بينما تتضخم ذاكرة الحاسوب، تنوء ذاكرة الإنسان بما يتدفق عليها في هذا العصر، ومن ثم يتصاعد الإحساس بمشكلة النسيان.
الإداريون والمتعلمون في مقتبل العمل يسعون إلى تقوية ذاكرتهم حتى يتمكنوا من ملاحقة المعلومات التي يكتسبونها، العصر الحالي هو "عصر المعلومات" فكل يوم يطلع الناس على معارف جديدة عبر وسائل الإعلام المختلفة، كم هائل من الأحداث والارتباطات المهمة ينغي على الإنسان القيام بها، كل هذا يحتاج إلى ذاكرة نشطة تستطيع استرجاع المعلومة المناسبة في الوقت المناسب.
الهوس وراء الذاكرة القوية بدأ منذ عدة عقود عندما ذاع الحديث عن الأطفال العباقرة الذين تم تدريبهم عبر برامج تقوية الذاكرة، وبعدها انتشرت هذه البرامج والمدارس الخاصة ولاقت نجاحا وإقبالاً كبيراً في الدول الغريبة، وأصبحت الرغبة في الحصول على ذاكرة حادة فرصة تجارية رائجة، تقول "سينثيا جرين" أخصائية علم النفس التي تدرس الذاكرة في إحدى الجامعات الأمريكية إن هناك إقبالاً متزايداً لدى العامة على حضور البرامج التدريبية وشراء الكتب والمحاضرات المتخصصة في هذا المجال، كما توجد برامج تليفزيونية ناجحة منها برامج "العقل غير المحدد" الذي يتتبعه أكثر من 33 مليون متفرج أمريكي.
ولكن قبل أن تتقدم للاشتراك في مثل هذه البرامج من الأفضل أن تعرف الإجابة عن الأسئلة التالية وهي: هل كل شعور بالنسيان يعتبر إشارة على وجود خلل بالمخ؟ هل الذاكرة الخارقة هدف يمكن تحقيقه للإنسان العادي؟ وإذا افترضنا وتوافرت لديك ذاكرة قوية، فهل ستكون سعيد الحظ؟
حتى الآن لا تتوافر إجابات شافية عن هذه الأسئلة، ولكن الأبحاث العلمية الأخيرة تكتشف كل يوم حقائق جديدة، العلماء يتعرفون شيئاً فشيئاً على كيميائية وميكانيكية عمل العقل وكيف يتأثر بالضغوط الخارجية وكبر السن، وعلى الرغم من أنهم مازالوا بعيدين عن اكتشاف الأسرار الحقيقية وراء عمل العقل، فإنهم حققوا تقدما طيبا في طريق طويل لا يعرف أحد منهم شيئاً عن نهايته.
النسيان في عصر المعلومات
العلماء الذين يدرسون المخ لا يعتبرون النسيان هو المشكلة الصعبة التي تواجههم، بل إن قدرة المخ الفائقة على استرخاع أبسط الأعمال هو مكمن الصعوبة الحقيقية، وكما يقول "دانيال شاكتر" من جامعة هارفارد في كتابه "البحث عن الذاكرة" عام 1996م: إن العمل البسيط على دعوة أحد الأصدقاء إلى الغداء يتطلب كما هائلا من المعلومات التي نستعملها في تركيب كلمات الدعوة وإظهار عبارات الترحيب والاستحسان، واختيار المطعم المناسب والطعام الشهي، واسترجاع الخريطة المعقدة لمكان المطعم حتى يمكننا الوصول إليه، إلى آخره.
كيف يمكننا التعامل مع هذا الكم من المعلومات، فالعقل البشري يختلف تماماً عن جهاز الكمبيوتر، ولكن التشبيه بينهما يجعل الأمور أكثر سهولة، فداخل عقل الإنسان يوجد نوعان من الذاكرة مثل ذاكرتي الكمبيوتر، الذاكرة النشطة وهي التي تقوم بتداول المعلومات الفورية بسرعة، وذاكرة أخرى طويلة الأمد تقوم بتخزين المعلومات التي تصل لإليه، و لايقوم- كما تصوره لنا الأفلام السينمائية- بدفن هذه المعلومات في مكان ما داخل المخ منتظراً أحد المنومين المغناطيسيين حتى يساعد في التنقيب عنها.
وأغلب مانستقبله من معلومات يعلق وقتاً قصيراً في الذاكرة النشطة للعقل (والتي تشبه ذاكرة الكمبيوتر النشطة المعروفة باسم RAM) ثم يتبخر سريعاً مثلما تختفي معلومات الكمبيوتر الموجودة بالذاكرة RAM فور فصل التيار الكهربي. الذاكرة النشطة تفيد الإنسان في إجراء الحسابات السريعة وتحليل الأحداث واتخاذ القرارات التي لايهم الاحتفاظ بها مدة طويلة، مثل تذكر رقم الهاتف إلى حين الاتصال به ثم نسيانه بعد ذلك.
الذاكرة طويلة الأمد تشبه القرص الصلب الذي يحتفظ بالمعلومات في جهاز الكمبيوتر حتى بعد فصل التيار الكهربي. يقوم عقل الإنسان بتخزين الذاكرة طويلة الأمد في قشرة المخ الخارجية والمسماة cerebral cortex وهذه المنطقة تحتوي على حوالي 10 بلايين خلية عصبية، كل خلية لها ساق طويلة ومتشابكة مع خلايا أخرى تماماً مثل سيقان النباتات المتسلقة. الخلايا العصبية تتواصل مع بعضها البعض عبر رسائل كيميائة وكهربائية دقيقة. كل مرة نستقبل فيها مؤثراً خارجياً مثل صورة أو صوت أو فكرة تنشط مجموعة معينة من الخلايا العصبية الموجودة في القشرة، وبعد نشاطها لاتعود هذه المجموعة من الخلايا إلى ما كانت عليه سابقاً، بل تقوي الارتباطات الموجودة فيما بينها وتكون شبكة مترابطة من الخلايا، وكل مرة تنشط فيها هذه الشبكة يسيعيد العقل ذاكرة المعلومة التي أنشأتها أول مرة. هذا يعني أن ما نطلق عليه اسم الذاكرة ماهو إلا مجموعة من شبكات الخلايا العصبية المترابطة.
ترشيح المعلومات
يمكننا أن نقوي من قدرتنا على تذكر المعلومة لمدة طويلة عن طريق تكرار حفظها واسترجاعها، ولكن قرار تخزين المعلومة أو التخلص منها غالباً ما يتم دون وعي من جانبنا، فهذا يتم تلقائيا عبر جزء من المخ يسمى " قرن آمون" وهو عضو صغير الحجم له جناحان يوجد غائراً في منتصف المخ. يقوم هذا الجزء بعمل لوحة المفاتيح في جهاز الكمبيوتر، فهو عبارة عن محطة لتحويل الإشارات التي ترد إليه من الخلايا العصبية الموجودة في القشرة المخية، إذا استجاب هذا العضو إلى الإشارة الواردة إليه فإن الخلايا العصبية تبدأ في تخزين المعلومة لمدة طويلة في المخ، ودون هذه الاستجابة فإن المعلومات الواردة تختفي كلية.
يبدو أن قرار منطقة "قرن آمون" في الاحتفاظ بالمعلومات من عدمه يعتمد على شيئين: الأول هو الارتباط العاطفي بالمعلومات الواردة، فمثلاً اسم المحبوبة له ارتباط عاطفي وثيق بالإنسان، ولذلك فإنه يتذكره بسهوله عن اسم مدير عام الشركة التي يعمل بها مثلاً، وبهذا الشكل يعيد العقل ترتيب أولوية المعلومات التي ترد إليه بصورة مختلفة عن معناها اللفظي في الواقع الخارجي، والأهمية تكون لحفظ المعلومات التي تحرك مشاعر الإنسان ووجدانه.
الشيء الثاني الذي يؤثر في قرار منطقة " قرن آمون" هو ما إذا كانت المعلومات الواردة لها علاقة بالمعلومات التي يعرفها الإنسان سلفاً، فعلى عكس الكمبيوتر الذي يحتفظ بالملفات بطريقة منفصلة ودون ترابط فيما بينها، فإن العقل البشري يسعي دوماً إلى إيجاد ترابط بين المعلومات. إذا كان العقل يدرك عن المعلومات الجديدة شيئاً سابقاً فإنها ستكون أسهل في التخزين والحفظ، فمثلا إذا كان اسم صاحب الشركة التي تعمل بها له علاقة بمواضيع الاقتصاد والسياسة التي تهواها فإن استرجاع اسمه سيكون أسهل من استرجاع اسم شخص لم تعرف عنه شيئاً من قبل، باختصار فإن العقل يستخدم المعرفة التي قام بنسجها في شبكات الذاكرة القديمة حتى يتمكن من الاحتفاظ بالمعلومات الجديدة.
النسيان نعمة ونقمة
العقل يقوم بترشيح المعلومات وحفظ المفيد منها، وهذا يفيدنا في التعامل مع المشاكل التي تواجهنا، يقول "إيريك كاندل" من جامعة كولومبيا إن العقل يقوم في كل لحظة بفرز وتصنيف المعلومات التي تصل إليه ليتخلص من الفضلات التي لايحتاج إليها ويحتفظ بالمعلومات الضرورية. البعض يظن أن تخزين كل المعلومات أمر مفيد ولكن الحقيقة غير ذلك، فإذا كان "قرن آمون" يسمح بمرور كل المعلومات الواردة إليه فإن النتيجة ستكون وبالاً على صاحبها، فقد تابع العلماء بعض الأفراد الذين يتمتعون بذاكرة قوية ولديهم القدرة على سرد وتوريد سلسلة كبيرة من الكلمات والأرقام والحقائق، وثبت أن أكثرهم يفتقد القدرة على التفكير البسيط واستخلاص المعلومات للستفادة منها بصورة عملية.
على الطرف الآخر من الذاكرة هناك النسيان، وأفضل مثال على النسيان هو العامل "هـ.م" الذي يعمل في أحد المصانع بأمريكا، وكان يعاني من نوبات صرع شديدة ومتكررة، وفي محاولة يائسة أجرى الجراحون له عام 1953م جراحة تاريخية استأصلوا فيها الـHippocampus وكان العامل وقتها في عمر 27 سنة، الجراحة ساعدت في السيطرة على نوبات الصرع دون ان تؤثر في الذاكرة الموجودة لدية ذلك الوقت، ولكن "هـ.م" فقد القدرة على اكتساب أي ذاكرة جديدة، وهو الآن لايستطيع أن يخبرك عن طعام الإفطار الذي تناوله، أو عن عمره الحالي وتاريخ اليوم، أو حتى عن عنوان منزله.
مرض (الزهايمر) الشهير يتلف تدريجياً "قرن آمون" وكذلك كبر السن العادي يؤثر على عملها، وتشير فحوصات بعد الوفاة أن جميع البشر يفقدون حوالي 5- 10% من حجم المخ في عمر 60- 70 سنة، والصور المغناطيسية للمخ أظهرت تناقص نشاط القشرة و" قرن أمون" مع كبر السن، وهذا واضح أيضاً عند مقارنة أداء صغار وكبار السن في اختبارات الذاكرة والاسترجاع، ولكن لحسن الحظ أن الفروق الموجودة قليلة، ولذلك يرى أغلب العلماء أن كبر السن وحده لايؤثر على عمل المخ بصورة كبيرة إلا إذا أصيب الإنسان بمرض الزهايمر أو بتصلب الشرايين، كبر السن يؤدي إلى تباطؤ استرجاع المعلومات وقلة حدتها، ولكن تظل الذاكرة تعمل بانتظام ونجاح، وقد لاحظ "شاكتر" أن صغار البالغين أكثر حدة عن كبار السن في تذكر التفاصيل الدقيقة للصور، ولكن الكبار سرعان ما يتغلبون على ذلك بعد حثهم على دقة الملاحظة، بل أن العديد منهم يتفوق على صغار الدارسين في الكليات العلمية.
ومع اختلاف الأعمار فإن قدرات الإنسان تتفاوت بصورة كبيرة على الاسترجاع والتذكر وبين وقت وآخر، فعلى سبيل المثال الرئيس كلينتون يتذكر أسماء شخصيات عديدة بصورة لايمكن للشخص العادي القيام بها، ومع هذا فإنه أيضاء ينسى أسماء كثيرة أثناء إدلائه بالشهادة أمام لجان الاستماع، وذلك كما يقول العالم "جوردون" ولكن هذا يعني أن قدراتنا ليست ثابتة على الإطلاق، فقد اكتشف الباحثون العديد من المؤثرات التي تعيق العقل عن العمل، فارتفاع ضغط الدم يقلل من أداء العقل حتى وإن لم يسبب جلطة الدماغ- لا قدر الله، وقلة النوم وتناول الأقراص المنومة والمسكرات والكحوليات، وخلل الغدة الدرقية، إضافة إلى عوامل أخرى تمنع العقل من الانتباه والتركيز إلى مايدور حوله مثل الاكتئاب والإحباط والقلق والتوتر وفقدان الحافز على التذكر.
إن المشكلة الحقيقية التي يواجهها العصر الحالي هي السيل الجارف من المعلومات الفضفاضة التي نتعرض لها كل يوم، ففي الماضي كانت هناك برهة من الوقت يخلو فيها الإنسان إلى نفسه لينظر إليها من الداخل ويفكر ملياً فيما يدور حوله. الإنسان في العصر الحديث أصبح مستقبلاً سلبياً لفيضان لاينقطع من العلوم والأخبار التي تصل إليه عبر الهاتف والفاكس والتليفون والصحافة والإذاعة والبريد الإلكتروني وشبكة الإنترنت، عندما ترد إلينا كل هذه المعلومات بصورة تفوق قدراتنا الطبيعية على استقبالها والتعامل الأمثل معها، فإن العقل لايصبح قادراً على استقبال أي شيء جديد.
أفضل وسيلة لحماية الذاكرة
من يرغب في أن يظل حاد الذاكرة يجب عليه النوم فترات كافية والبعد عن الضغوط النفسية، ولأن عمل المخ يحتاج إلى دورة دموية سليمة فإن الحفاظ على صحة القلب له تأثير إيجابي على صحة العقل أيضاً، وتناول الخضراوات والفاكهة الطازجة والبعد عن الدهون والتدخين يفيد الذاكرة بجانب القلب، ففي عام 1997م اكتشف باحثون من إسبانيا علاقة وثيقة بين اختبارات الذكاء وكثرة تناول الخضروات والفاكهة والألياف النباتية، وفي بحث آخر أجراه باحثون في جامعة "جنوب كاليفورنيا" تبين أن النشاط والرياضة ساعدا كبار السن في الحفاظ على قدراتهم العقلية.
وماذا عن البرامج التدريبية والأدوية الخاصة بالذاكرة؟
البرامج التدريبية صممت بإحكام. ولكنها ليست أعجوبة فريدة، فهي تسعى إلى تدريب الفرد على قوة الملاحظة وتكرار المعلومة المهمة، وإيجاد ترابط بينها وبين المعلومات السابقة حتى يمكن حفظها واسترجاعها بسهولة. وبالنسبة للعقاقير والأدوية فعلى الرغم من وجود ادعاءات كثيرة حول فوائد الفيتامينات والأعشاب والهرمونات فإن هذه الادعاءات لم يثبت فاعليتها، والعبض منها له أضرار جانبية خطيرة ، وعلى الرغم من ذلك فإن شركات الدواء تسعى بإلحاح كي تصل إلى عقار جديد يفيد الذاكرة وفي نفس الوقت يحقق أرباحاً طائلة، ونحمد الله أنها لم توفق حتى الآن وتكتشف عقاراً مثل عقار الفياجر للمخ، فلو تخيلنا أن هناك دواء يزيد من قدرات الإنسان العقلية ، فهذا سيسبب للبشر التعاسة بدلاً من السعادة، فلو افترضنا أنك تمكنت من تحسن أدائك في امتحان القبول لأحد الأعمال ، فهذا يعني ضياع الفرصة أمام إنسان آخر لم يسعفه الحظ ليتناول هذا العقار وفي هذا نوع من عدم المساواة ، وإذا قدر بعد الالتحاق بالعمل أن تتوقف عن تناول العقار فهل سيتخلى عنك صاحب العمل بسبب تراجع ذاكرتك ؟ أليس في هذا نوع من الظلم؟
نحمد الله أن هذه التوقعات مازالت بعيدة، ونتمني ألا نراها على أرض الواقع.
العقل البشرى خلقه الله بإحكام وأوجده ليسود الكون منذ ملايين السنين، وأي تغيير طفيف نستحدثه يؤدي إلى كوارث لا يمكن لأحد توقعها، وينبغي علينا أن ندرك أن هناك فارقا كبيرا بين الذاكرة الخارقة والذاكرة المناسبة، وأي عاقل يمكنه أن يدلك على الحكمة القائلة بأن النسيان من الله مثل الذاكرة.