تستمد هذه اللوحة أهميتها الاستثنائية في تاريخ الفن من تاريخ رسمها: العام 1500م، ومن المكان: مدينة نورمبرج الألمانية. فقد ولد البريخت دورير العام 1471، لأب مجري هاجر إلى نورمبرج للعمل في صياغة المعادن الثمينة. وكان الأب يطمح إلى أن يتولى الابن العمل نفسه، غير أن مواهب البريخت في فن الرسم ظهرت باكرًا جدًا عندما رسم إحدى صوره الذاتية حفرًا على الفضة، وهو في سن الثالثة عشرة. درس دورير فن الرسم في أكثر من مكان، وتوسعت ثقافته لتشمل الرياضيات والجغرافيا والهندسة المعمارية والفلسفة وصولاً إلى «حركة الإصلاح الديني» التي قامت في أوربا آنذاك. ووضع بعض المؤلفات في الهندسة، وبناء التحصينات، والنسبة. وترك كمية كبيرة من المدونات حول نظريته في الفن... أي أنه كان واحدًا من الموسوعيين في عصره، والفنان الأول على الإطلاق شمال جبال الألب، الذي عمل وفق روحية النهضة الإيطالية.
وفي خريف العام 1494، سافر دورير إلى إيطاليا (بادوا والبندقية على الأرجح) وبقي هناك حتى ربيع العام التالي، وعاد إلى إيطاليا بعد ذلك بنحو عشر سنوات، ولكنه كان قد أصبح في ذروة شهرته آنذاك.
تعرّف دورير على كبار رسامي عصره، وتبادل الرسوم والرسائل مع رافائيل، وارتبط بصداقات مع نخبة من المثقفين المنتمين إلى طبقة أعلى من الطبقات التي كانت تحيط عادة بزملائه في المهنة. ومن هذا المحيط أطلق دورير شرارة النهضة الفنية بمفهومها الإيطالي في البلاد الجرمانية.
في صورته الذاتية هذه، نرى كل الآثار الإيطالية للمرة الأولى في ألمانيا. خطوط وجه لا تكتفي بالتصوير الأمين للأصل، بل تسعى إلى إظهار الأعماق الشخصية لصاحبها، عبر قولبة التقاطيع والتقاسيم باعتماد التدرج اللوني اللطيف مابين الضوء والظل. ودقة تصويرية أخاذة في رسم الفرو (المادة التي برع في رسمها صديقه رافائيل)، ورمزية إبراز اليد والأصابع الطويلة في المقدمة، إنها أصابع رجل يعمل بيده ولأصابعه قيمة رئيسة في حياته، أما الوضعية بشكل عام، فتعيد إلى الأذهان وضعية الشخصيات التي رسمها آنذاك جيوفاني بيلليني، حتى في الخلفيات الداكنة التي تحيط بها، وتساعد على إبراز الوجه الذي يبدو منتزعًا من محيطه.
لم يكثر دورير إجمالاً لا في هذه اللوحة ولا في غيرها، من استخدام الألوان المتعددة، فنراه هنا يعتمد اللون البني بدرجاته المتفاوتة من الأصفر إلى الأسود، أي ما يكفي للتعبير. ويمكننا أن نفهم السبب عندما نعرف أن الرسم بطريقة الحفر كان من اهتماماته الرئيسة، فقد كان بموهبته الفذة قادرًا على أن يدلي بخطابه كاملاً من خلال الخط واللون الواحد. ومن المرجح أن هذه الموهبة قد نمت عنده منذ أيام الطفولة، عندما كان يعمل مع والده في صناعة الأواني الذهبية والفضية وزخرفتها.
ولذا، عندما توفي دورير في العام 1528، ترك وراءه مجموعة من اللوحات والرسوم ذات تنوع يستحيل حصره، تبدأ بالصور الشخصية وتمر بالمواضيع الدينية والأسطورية، لتصل إلى منمنمات الزهور والطبيعة الصامتة.