم مقامهما في المعالجة. وخصوصاً لدى الأطفال الصغار في السن، وتشير الدراسات النفسية في هذا المجال إلى أن الوالدين غالباً ما يمتلكان مخاوف شبيهة بمخاوف أطفالهم، حيث يمكن أن يتعلم الطفل الخوف بالنيابة أو عن طريق النموذج، وهنا لا بد من إشراك الوالدين في العلاج، هذا بالإضافة إلى أن التدخل في المحيط عن طريق إعادة تصميم البيئة (المادية والاجتماعية)، الذي يتمثل في محاولة إقناع الوالدين بالتخلي عن مطالب الكمال الوهمية، فيما يتعلق بإنجاز الطفل وتحصيله، أو بالكهف عن استخدام الطفل وسيلة ابتزاز في المشكلات الأسرية أو بجعل المخاوف اللاشعورية للأهل مدركة، يمكن أن يقدم مساعدة غير مباشرة للطفل في فهم مخاوفه وعلاجها، وبشكل عام، مازال هناك نقص كبير في الطرق العلاجية الخاصة بالأطفال المدعمة علمياً، مع وجود طرق علاجية ذات فاعلية، وبشكل خاص العلاج باللعب غير الموجّه والتوليف بين أشكال من المعالجة السلوكية وعلم نفس الأعماق.