ككل شعور إنساني، تظل الغيرة أمرا طبيعيا إذا لم تتجاوز الحد، فإذا تجاوزته صارت عنصر تدمير يصعب التنبؤ بحدوده. كان المشهد مروعا ..
فتح الزوج باب بيته في عنف وهو يصرخ في هيستيريا. حاملا في يده سكينا تقطر دما:
لم أقتلها .. لكن عطيل هو القاتل!
وتجمع الجيران ليكتشفوا أن الرجل الذي كان في الثامنة والثلاثين من عمره قد ذبح زوجته مثل الشاة، بعد زواج استمر عشر سنوات أسفر عن ثلاثة أبناء!
وعندما حضر رجال الشرطة ليلقوا القبض على الزوج ظل يردد نفس الكلمة: عطيل.. هو الذي قتل زوجتي!
ولم يجد المحقق صعوبة في أن يكتشف أن الزوج القاتل مريض بحالة نفسية. وهو ما أكده الطبيب النفسي عندما أحيل الزوج إلى المستشفى لملاحظة قواه العقلية والنفسية أثناء التحقيق معه.
والحق أن الرجل لم يكن يكذب!
فقد كان عطيل بالفعل هو القاتل. وإن كان الزوج باعترافه هو الذي ذبح زوجته. وكانت الغيرة هي الدافع لارتكابه جريمته البشعة. هذه الغيرة التي شبهها إياجو في رائعة شكسبير عطيل بأنها: "وحش له عينان خضراوان تنهش اللحم بسخرية. إن الزوج الذي لا يحب زوجته ثم يعلم أنها خدعته لا يحزن كثيرا. ولكن الحزن والبؤس يغمران الرجل الذي يحب زوجته ثم يقع فريسة للظنون!
إنها الغيرة القاتلة أو ما يعرفه علماء النفس بـ"مرض عطيل"، والتي تكون سببا لكثير من جرائم العنف والقتل في أيامنا هذه.
الغيرة أنواع
ولكن ما هي الغيرة ؟
في دراسة علمية مثيرة يقول الدكتور حسن الشربيني جمعة أخصائي الطب النفسي والعصبي وخبير الطب النفسي الشرعي : الغيرة عاطفة يمكن أن تنشأ عندما يشعر المصاب بها، بالاعتقاد أو بالشك أو بالخوف . بأن الشخص الذي يحبه ويحتاج إليه ويرغبه لنفسه، قد أخذ أو على وشك أن يؤخذ منه بواسطة شخص آخر.
"الغيرة" .. عاطفة تحدث لأي إنسان في وقت ما من حياته. ومثل هذه الغيرة العادية يمكن أن تمتد إلى حب التملك الشديد للشريك. ويمكن أن تصل في بعض الأحيان إلى غيرة مرضية أو ما يسمى بالغيرة الذهانية الضلالية. وفي هذه الحالة يعتقد المصاب بالغيرة اعتقادا راسخا ليس مبنيا على أي دليل معقول ولا متماشيا مع المنطق وتسلسل الأحداث. أن شريكه أو شريكته يخونه مع إنسان آخر. وتصبح الفكرة الأساسية الطاغية على تفكير المريض هي الانشغال التام بخيانة شريكه. ويصاحب ذلك كرب وضيق شديدان.
ثم يتطور الأمر.. ويبدأ المريض في جمع الأدلة التي تؤيد اعتقاده وشكوكه. فالأحداث اليومية وحتى هفوات اللسان ومقابلة شخص بالمصادفة وغيرها تكون لها معان أخرى في عقل المريض. فإذا عاد إلى البيت ووجد زوجته سعيدة فلا بد أنها تلقت مكالمة من حبيبها المجهول، وإذا وجدها حزينة فلأن ضميرها يؤنبها على ما فعلته في غياب الزوج!
وتتسع أوهام المريض. فيظن أن زوجته تضع له السم في طعامه. أو أنها تخونه أثناء نومه!
ويتحول الزوج إلى كتلة متحركة من الشكوك. فيبدأ في جنون البحث عن دليل لإدانة زوجته. فيفتش في ملابسها وحقيبتها وأوراقها. ويقوم باستجوابها كمتهمة. وقد يؤدي ضغطه على الزوجة البريئة اليائسة إلى تحريضها على الاعتراف الكاذب. فيؤكد لها أن هذا هو السبيل الوحيد لراحته. وإذا استسلمت واعترفت اعترافا كاذبا. فإن ذلك يفجر لديه براكين الغضب والعنف والانتقام!
الزوج المكتئب
لكن ما هي أنواع الغيرة؟ وما أسبابها؟
يقول الدكتور حسن الشربيني: إن الغيرة يمكن أن تقسم إلى ثلاثة أنواع. غيرة عادية، وغيرة عصابية، وغيرة ذهانية. ولقد كشفت الأبحاث أن أهم أسباب الغيرة الاضطراب العقلي الذي يشمل الفصام الضلالي والبارانويا ويحدث الاضطراب الضلالي غالبا في السن المتأخرة، ثم الاكتئاب وخاصة الاكتئاب الدوري والأمراض العصابية واضطراب الشخصية وإدمان الكحول وأخيرا بعض الأمراض العضوية مثل الاضطرابات المخية والتهابات المخ وأورامه وأمراض الغدد الصماء.
هل يعني ذلك أن الزوج المكتئب يكون أقرب للإصابة بالغيرة؟
الوهم المرضي الضلالي بخيانة الزوجة يمكن أن يكون العلامة المرضية للاضطراب العقلي. وفي أحيان أخرى تظهر شخصية الزوج متى شك ولا تظهر عليها أعراض عقلية أخرى. وهو ما يسمى بمرض ذهان الغيرة أو مرض عطيل. وفي حالة الزوج الذي ذبح زوجته فإن ذلك قد حدث بعد فشله عدة مرات في معاشرتها. فتخيل أنها تخونه. وفي بعض الأحيان تكون الغيرة المرضية جزءا من مرض الاكتئاب وخاصة ما يسمى الاكتئاب الداخلي. وهناك حالة لزوج في الأربعين أصيب بالاكتئاب من كثرة زيارة رئيسه في العمل له في المنزل، فتخيل أن زوجته على علاقة به. وهناك حالة أخرى لزوجة في العقد الخامس من عمرها كانت تعاني من الاكتئاب، مما جعلها تعتقد اعتقادا راسخا بخيانة زوجها لها. لكن بعد علاجها من الاكتئاب زالت أعراض الغيرة عنها. والغريب أن الغيرة نفسها تؤدي إلى الاكتئاب!
الإدمان والغيرة
المؤكد أن هناك علاقة بين الكحول والغيرة. يقول الدكتور حسن الشربيني : إنها علاقة عرفت منذ زمن طويل. ولقد شرح أحد الباحثين في القرن التاسع عشر كيفية حدوث الغيرة في حالة مدمن الكحول الذي يشعر بالغيرة عندما يكون ثملا فقط، ثم تتطور بعد ذلك وتصبح مستمرة، ويأخذ في اتهام زوجته بالخيانة مع الجيران والأقارب، ويحاول أن يستخلص منها اعترافا ويعاملها بقسوة شديدة تهدد حياتها.
كما أن الإدمان على مواد أخرى مثل الكوكايين والأمفتامين من الأسباب المؤدية للغيرة. وغالبا ما تظهر في الحالات بسرعة وبشدة وتؤدي للعنف.
والمرضى أيضا أقرب الناس للإصابة بالغيرة!
هكذا يؤكد البحث المثير أن الغيرة يمكن أن تصيب مرضى الالتهابات المخية وأورام المخ والمصابين بعته الشيخوخة والزهايمر وبعض حالات التسمم بالرصاص.
هل هناك ملامح شخصية "للشخص الغيور"؟
نعم .. شخصية الشخص الغيور تتسم بالإحساس العام بالنقص وضعف القدرة والكفاءة والاعتقاد بأن المحيطين به أكثر رجولة منه، كما أنه يكون مصابا بالحساسية المفرطة والتشكك. ويوجد تضارب كبير بين طموحاته وإنجازاته الفعلية، مما يجعله عرضة لفقدان مركزه، ويكون دائم إسقاط اللوم على الآخرين.
وفي نفس الوقت فإن أبحاث شفيرد تؤكد أن نصف حالاته من الرجال قد أصبحوا غيورين قبل نهاية العام الأول من الزواج. بينما ادعى البعض أن الغيرة المرضية يمكن أن تحدث كعرض وحيد عند متقدمي العمر لاضمحلال قواهم الجسدية. لكن المرجح أنهم في مثل هذه الحالات يعانون من اضطراب عضوي بالمخ. وليس تقدم العمر في حد ذاته هو المسئول عن حدوث الغيرة!
ويضيف الدكتور حسن الشربيني: أكد بعض الباحثين أهمية الفارق في السن بين الأزواج في حدوث الغيرة، خاصة إذا كان الزوج يكبر زوجته بسن كبيرة، لكن الأبحاث الإحصائية لم تؤكد ذلك بشكل قاطع. والعوامل البيئية لها دور في الإصابة بالغيرة المرضية، فقد زادت نسبتها مثلا في بريطانيا بعد الحرب وفي هولندا بعد فترة الكساد الاقتصادي.
ماذا تفعل الغيرة في الزواج؟
الغيرة المرضية تأثيرها مدمر لأنها من الأسباب القوية لفشل الزواج وتسميم الحياة الزوجية. وجعلها مليئة بالتعاسة للزوجين. إن غيرة الزوج يمكن أن تحول حياة الزوجة إلى جحيم لا يطاق. فيقوم بالحد من حياتها الاجتماعية ويجعلها سجينة في البيت. وفي بعض الحالات انتهى الأمر بأن حاول الزوجان الانتحار.
طرق العلاج
في النهاية...هل هناك علاج لهذه الغيرة المدمرة؟
لأن أسباب الغيرة متعددة يجب عمل فحص شامل للمريض بها. وعادة فإن الطبيب يبدأ بسؤال الشريك الذي يمكن أن يقدم صورة واضحة عن معتقدات شريكه المريض. ويشمل الفحص الاستفسار عن استخدام العنف وشدة الإصابات وتاريخ الزواج. ليحدد الفحص أي مرض نفسي أو عقلي مسبب للغيرة. ثم وضع خطة علاج للمرض المسبب للغيرة إذا كان عضويا. فإذا كان المريض بالغيرة أصلا مصابا بالاكتئاب، يتم علاج الاكتئاب بالأدوية أو الصدمات الكهربائية. وإذا كان مدمنا للكحول فلا بد من علاج إدمانه. وبالإضافة إلى العلاج الدوائي لا بد من العلاج النفسي في صورة جلسات نفسية. وفي حالة فشل العلاج عن طريق عيادة الطبيب. يصبح دخول المستشفى ضروريا.