المتأمل للكتابات المفكرين والأدباء العرب المحدثين حول المرأة شعر وكأن الفكر العربي يعاني تناقضا حادا بين العقل والشعور. فعندما يحتكم المفكر إلى عقله ، ويترك جانبا ماورثه من معتقدات وعرف وتقاليد، وما شب عليه من أفكار وممارسات ، فهو لابد أن يشعر بما تعانيه المرأة العربية من غبن شديد ، ويبدأ فى المطالبة بمساعدتها على استرادا حقوقها وتبوؤ المكانة التي أرادها الله تعالى ، متمثلة فى عشرات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة.
أما حينما يظل الكاتب العربي أسيرا لمشاعره وعواطفه فهو يبداً فى النظر إلى المرأة ككائن غريب تماما عنه، أو ربما معاد له ويراها مخلوقا شاذا ضعيفا منحرفا ، لابد أن يكبل بالقيود وإلا انطلق يعيث فى الأرض فسادا، إنه ينسى تماما أنه ما جاء إلى الدنيا إلا بعد أن حملته امرأة، وأن من صلبه جاءت امرأة أخرى أو عدة نساء، فالرجل من المرأة، والمرأة من الرجل ومن الغريب أن ينظر كل منهما للآخر كما لو كان ينظر إلى عدو أو إلى مخلوق من كوكب آخر، ولكنه ميراث عتيق مازلنا نحمله فوق كواهلنا، ويصر البعض على ألا يتخلى عنه على اعتبار أنه جزء لا يتجرزأ من الجسد العربي. إذا اعتبرنا الفكر العربي المعاصر يبداً من القرن التاسع عشر ، فإن افتتاحية ذلك القرن جاءت ببشرى تؤذن ببداية تحرر المرأة العربية من إسار الجهل والبطالة. وذلك في كتاب رفاعة رافع الطهطاوى "1801- 1873" تخليص الإبريز في تلخيص باريز وتاريخ تأليفه سابق على أكتوبر 1830م. وطبعته الأولى صدرت سنة 1834م. في هذا الكتاب وردت عبارات كثيرة عن المرأة الفرنسية تعبر عن إعجاب الكاتب بما وصلت إليه من تمدين وثقافة وما لها من منزلة عند الرجل ويبدى الطهطاوى إعجابه على وجه الخصوص بالفرنسيات المثقفات، فيقول "فإن للنساء تآليف عظيمة ومنهن مترجمات لكتب من لغة إلى أخرى مع حسن العبارات جودتها، ومنهـن من يتمثل بإنشائها ومراسلاتها المستغربة، ومن هنا يظهر لك أن قوة بعض أرباب الأمثال: جمال المرء عقله وجمال المرأة لسانها، لايليق بتلك البلاد، فإنه يسأل فيها عن عقل المرأة وقريحتها وفهمها وعن معرفتها".
يحكي الطهطاوي عن المرأة الفرنسية كما لو كان قد اكتشف قارة جديدة، أو عالما مختلفا، يقدمه لقرائه كما قدم لهم غرائب أخرى اكتشفها في فرنسا وكتب عنها لأول مرة للمشرقيين كالجرنال والمجلة والبرلمان والمسرح والأوبرا والسيرك ودافع الطهطاوي عن الاختلاط في المجتمع الفرنسي وأنكر أنه سبب الفساد فقال: "إن وقوع اللخبطة بالنسبة لعفة النساء لا يأتي من كشفهن أو سترهن، بل منشأ ذلك التربية الجيدة، والخسيسة، والتعود على محبة واحد دون غيره. وعد التشريك في المحبة، والالتئام بين الزوجين وقد جرب في بلاد فرنسا أن العفة تستولي على قلوب النساء المنسوبات إلى الرتبة الوسطى (الطبقة المتوسطة)، من الناس دون نساء الأعيان والرعاع".
ويقف الطهطاوي مندهشا للمعاملة الطيبة التي تلقاها النساء في فرنسا فلا حجاب ولا ضرب ولا إهانة ولامذلة، بل تعتبر المرأة زينة ذلك المجتمع، فيقرل: "ونساء الفرنساوية بارعات الجمال واللطافة حسان المسايرة والملاطفة، يتبرجن دائما بالزينة ويختلطن مغ الرجال في المتنزهات، وربما حدث التعارف بينهن وبين بعض الرجال في تلك المحال، سواء الأحرار وغيرهن خصوصا في يوم الأحد".
اكتشف الطهطاوي أن المرأة جزء لا يتجزأ من المجتمع الفرنسي، مجتمع أعوام 1826 م إلى 1831 هو أمر مختلف تماما عما تركه في طهطا الحياة الاجتماعية في باريس ومثيلتها في مصر، حتى البيوت تختلف تماما، وهو يصف ما فيها من ستائر وباركيه ومداخن زخرفية وفازات وصور على الحوائط ونجف ثم يضيف في خسرة "ثم إن جميع هذه التحف يكمل الأنس بها بحضور سيد البيت، أي زوجة صاحبه التي تحيي الضيوف أصالة، وزوجها يحييهم بالتبعية فأين هذه "الأوضة" بما احتوت عليه من اللطائف من "أوضنا" (غرفنا) التي يحيا فيها الأنسان بإعطاء شيق الدخان من يد خادم في الغالب أسود اللون.
ويبدو من الكتاب أن الطهطاوي اختلط بالفرنسيين، فكما وصف بيوتهم وصفا دقيقا وصف أيضا حفلاتهـم الخاصة والعامة ورقصاتهم ومسارحهم، وعلى الرغم من تمدينهم وتحررها فإنه لم يرهم منحلين خلقيا، بل رأى فيهم العفة والشرف ورآهم في ذلك أقرب شبها لعرب منها للترك أو للشعوب الأخرى، فيقول "ولا يظن بهم لعدم غيرتهم على نسائهم لا عرض لهم في ذلك، حيث إن العرض يظهر في هذا المعني أكثر من غيره، لأنهم وإن فقدوا الغيرة لكنهم إن عملوا عليهن شيئا كانوا أشر الناس عليهن وعلى أنفسهم وعلى من خانهم في نسائهم".
كذلك دافع الطهطاوي عن عفة الفرنسيات وعفافهن، ورأي أن الفرنسين في مسألة الشرف أقرب إلى العرب منهم للترك وغيرهم وغيرهم من الأجناس فهم يسمون العرض شرفا ويقسمون به وإن كانوا لا يشعرون بالغيرة على نسائهم، وهكذا فرق رفاعة الطهطاوى بين العرض والغيرة فيقول: "إن مادة العرض التي تشبه الفرنساوية فيها العرب- هو اعتبار المروءة وصدق المقال، وغير ذلك من صفات الكمال، ويدخل في العرض أيضا العفاف، فانهم تقل فيهم دناءة النفس، وهذه الصفة من الصفات الموجودة عند العرب والمذكورة في طباعهم الشريفة".
ويمضي رفاعة الطهطاوي في وصف المرأة الفرنسية والمجتمع الفرنسي وعينه الأخرى على المرأة العربية والمجتمع العربي، فهو لاينسي لحظة انه آت من مجتمع مختلف كل الاختلاف، فتدل عباراته كم يتمني لو تغير الكثير من ذلك المجتمع ليقترب من المجتمع الفرنسي. وهو اتجاه جعله يركز على الجوانب الاجتماعية فيذكرها بالتفصيل ويطنب فيها كثيرا.
إن أفكارا كهذه لم يسبق أن وردت في أي كتاب عربي على الإطلاق، هو أمر لابد أن يستوقفنا، فموقف الرجل الشرقي من المجتمع الغربي كان دائما، بل ولا يزال إلى اليوم، متحفظا إن لم يكن رافضا كل الرفض، فكيف أمكن لشيخ أزهري متفقه في الشريعة والسنة والتاريخ الإسلامي، قادم من مجتمع منغلق إلى أقصى حد، كيف امكن له أن يقف هذا الموقف المتفهم الواعي من المجتمع الفرنسي؟ !
ولابد أن تلك الأفكار التي نشرت عام 1834م في مصر، وترجمت إلى اللغة التركية، كان لها تأثير كبير في كل من قرأها، ويكفي أن نذكرأن الطهـطاوي سافر إلى فرنسا بصحبة شيخين أخرين كواعظ وإمام لبعثة محمد علي إلى باريس، بينما كان أغلب أعضاء البعثة من الأسر التركية والأجنبية والمستتركة، فرحلته وترجمته الكتب من الفرنسية إلى العربية كانت ذات دلالة خاصة كما يرى محمد عمارة، الباحث الإسلامي المعاصر.
فالرجل لم يكن مجرد ناقل الفكر العرب وحضارته إلى اللغة العربية، وإنماكان مناضلا في سبيل "أن يوقظ" أمته ووطنة بل والشرق و"أهل الاسلام" قاطبة، كما كان حديثه في السياسة والدستور ووصفه لما درسه وشاهده بباريس من مؤسسات الديمقراطية البورجوازية، مقصودا به أن يفتح لوطنه وشعبه ساحات الديمقراطية، ويدعوه لطرق بابها بقوة، حتى يتجاوز الشرق مستنقعات الاستبداد والطغيان والحكم الفردي البغيض.
ولم تقتصر أفكار الطهطاوي عن المرأة على كتابه المهم "تخليص الإبريز" بل تناثرت في أغلب مؤلفاته، فيقول في كتابه "المرشد الأمين":
"المرأة.. (مثل الرجل) سواء بسواء، أعضاؤها كأعضائه، وحاجتها كحاجته، وحواسها الظاهرة والباطنة كحواسه، وصفاتها كصفاته، حتى كادت أن تنتظم الأنثى في سلك الرجل!... فإذا أمعن العاقل النظر الدقيق في هيئة الرجل والمرأة، في أي وجه كان من الوجوه، وفي أي نسبة من النسب، لم يجد إلا فرقا يسيرا يظهر في الذكورة والأنوثة ومايتعلق بهما، فالذكورة والأنوثة هما موضع التباين والتضاد".
لم ير الطهطاوي الأنوثة ضعفا، بل إن ضعف البنية الموجود لدى بعض الإناث ليس إلا ثمرة لأوضاع بيئية واجتماعية وتربوية من الممكن تغييرها وإحلال الضعف محل القوة، وضرب مثلا بذلك نساء الإغريق، ثم رأى الطهطاوي أن ضعف المرأة يؤدي إلى نتائج إيجابية فيقول:" ومما يوجد في الأنثي قوة الصفات العقلية وحدة الإحساس والإدراك على وجه قوي قويم، وذلك ناشئ عن نسيج بنيتها الضعيفة، فترى قوة إحساس المرأة وزيادة إدراكها تظهر في الأشياء التي يظهر، ببادئ الرأي، أنها أجنبية عنها، وأنها فوق طاقة و ليس ذكاؤهن مقصورا على أمورالمحبة والوداد، بل يمتد إدراك أقصى مراد" وهو عكس ما يقوله أعداء المرأة هذه الأيام.
الطهطاوي وتعليم المراة
دافع الطهطاوي عن المرأة وفند اتهـام البعض لها بالمكر والدهاء ورفض النظر لها "كوعاء يصون مادة النسل" وناقش الأحاديث المنسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم بالنهي عن تعليمها فقال: "كيف ذلك، وقد كان في أزواجه، صلى الله عليه وسلم، من تكتب وتقوأ كصفحة بنت عمر، وعائشة بنت أبي بكر، وغيرهما من نساء كل زمن من الأزمان؟ ولم يُعهد أن عددا كبيرا من النساء ابتذلن بسبب آدابهن ومعارفهن، على أن كثيرا من الرجال أضلهم- التوغل في المعارف"، ثم ذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب من "الشفاء" التي كانت تعلم النساء. فى عهده: "علمي حفصة رقية النمل، كما علمتها الكتابة"
لم يكتف الطهطاوي بذلك بل اتهم أعداء المرأة بالجاهلية "وليس مرجع التشديد في حرمان البنات من الكتابة إلا التعالي في "الغيرة" عليهن من إبراز محمود صفاتهن، أيا ما كانت، في ميدان الرجال تبعا للعوائد المحلية المشوية بجمعية جاهلية (أي بمجتمع جاهلي!)- ولوجرب خلاف هذه العادة لصحت التجربة...!".