في الذكرى الماسية - أو الخامسة والسبعين - لعقد أول مؤتمر للموسيقى العربية، شهدت القاهرة احتفالية موسيقية ضخمة شاركت فيها معظم الدول العربية. ولكن، ماذا عن المؤتمر الأول؟
حين يتأمل المرء وقائع مؤتمر الموسيقى العربية الأول الذي انعقد حفل افتتاحه في صباح الاثنين الثامن والعشرين من مارس، وانعقد حفل اختتامه في الثالث من أبريل سنة 1932 يشعر بالفرحة والفخر والأسى والأمل. الفرحة والفخر بما كنا نملك، وما كنا عليه، وما وصلنا إلى تحقيقه على أيدي رواد عظام، يندر أن يجود الزمان بمثلهم، والأسى لما أصبحنا عليه، ولما أصبحت عليه ذاكرتنا الوطنية والقومية، التي نسيت، أو أُنسيت، ما سبق لها أن فرحت به، وفرحت بحضوره، ويزيد الأسى حين يقارن المرء بين ما كنا عليه وصرنا إليه، وذلك في حال من الانحدار المتواصل. أما الأمل فهو أن يصل هذا الانحدار إلى قرارة القرار من زمنه الدائري، فلا يبقى أمامه سوى أن يستدير صاعدًا، لا على سبيل الإضافة إلى ما مضى فحسب، وإنما على سبيل الانطلاق مما سبق تحققه إلى ما هو أبعد منه وأجمل.
هذا ما شعرت به وأنا ألقي كلمة الافتتاح لمؤتمر الموسيقى العربية الكبير الذي احتفل. هذا العام، باليوبيل الماسي لانعقاد المؤتمر الأول الذي انعقد منذ خمسة وسبعين عامًا بالتمام والكمال. وقد أقام المجمع الموسيقي العربي الاحتفال الذي رعاه عمرو موسى، الأمين العام لجامعة الدول العربية، بوصف المجمع مؤسسة من المؤسسات الثقافية التابعة للجامعة العربية، وهي مؤسسة نشطة بفضل جهود رئيستها الدكتورة رتيبة الحفني المختصة في تاريخ الموسيقى العربية وتقنيات تغيرها، وهي ابنة المرحوم محمود الحفني (1895 - 1973) الذي تدين له الموسيقى في العالم العربي، بوصفه الرائد الذي حصل على أولى درجات الدكتوراه فيها من برلين، والذي عمل جاهدًا لانعقاد مؤتمر الموسيقى العربية الأول الذي كان سكرتيره. كما كان مفتّشًا للموسيقى بوزارة المعارف العمومية، وقت انعقاد المؤتمر. وقام بإعداد الكتاب التذكاري الذي يقوم بالتوثيق الكامل للمؤتمر، في مجلد ضخم أصدرته المطبعة الأميرية بالقاهرة سنة 1933 في حوالي خمسمائة صفحة من القطع الكبير. وتولى المجلس الأعلى للثقافة إعادة طبع هذا المجلد، إحياء لذكرى الرواد الذين تدين لهم الموسيقى العربية بالفضل سواء في درسها أو تحقيق مخطوطاتها أو التأريخ لها، فضلاً عن الإعداد لأول مؤتمر عالمي حولها. وقد استجاب الملك فؤاد الأول (1868 - 1936) الذي تولى حكم مصر خلفًا لأخيه السلطان حسين كامل سنة 1917، واتخذ لقب الملك سنة 1922. وقد أنشئ في أيامه مجمع اللغة العربية في مصر والنادي الشرقي للموسيقى العربية الذي افتتحه سنة 1923. ضمن المؤسسات الثقافية العديدة والمؤثرة، التي ساعدت هذا الملك المستنير (رغم حكمه الاستبدادي) في إنشائها، استكمالاً لحلم والده الخديو إسماعيل (1830 - 1895) الذي لم يكن حلمه بتحويل مصر إلى قطعة من أوربا قد مات بعد، فمضى في سبيل إكماله الملك فؤاد الذي تولى رئاسة الجمعية الأهلية للجامعة المصرية، حين كان أميرًا، ووافق على تحويلها من جامعة أهلية إلى جامعة حكومية، يتوافر لها الدعم المالي والاقتصادي والسياسي، حين أصبح ملكًا على مصر، وكان ذلك سنة 1925، بعد ثلاث سنوات فحسب من إنشاء المقر الفخم الجميل لمبنى نادي الموسيقى الشرقية الذي أمر ببنائه على ناصية تواجه ميدانًا في شارع الملكة نازلي، وظلت مدينة القاهرة تنمو، وتتضخم تضخمًا مخيفًا، فانتهى الأمر بالنادي الذي سرعان ما تحول اسمه إلى «المعهد الملكي للموسيقى العربية»، كما تحول موقعه الذي بقي على حاله بعيدًا عن ميدان مزدحم، وفي شارع فرعي أقل ازدحامًا.
وقد آثر «المجمع الموسيقي العربي» إقامة احتفاله بالعيد الماسي للمؤتمر الأول للموسيقى العربية في المبنى نفسه الذي أقيم فيه المؤتمر، وكانت وزارة الثقافة قد فرغت منذ عامين تقريبًا من تجديده، وإعادته إلى صورته الأولى، فأصبح فتنة للناظرين، خصوصًا من حيث هو نموذج لفن العمارة الإسلامية بزخارفها الرائعة، ومبانيها الشامخة. وقد انعقد المؤتمر الجديد (مارس 2007) في القاعة نفسها، التي انعقد فيها سلفه الأول منذ خمس وسبعين سنة، وفي المبنى نفسه الذي استعاد رونقه القديم وجمالياته البديعة.
وثيقة نادرة
وقد توجهت إلى حفل الافتتاح بعد أن سهرت طوال الليل في كتاب «مؤتمر الموسيقى العربية» الذي جعل منه الدكتور الحفني - رحمه الله وجازاه خير الجزاء - وثيقة نادرة في شمولها، غنية بمعلوماتها التفصيلية، التي شملت كل شيء، ابتداء من أسماء المشاركين العرب والأجانب، مرورًا بلجنتي التنظيم والإعداد، وانتهاء بعدد ضخم من الصور التذكارية عن المعهد نفسه، وعن الجماعات البشرية، التي أقبلت من كل صوب وحدب، وعندما جاء دوري في الكلام، كي ألقي كلمة وزارة الثقافة، وجدت نفسي - دون أن أشعر - أتطلع إلى روعة البناء المعماري وزخارفه البديعة، وإلى وجوه المدعوين والمدعوات من العرب والأجانب الذين جاءوا للاحتفال بالعيد الماسي للمؤتمر الأول، وقراءة الأبحاث والتقارير، التي انكتبت له، والتي حفظها لنا المرحوم الحفني، وابتدأت كلمتي بأنني أشعر بالفخر وأنا أقف في المكان الذي وقف فيه رائد من أسلافي العظام منذ خمسة وسبعين عامًا. وذلك بوصفي مصريًا أولاً، وعربيًا ثانيًا، ومواطنًا أنتسب إلى الحضارة الإنسانية ثالثًا، فهي صفات تتجاوب وتتحدد بها هويتي الثقافية، التي يتفاعل فيها الوطني (القطري) والقومي والإنساني.
ومن هذا المنظور، فإنني رأيت في انعقاد المؤتمر ثلاث دلالات أساسية: الدلالة الأولى وطنية والثانية قومية، والثالثة إنسانية. وكما أنه لا تناقض ولا تعارض بين الأبعاد الثلاثة التي تتكون منها هويتي الحضارية، سواء في عمق جذورها أو انفتاح أفرعها وأغصانها على العالم كله، فإنه لا تضاد بين الدلالات الثلاث، التي تستحق كل واحدة منها وقفة خاصة.
دلالة وطنية
أما الدلالة الوطنية فتتمثل في سياقات تاريخ إنشاء مبنى «نادي الموسيقى العربية»، الذي تحول اسمه إلى «معهد الموسيقى العربية» بعد سنوات عدة من إنشائه، وترجع هذه البدايات إلى سنة 1913، حين أنشأ مصطفى بك طلبة تجمّعًا ضم أصدقاءه من محبي هذه الموسيقى، يلتقي بهم في إحدى غرف قصره سنة 1913. وبعد أن ضاقت بهم هذه الغرفة انتقلوا منها إلى غيرها من القاعات الواسعة التي رأوها صالحة للغرض. وذلك بهدف رعاية الموسيقى العربية والحفاظ على تراثها. ومضت سنوات من العمل الحماسي الذي قاد إلى تأسيس ناد للموسيقى الشرقية سنة 1914 برئاسة الراعي الأول مصطفى طلبة، وكان النادي الخطوة الأولى لإنشاء الجمعية التي استمر نشاطها الحماسي إلى أن حصلت على دعم من الملك فؤاد الذي منحها سنة 1921 قطعة الأرض التي بنت عليها - بعد عون الملك وكبار رجال الخير من المتطوعين المحبين للموسيقى - نادي الموسيقى الشرقية، في مبنى يليق بمسماه وتاريخه، ووضع الملك فؤاد حجر الأساس للمبنى سنة 1923، واستمر البناء سنوات إلى أن اكتمل، وتم افتتاحه رسميًا سنة 1929، وكان الافتتاح مهيبًا كالمبنى نفسه، والهدف الذي خصص من أجله، ولم يكن من قبيل المصادفة أن يضع الملك حجر أساس المبنى الجديد في العام نفسه الذي صدر فيه دستور 1923، أفضل الدساتير المصرية وأكثرها تمثيلاً للروح الليبرالية التحررية الأصيلة، التي أنضجتها ثورة 1919، التي أدت إلى صحوة الذات الوطنية، وتصاعد الشعور الكاسح الذي كان وقود ثورة 1919، ونزوعها الجذري التحرري الذي أدى إلى خروج المرأة المصرية وقيامها بمظاهراتها الشهيرة سنة 1919 بزعامة هدى شعراوي زوجة علي شعراوي الذي نفاه الإنجليز وأقرانه مع سعد زغلول الذي أصبح زعيم الأمة دون منازع، ونبضها الحي في سعيها إلى المطالبة بالاستقلال التام أو الموت الزؤام. وتصاعدت أحداث الثورة، التي شملت كل القطاعات والفئات والطوائف، التي ثارت لنفي سعد ورفاقه. مؤكدة أن سعد وأقرانه منها في تمثيلهم لها، والأمة كلها منهم، ومدافعة عنهم، وثائرة من أجلهم، بوصفهم قادتها ورمز هيبتها وتطلعها إلى الاستقلال الوطني، والحرية السياسية، والكرامة الوطنية. وكانت النتيجة المباشرة للثورة، التي كان لها شهداؤها تراجع الاحتلال البريطاني، والإفراج عن سعد ورفاقه، وعودتهم من المنفى ظافرين، تحيطهم قلوب الشعب ومشاعره، التي غنى لها وتغنّى بها سيد درويش الذي فجّرت الثورة عبقريته الموسيقية، فغنى للثورة، ومهّد لها، ومات مع انتصارها بعودة سعد زعيم الأمة. وكان ذلك في سياق مواز من تصاعد الوعي المصري الذي ازداد تجذّرًا وتوهجًا. خصوصًا بعد الكشف عن مقبرة توت عنخ آمون سنة 1922 وغيرها من الآثار الفرعونية التي أزاح اكتشافها الستار عن ماض عظيم. يحفز على وجود حاضر مماثل في العودة إلى أمجاده التي تبعث الماضي وتحيي ناره، تأكيدًا لقوة الاندفاع الوطني الصاعد الذي حمل سعد على الأعناق إلى الذرى الشعبية، التي لم يسبق أن وصل إليها زعيم مصري قبله، ولذلك كانت الاكتشافات الأثرية إحدى علامات النزعة المصرية الشاملة، التي لم تقتصر انتصاراتها على عودة سعد ورفاقه، وإنما امتدت إلى كل مجال في المجتمع، وأبانت عن نفسها، في الحركة النسائية للمرأة المصرية التي خلعت النقاب. وتظاهرت مع الرجال، وواجهت بنادق الاحتلال، فأصبحت قادرة على إنشاء الاتحاد النسائي المصري سنة 1923 الذي كان بذرة الاتحادات النسائية العربية. وذلك في السنة نفسها، التي صدر فيها دستور 1923 الذي لم يعرف التمييز بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات. وفي سياق مواز من صعود الوعي الفني الذي أدى - فيما أدى - إلى افتتاح النادي الشرقي للموسيقى في العام نفسه الذي أعلن فيه الملك فؤاد الدستور الذي لم يشترك في صياغته، وترك الحرية كاملة للجنة الدستور، التي كانت تتكون من ثلاثين عضوًا من المعممين والمطربشين، ممثلين لوحدة الأمة، التي أصبح شعارها: «الدين لله والوطن للجميع».
ولم يكن من الغريب، أو المصادفة، أن يتغير اسم نادي الموسيقى إلى معهد الموسيقى العربية، وأن يصل ما بين الوعي الفني بجذور الموسيقى المصرية في تراثها الفرعوني الذي احتفى الجميع برسومه الدالة على جدران المعابد المكتشفة، والوعي نفسه بأصول الموسيقى العربية التي صار الإيمان بها نوعًا من التعبير عن رغبة التحرر من الهيمنة الاستعمارية الأجنبية لكل من فرنسا وإنجلترا وإيطاليا.. إلخ، من ناحية، والهيمنة العثمانية الموازية التي سرعان ما تفككت مع تصاعد يقظة الوعي الوطني والقومي من ناحية ثانية، وسقوط الخلافة العثمانية نفسها على يدي كمال أتاتورك الذي ألغى نظام الخلافة وأعلن النظام الجمهوري سنة 1923 من ناحية أخرى.
ميراث الموسيقى
لم يكن من الغريب أن يهدف تأسيس المعهد إلى تأصيل الموسيقى المصرية وردها إلى جذورها الفرعونية، وفي الوقت نفسه تأصيل الموسيقى العربية بوجه عام، تأسيسًا للعلاقة المتبادلة بين الأشكال الموسيقية في الوطن العربي الذي أخذنا نسمع عن الروابط التي تصلنا به وتصله بنا، خصوصًا في المحن الناشئة عن الاستعمار الأجنبي الذي جثم على صدر الأمة العربية من المحيط إلى الخليج. وكان ذلك في سياق من الاهتمامات بالبحث عن الميراث الموسيقي العربي الذي بدأ اكتشافه المستشرقون الذين ندين لهم بفضل ريادة الاهتمام بتراثنا الموسيقي الوطني والقومي، ويكفي أن نتذكر دلالة التقرير بالغ الأهمية الذي كتبه عالم الموسيقي الشرقية د.زاخس لوزارة المعارف المصرية التي دعته سنة 1930 لدراسة أشكال الموسيقى المستخدمة في مصر وأنواعها وكيفية الحفاظ عليها، وصعود تحقيق المخطوطات بين المستشرقين بوجه عام، ومخطوطات الموسيقى بوجه خاص.
وقد تحمس لترجمة التقرير الذي كتبه زاخس باللغة الألمانية شاب مصري متحمس، مشبع بآثار ثورة 1919 التي أيقظت الاهتمام بالميراث الوطني القومي. وكان هذا الشاب هو محمود الحفني أفندي الذي كان يعد لأطروحة الدكتوراه عن الموسيقى في برلين - العاصمة الألمانية في ذلك الوقت. وسرعان ما انضم هذا الشاب المتحمس إلى جمعية البحث في الموسيقى الشرقية التي أسسها سنة 1931 د. يوهانس وولف Johannas wolf مدير قسم الموسيقى بالمكتبة الوطنية في برلين. وكان أول نشاط للجمعية ترجمة رسالة الكندي في الموسيقى، عن صورة فوتوغرافية منقولة عن لندن، وأتبعت الجمعية الألمانية ترجمة الكندي بتحقيق رسائل الفارابي وابن سينا وغيرها من الرسائل التي فتحت أفقًا جديدًا أمام عيني الشاب محمود الحفني الذي شعر أنه دخل إلى عالم بالغ الثراء، سيظل في حاجة إلى الكشف، فاطمأن إلى سلامة قراره بالانصراف عن دراسة الهندسة في ألمانيا، والانتقال إلى دراسة الموسيقى والاهتمام بتراثها الذي ظل يفتنه إلى نهاية عمره الذي كرسه لخدمة هذا التراث والتأريخ له والتأصيل لموسيقاه الحية وسرعان ما حصل الشاب المتحمس على درجة الدكتوراه وعاد من ألمانيا ليشارك في دعم الدعوة إلى مؤتمر عالمي للموسيقى العربية، يستضيفه النادي الملكي، خصوصًا بعد أن أدرك وأدرك معه كثيرون أهمية كتابات ابن المنجم ومحاولات فك رموز وشفرات كتاب «الأغاني» الأشهر لأبي الفرج الأصفهاني وغير ذلك من كتب تاريخ الغناء والموسيقى، فضلاً عن مخطوطاتها التي كان المستشرقون قد قطعوا شوطًا في تحقيقها أوترجمتها.
وقد كانت مثل هذه الإنجازات التي تمت في أوربا، ووصلت ما بين برلين ولندن التي خرج منها مؤرخ الموسيقى العربية الشهير فارمر الذي ترجم كتابيه أستاذي الدكتور حسين نصار، مدّ الله في عمره، منذ أعوام عديدة، أقول كانت هذه الإنجازات الأوربية أصلاً للدلالة الثالثة من دلالات انعقاد مؤتمر الموسيقى العربية الأول. أقصد إلى الدلالة الإنسانية التي تضافرت مع الدلالتين الوطنية والقومية في صياغة ملامح المؤتمر التأسيسي الذي احتفلنا بمرور ثلاثة أرباع قرن على انعقاده، وعلى ما ترتب عليه. وكان من الطبيعي أن يبذل الدكتور الشاب محمود الحفني القادم من ألمانيا كل ما في طاقته من حماسة للانتقال بفكرة مؤتمر الموسيقى العربية إلى عالم الواقع ،وأن يتعاون في ذلك مع كل الذين سبقوه في الحماسة لتراثهم الموسيقي،. وتنجح المحاولات، ويتقبل رئيس الوزراء الفكرة، ويقرر الموافقة عليها في العشرين من يناير سنة 1932، ويعرض رئيس المجلس على الملك مذكرة للموافقة على عقد المؤتمر في شهر مارس سنة 1932 بمدينة القاهرة. ويقرر جلالة الملك تشكيل لجنة لتنظيم المؤتمر على النحو التالي: وزير المعارف العمومية حلمي عيسى باشا- الذي كان سبب طرد طه حسين من الجامعة - رئيسا للجنة بحكم رئاسته وزارة المعارف، وعبدالفتاح صبري باشا وكيل الوزارة نائبًا للرئيس، وأحمد نجيب الهلالي بك، ومصطفى رضوان بك، ومحمد زكي علي بك، ويعقوب عبدالوهاب بك، ود.محمود أحمد الحفني أفندي سكرتيرًا عامًا، والبارون دي أرلنجر، والمسيو كانتوني مدير دار الأوبرا الملكية في ذلك الزمان. ويلحق الملك قرار تشكيل لجنة التنظيم بقرار آخر يقضي بتعيين البارون رودلف دي أرلنجر نائب رئيس فني للجنة تنظيم المؤتمر، ومعه عبدالفتاح صبري باشا وكيل وزارة المعارف نائبًا لرئيس المؤتمر، وانضم إلى اللجنة كل من أحمد أمين الديك أفندي، وأحمد شوقي بك الشاعر، وأميل عريان أفندي، وراغب مفتاح أفندي، وصقر علي أفندي، وعلي الجارم أفندي الذي أخذ شعره يلفت الأنظار إليه في مدرسة أحمد شوقي، ومسيو كوستاكي، ومحمد كامل حجاج أفندي، ومحمد فتحي أفندي.
وأعان هذه اللجنة من هم أقرب إلى الجانب التنفيذي بوصفهم أعضاء في اللجان: إبراهيم خليل أنيس أفندي، وجورج سمعان أفندي، والشيخ حسن المملوك، وداود حسني أفندي، والشيخ درويش الحريري، وسامي الشوا أفندي، والشيخ علي الدرويش، وكامل الخلعي أفندي، ومحمود حلمي خورشيد أفندي، ومحمد عبدالوهاب أفندي، وكان محمد عبدالوهاب شابا يافعًا، واعدًا، لم يجاوز الثانية والعشرين من سني عمره بعد.
وأول ما يلفت الانتباه في الأسماء السابقة هو أنها تمثل الطوائف الدينية للأمة دون تحيز من أي نوع. وبعيدًا عن المناصب الكبرى التي تضم الوزير حلمي عيسى باشا ووكيل الوزارة عبدالفتاح صبري باشا، هناك من ينتسب إلى الدين الإسلامي، وهم الأغلبية بحكم أن الإسلام دين الأغلبية على نحو ما نصّ دستور 1923، في الباب الأخير منه، وهو باب مخصص للأحكام العامة. والأمر الثاني أن اللجان تجمع ما بين مشايخ من مثل علي الدرويش ودرويش الحريري وحسن المملوك، جنبًا إلى جنب الأفندية والبكوات والباشوات، وأخص الأفندية من أمثال الشاعر علي الجارم ومحمد كامل حجاج ومحمد فتحي أفندي، أضف إليهم سامي الشوا ومحمود حلمي خورشيد ومحمد عبدالوهاب وغيرهم من الأفندية، وثالث ما يلفت الانتباه تنوع الأجيال المتلاحقة التي جمعت ما بين كبار السن من عشاق الموسيقى وأعلام الغناء وممثلي الشباب - كمحمد عبدالوهاب - الذين أكملوا الرسالة وحملوا الأمانة على خير وجه. وأخيرًا لم يكن في التشكيل ما يمايز بين المواطن والوافد، ولذلك كانت اللجان تضم مسيو كوستاكي ومسيو كانتوني وجناب البارون رودلف أرلنجر الذي منعته ظروفه الصحية التي أدّت إلى موته من المشاركة في المؤتمر الذي تحمّس له
لجان المؤتمر
ولم يكن هناك منطلق علمي أفضل من توزع المؤتمر على ست لجان: الأولى للمقامات والإيقاع والتأليف التي كان على رأسها ر.يكتا بك رئيس اللجنة وصفر علي سكرتير اللجنة التي ضمت الشاعرين أحمد شوقي وعلي الجارم، وداود حسني وسامي الشوا ومصطفى رضا بك عاشق الموسيقى الذي سبق الجميع إلى تأليف الجماعة التأسيسية الأولى في قصره سنة 1913. أما اللجنة الثانية فكانت لجنة السلم الموسيقي، وضمت الأب كولانجيت رئيسًا وأميل عريان أفندي سكرتير اللجنة، إلى جانب أعلام كبار من مثل البارون كارا دي فوه والدكتوره هـ - فارمر والدكتور وولف ومصطفى رضا بك ونجيب نحاس وغيرهم، ومنهم إبراهيم خليل أنيس أفندي الذي لا أعرف هل هو إبراهيم أنيس الأستاذ بكلية دار العلوم الذي ترك الكتاب التأسيسي الأول في «موسيقى الشعر» أم اختلطت عليّ الأسماء، وكانت اللجنة الثالثة لجنة الآلات، وعلى رأسها الدكتور ك.زاخس ونجيب نحاس أفندي سكرتيرًا، ومعهما أمثال المسيو كانتوني ومحمد عبدالوهاب ووديع صبرا. وتأتي لجنة التسجيل في المقام الرابع على رأسها الدكتور لاخمان رئيسًا وراغب مفتاح سكرتيرًا، وتضم أمثال حسن حسني عبدالوهاب.
حفل الافتتاح
وعلينا أن نتخيل حفل الافتتاح، كما فعلت شخصيًا في القاعة التي ألقيت فيها كلمة وزارة الثقافة بعد خمس وسبعين سنة، ولم يكن الحفل برعاية وزير المعارف على نحو ما حدث في ذلك الزمان البعيد، بل أمين عام جامعة الدول العربية في زماننا. ووقفت فوق خشبة المسرح نفسه، أتخيل ما جرى يوم الافتتاح، وأستعيد صور أعضاء الوفود بأزيائهم ولغاتهم، ولهجاتهم المختلفة، وأنظار العالم كله متطلعة إليهم، تمامًا كما تطلعت إليهم بعيني الخيال الذي استعاد حفل الختام في دار الأوبرا الملكية مساء يوم الأحد الثالث من أبريل 1932. وكان الحضور بملابس السهرة الرسمية، ليليق منظرهم بحضور حضرة صاحب الجلالة الملك الذي تشرف الحفل بوصوله في التاسعة مساء، وبدأ الحفل - بعد السلام الملكي، وخطبة مندوب أعضاء المؤتمر - بفرقة العقاد الكبير بمعهد الموسيقى الشرقية، ثم فرقة العراق التي عزفت «مارش جلالة الملك» (رمز الأخوة بين مصر والعراق)، ونشيد جلالة الملك، ومضيت في الخيال - بعد نزولي من على الخشبة - والعودة إلى الكرسي الذي كنت أجلس عليه، وظللت أستمع إلى كلمات عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية بأذني الظاهرة، بينما ظلت أذني الباطنة تستعيد وخيالي صور وأصداء حفل الختام الذي عزفت فيه فرق مراكشية وسورية وتونسية، وصدحت، وغنت فيه الآنسة أم كلثوم إبراهيم بأغنية: أفديه إن حفظ الهوى. وشهدت خشبة المسرح الفصل الرابع من مسرحية «مجنون ليلى» ومن «قمبيز»، وكلتاهما من تأليف أحمد شوقي بك، وأداء فاطمة رشدي (ليلى) وحسين رياض المجنون، ويوسف وهبي والآنسة أمينة رزق، واقتربت النهاية مع غناء من الفرقة الجزائرية، وقطعة موسيقية مقام بياتي أصول مربع وتقاسيم، وسماعي مقام بياتي أصول دارج من عزف كمان سامي الشوا الشهير.
واختتم الحفل - كما بدأ - بالسلام الملكي الذي وقف الجميع أثناء عزفه تحية وإجلالاً.
وتمنيت، في بهجة خيالي الذي غرقت فيه، أن أركب، الآن، آلة الزمان التي اخترعها هـ. ج. ولز (H.G.Wells)، وأعود بها إلى ذلك الزمان الجميل الذي مضى، والذي أرجو أن يرى أبنائي وأحفادي زمنًا مثله، أو أجمل منه.
حلم قد لا نشهده، خلجان قد لا نرسو فيها
رغم محبتنا للمدن الدافئة ببطن الخلجان
رغم أحبتنا، وضعوا الشمعة في الشباك
وناموا في اطمئنان
في أعينهم ذكرانًا كملائكة رحلوا كي يأتوا بالغد.