ماذا بقي من نهضتنا التي لم تكتمل بعد والتي لم يحن أوان صعودها وهل كان العيب فيها أم في الرواد الذين بشروا بها وحملوا عبئها؟ هل كانت التي طرحت أكثر صعوبة من أمنيات التحقيق؟ أم أن القوى المناوئة كانت تقف بالمرصاد لكل محاولات السعي للنهوض؟ ماذا بقي من حلم هؤلاء الرواد؟، وماذا بقي من حلمنا العريض في نهضة عربية شاملة؟
كان عبدالرحمن الكواكبي "1855- 1902"، أصغر سناً من المعلم بطرس البستاني وجمال الدين الأفغاني ومارون النقاش، ومجايلاً للشيخ محمد عبده والدكتورين خليل سعادة وشبلي شميل، وفي الوقت الذى حفظ معظم نتاج هؤلاء الرواد ونشر، فإن معظم نتاج الكواكبي بقي مفقوداً حتى يومنا هذا، ذلك أن كتابيه "طبائع الاستبداد" و"أم القرى" ليسا كل أو معظم نتاج الكواكبي فقد كانت له مؤلفات أخرى قيد الطبع ومنها "صحائف قريش" و" العظمة لله"، ولكنها فقدت أثر وفاته الفجائية في القاهرة. وربما كان الضياع من نصيب "أم القرى" "طبائع الاستبداد، لو لم يبادر مؤلفهما إلى نشرهما في مصر إثر لجوئه إليها في أواخر القرن الماضي، ومن نتاجه المهم والمفقود، والذي كان لي شرف العثور على جزء كبير منه في مكتبة "هالي" الألمانية، بعض أعداد من جريدتيه "الشهباء" و"اعتدال".
ولأن الكواكبي كان نموذجاً للكتاب المجاهدين، وليس مجرد كاتب أكاديمي محترف، فإن أدبياته التي دبجها يوم تولى المكتب الخاص الدفاع عن المظلومين في ولاية حلب، في الثمانينيات من القرن التاسع عشر، تعتبر من من نتاجه الثمين.
فماذا عن هذا الأثر الكواكبي الذي كان لي أيضا شرف العثور على كم منه كبير؟
إذا كان الشيخ الحلبي كامل الغزي هو الأهم بالنسبة لجميع الذين كتبوا ترجمة الإمام الحلبي عبد الرحمن الكواكبي، باعتبار أنه كان من أصدقائه وشاهداً للأحداث التي وقعت في ولاية حلب وكان الكواكبي في طليعة صانعيها وضحاياها.. فإن المقطع الخاص بصراع الكواكبي مع الوالى جميل باشا والذي ورد في سياق المذكرات المعنونة "تاريخ ما أهمله التاريخ من سيرة عبد الرحمن الكواكبي بطل الحرية وفقيد الشرق" هو الأكثر أهمية، وتكمن أهمية ما نشره عضو المجمع العلمي العربي في مجلة "الحديث" الحلبية عام 1929، في أنه تناول أفسى جولة من صراع الكواكبي مع الاستبداد ورموزه، وهي الجولة التي اشترك فيها معظم متنوري حلب آنذاك ومنهم الشيخ الغزي، وقد نالوا من مظالم الوالي السجن والضرب والنفي ومصادرة المنازل والمزارع والمواشي.
ماذا في جعبة الشيخ الغزي حول الكواكبي والوالي؟
كان الوالي جميل باشا مستبداً كسلفة الوالي عارف باشا، وكما عطل الأخير جريدة الكواكبي "الشهباء"، فإن جميل باشا بادر إلى تعطيل الجريدة البديلة "اعتدال"، ولكن الكواكبي الذي قاوم عارف باشا حتى تمكن من عزله لم يتردد فى مقاومة جميل باشا برعم معرفته بأنه أقوى من سلفه بسبب قيام والده بوظيفة رفعية في قصر يلذر. كانت مقاومة الكواكبي إعلامية وعملية حقوقية، ويؤكد الغزي " إن جميع ما تسطره صحف الآستانة وبيروت في حق الوالي من مقالات الطعن والتنديد مستمد من قلم السيد عبد الرحمن" ويضيف الغزي أن الكواكبي أسس مكتباً "لتسطير اللوائح الاعتراضية وتحرير معروضات المتظلمين من الحكام المقدمة إلى المراجع العليا ومراجعة المحامين وإرشادهم فيما يشكل عليهم من أحكام الأنظمة والقوانيين". وكان المكتب- وهو الأول من نوعه في ولاية حلب- أكثر إزعاجاً لجميل باشا من الحملة الصحافية لأنه أصبح كدار ندوة يأوي إليها جميع أعدائه ومظلوميه فيدلهم السيد عبدالرحمن على الطرق التي يتوصلون بواسطتها إلى قهره والتخلص من ظلمه ويشجعهم على رفع شكاواهم إلى المراجع العليا، وهو الذي يتولى لهم تحرير نسخ تلك الشكوى المرسلة بالبرق أو مع البريد" يعود الغزي في مكان آخر من مذكراته إلى تأكيد أن "جميع الكتب والرسائل تركية العبارة محررة بقلم السيد الفرائى بلهجة يهتز لها عظماء الدولة وأكابر رجالها وتتأثر منها نفس ذلك السلطان القاهر الذي كان لايهاب الملوك ولا يحسب لعظمتهم حساباً". ومع ذلك، فقد كان "جميل باشا من الولاة المحبوبين عند السلطان عبدالحميد والمحتلين لديه منزلة عالية لا تأخذه في محبته لومة لائم". لذلك، كان يمكن أن يخسر الكواكبي الجولة الأخيرة، لو لم يقع خلاف عميق، في ذلك الوقت، بين الوالي والقنصل البريطتني في حلب. وإذا علمنا أن بريطانيا كانت أقوى دولة في العالم آنذاك، وأن نفوذها في السلطنة العثمانية كان قوياً أدركنا كم كان حظ الكواكبي وجميع أهالي وأعيان حلب كبيراً. بل إن دخول الإنجليز على خط الخلاف مع الوالي، كان أيضاً من خط قراء الكواكبي الذين يرغبون في قراءة كل ما خطة ببراعة،بعد ان قرأوا كتابيه "طبائع الاستبداد" و"أم القرى". ذلك أن الخارجية البريطانية تحتفظ بفواتير الخضار والفاكهة ا لتي كانت ترسلها قنصلياتها بالحقيبة الدبلوماسية، فكيف وأن تلك الفواتير كانت مرفقة بالتقاير والعرائض والبرقيات الخاصة بأي شأن خطير يحدث في حيز القنصلية ويكون للقنصل علاقة به؟
ملفات المعركة
عندما توجهت إلى مركز التوثيق الدبلوماسي البريطاني في حي كيو جاردن اللندني، كنت أتوقع الحصول على بضعة تقارير تتناول باختصار معركة الوالي جميل باشا مع الكواكبي وسائر أعيان حلب وأهاليها من جهة، ومع القنصل هندرسن من جهة موازية، أي أن ما توقعته وأنا أفتش في ملفات حلب، لم يكن أكثر مما قرأته للشيخ كامل الغزي في مجلة "الحديث". ولكن خلاف القنصل مع الوالي وتكليف الحكومة البريطانية الميجور هنري تروتر القيام بالتحقيق لمعرفة من هو المحق ومن المعتدي، قد دفع بالملحق العسكري في سفارة المملكة المتحدة في أسطنبول إلى إرسال كل ما حصل عليه من عرائض وبرقيات وتقارير وهي مرفقة بمطالعاته، وهكذا، عدت مرة أكبر وأعرق مركز توثيق دبلوماسي في العالم، بملف ضخم يحتضن الكثير من التقارير والعرائض والبرقيات الكواكبية، إلى جانب تقارير هندرسن وتروتر، لعل أطراف وأعدل أن يخرج به القارئ الملف هو أن استفادة القنصل من صراع الكواكبي مع جميل باشا لم تكن أقل من الفائدة التي جناها الكواكبي ورفاقه من الصراع الذي نشأ بين الوالي وهندرسن.
ليست المساحة المخصصة لهذا التحقيق بكافية لعرض كل كل أو جل ما تضمنه الملف البريطاني الذي يستغرق عدداً بكاملة من مجلة "العربي". لذلك، أكتفي بعرض وتلخيص ثلاثة تقارير شمل فيها الكواكبي معركة الحرية والاستبداد التي جرت على أرض مدينة حلب في عامي 1885 و 1886، إضافة إلى برقيتين ممهورتين باسم الكواكبي.
ولنبدأ بالتقارير.
تحت عنوان "وثيقة قدمت إلى السيد هندرسن من مسئول كبير في ولاية حلب وبخط يده، وقد أعطاها هندرسن إلى الميجور تروتر" استهل الكواكبي تقريره المستفيض بمقدمة فكرية قال فيها: غني عن البيان أن الهيئة الاجتماعية، في كل زمان لا تستمر إلا بمؤازرة الحكومة، في الوقت الذي لايستتب الأمر للحكومة إلا بالعدالة. وفي الحالة المعاكسة، فإن تاريخ القرون الغابرة برهن على أن المجتمع يندثر والحكومة تنهار. لذلك فإن الحكومة قد تعرضت لأزمات قوية طاولت أسس السلطنة يبذل كل جهوده للحيلوة دون وقوع الكارثة، ولكن الإدارة العاطلة والإدارة السيئة لأركان الحكومة عطلتا جهوده.
وأشار الكاتب الى ما سبق ان نشره في الصحف حول فساد وانحراف حكومة ولاية حلب، هذا الفساد الذي تضاعف فيما بعد نتيجة سلوك الوالي جميل باشا الغريب الأطوار، مما نغص حياة سكان الولاية. أما أعيان حلب فكانوا الضحية الأولى لتصرفات سعادته الظالمة، وقد تعرضوا للتعذيب حتى الموت أو النفي، وحين رفع بعضهم الشكوى إلى السلطات العليا وحتى السلطان، فإن شكاواهم كانت تصل إلى الوالي بواسطة أصدقائه وحماته، وتكون النتيجة أن أصحاب الشكاوى أصبحوا متهمين حيث عاقبهم الوالي بالاعتقال الكيفي أو الضرب في الشارع، وعندما رأى المواطنون وقوع أعيانهم كالنعاج بين مخالب "الصقر" اعتراهم الخوف، ووجدوا من المفيد لو ينحنوا أمام العاصفة، بانتظار الخلاص بواسطة العناية الإلهية.
أمثلة للمظالم
وضرب الكواكبي أمثلة مقروتة بالوقائع والأسماء تثبيتا لاتهاماته، الدفتردار أمين أفندي، رفض أن يكون أداة فاسدة بيد الوالي، ونقل مظالم جميل باشا إلى الباب العالي، وكانت النتيجة أنه أقيل من منصبه. أكثر من ذلك، فحين كان متوجها ذات عشية لزيارة المفتش السابق للمزارع السلطانية رفعت بك، تعرض للضرب المبرح من قبل زعران الوالي الذين سرقوا ساعته وخاتمه.
مثل آخر، جرت خناقة بين مصور فرنسي يمتلك ستوديو في حلب والميجور حافظ أفندي، وذات ليلة توجه بعض الجنود إلى منزل المصور بناء لأوامر الليوتنان كولونيل علي باك المعروف بأنه ألعوبة بيد جميل باشا، وأوسعوه ضربا، أحيل الأمر على المحكمة، ولكن الدعوى علقت بحجة أن الحادث جرى ليلاً وتعذر بالتالي معرفة المذنبين.
وثمة مثل ثالث لايخلو من الطرافة، كان في حلب رجل ثري جداً يدعى "كتخده زاده" (هو جد السياسي السوري الراحل رشيدي الكيخيا الذي ترأس مجلس النواب أو الوزراء)، تولى لمرحلة طويلة عضوية مجلس الإدارة، جميل باشا تودد إليه يوم كان قائداً للجيش في الولاية وعندما أصبح والياً، إثر وفاته توزعت ثروته على أبنائة الثلاثة وابنتيه، وكعادته، صمم الوالي على نيل جزء من الثروة، ولما رفض الورثة، وأوعز إلى أحد رجال الدرك لإقامة دعوى ضد ابنه البكر باكير أغا بتهمة قتل أحد أقربائه، اعتقل المتهم وسجن، ولم يطلق سراحه إلا بعد أن دفع للوالي سبعة آلاف ليرة عثمانية، ولم يتورع جميل باشا من القول لأحد أصدقائه بأن تودده للفقيد لم يكن إلا للحصول على بعض ثروته.
ويؤكد الكواكبي في سياق تقريره ان مثالب الوالي أكثر من أن تحصى، لذلك اكتفى بإضافة المثلبة التالية منذ أن أصبح واليا لحلب، وضع يده على الكثير من الأراضي والمزارع التي تكفي لتأسيس دوقية- دويلة- وكما تناهىة إلى أنه بات يملك بين 70 و80 الف رأس غنم، وكمية مماثلة من حيوانات أليفة أخرى حيث يفوق ثمنها ثلاثة ملايين ليرة. إن راتبه معروف ومحدود، فمن أين حصل على كل تلك الأموال المنقولة وغير المنقولة؟ يتسأل الكواكبي، ذلك أن الوالي يمتلك عقارات كثيرة في القسطنطينية وحلب، إضافة إلى الأموال التي أودعها في مصارف أوربية، ومن المؤكد- يقول الكواكبي- إن كل هذه الثروة والحماية من القصر السلطاني، تمكن من إرهاب المواطنين لدرجة أن أحداً لم يعد يجرؤ على أداء الشهادة ضده إذا جرى تحقيق عنه. حتى إذا تظاهر الوالي بالثورة على السلطان، فإن الشعب يتردد في مجاراته خوفاً من أن تكون بمنزلة مناورة لمعرفة حقيقة الموقف الشعبي إزاء عبدالحميد.
وختم الكواكبي بما يمكن اعتباره تزكية لما قاله عنه صديقه الشيخ كامل الغزي حيث نوه بصفته وكيلا لمواطنيه الذين يطالبون بإنقاذهم من ظلم الحاكم العام.
البطل والضحية
انتقل إلى التقرير الثاني المتوج بالعنوان التالي "وثيقة باللغة التركية غير موقعة، أعطيت للميجور تروتر بواسطة السيد هندرسن".
استهل الكواكبي هذا التقرير بإلقاء الضوء على حادثة كان هو بطلها وضحيتها،يوجد في ولاية حلب، كما في سائر الولايات العثمانية، كمية من الأراضي التي يمتلكها السلطان، والأخير أوكل أمر إدارتها لأغوب أفندي "الآن أغوب باشا" الخازن الخاص للصندوق السلطاني، ولم يأل أغوب باشا جهداً في رعاية الأراضي، حيث عين لها وكيلا في كل ولاية، وهكذا عين في ولاية حلب عبد الرحمن أفندي "الكواكبي" الذي اتخذ التدابير الضرورية لتنمية تلك الأراضي، ولما كان الوالي قد وضع اليد على بعض تلك الممتلكات بأسلوبه الاحتيالي، فإن أمراً بالتحقيق قد صدر من الباب العالي. وعندما علم الوالي أن الذي أخطر القسطنطينية حول الاحتيال لم يكن سوى عبدالرحمن أفندي، راح يخترع له الدسائس من أجل تدميره، إلا أن ذلك بم يؤت ثماره، لأن مالية القصر كانت عالمة بحقد الوالي على عبدالرحمن وخلفياته، وعندما تيقن جميل باشا من عجزه عن زحزحة الكواكبي من وظيفة الطابو، سعى لإقالته من مسئوليته الأخرى كمأمور عدلي. وهكذا، وجه أليه عدة اتهامات باطلة لاتستند إلى أي حيثية حقوقية، وطالب المحكمة بإصدار قرار لعزله، رفض رئيس المحكمة التوقيع على القرار فشتمه الوالي وطرده. ولكن الرئيس البديل وقع القرار والدموع تنهمر من عينيه، بعد أن هدده الوالي بطرده ومصادرة منزلة. ثم استدعي عبد الرحمن للمثول أمام القاضى حيث اعتقل، وعندما علم أغوب باشا أن وكيله قد سجن، عزله من مسئوليته وعين مكانه سعدي أفندي.
أضاف الكواكبي في تقريره أن خط سلفه لم يجار الوالي، ولكي يقطع أغوب باشا طريق الوالي في عزل مرءوسه، أوفد لجنة إلى حلب من أجل وضع خريطة بالأملاك السلطانية، فثارت ثائرة جميل باشا لأن بعض الأراضي التي وضع يده عليها شملتها الخريطة، ورد على ذلك بأن حرض البدو ضد السلطان حيث قال: أنا مصمم حتى آخر نقطة من دمي للحيلولة دون استيلاء عبد الحميد على حقوق الفقراء. ومع ذلك فإن السلطان لم يبدل من موقفه الإيجابي إزاء جميل باشا استحالة إصدار وتنفيذ قرار يقضي على الأقل باستعادة الأراضي من الوالي، اتخذ القرار البديلوهو إسناد أمر الأراضي الأميرية في ولاية حلب إلى جميل باشا نفسه. "فتأمل كيف تسير أمور العدالة في هذا البلد" يعلق الكواكبي.
وبالطبع، لم يعد الوالي الأراضي، بل فعل العكس، ثم أنه راح ينكل بالمسئولين الذين رفعوا التقارير ضده إلى الباب العالي، وعلى سبيل المثال فإن الدفتردار أمين أفندي تعرض للضرب والسلب من قبل خمسة رجال ملثمين عندما كان سائراً ليلا 19 رمضان 1300هـ قرب جامع العثمانية، عرف المعتدى عليه اثنين من المعتدين وهما أحمد العباسي، والشرطي باقور أغا، فأبرق إلى الباب العالي متشكيا، ولما لم يتلق جوابا، وأحس بالخطر على حياته، استقال من وظيفته وهرب. وأكد الكواكبي أن الذين حاورهم حول الحادثة يعرفون تفاصيل أكثر أثارة.
وعاد الكواكبي إلى مشكلته ليؤكد أن عبد الرحمن أفندي لم يتمكن من الخروج من السجن إلا بعد أن دفع للوالي مبلغ أربعمائة ليرة.
وأكد الكواكبي أيضا أن الباب العالي كان عالما، ليس فقط ببعض أعمال الوالي بل كلها. وإذا سئل- الكواكبي- كيف لا تتمخض كل العرائض والشكاوى عن أي نفوذ والد الوالي لدى السلطان، وأن الأخير لايهمه سوى سلامته الشخصية وتكديس الأموال، ولو دمر العالم، وأن مجلس الوزراء لايحرك ساكنا لأن أعضاءه خالون من الوطنية.
وختم الكواكبي تقريره بالقول إن معاناة المواطنين في حلب من جراء ممارسات الوالي الظالمة والفاسدة كانت أقسى من معاناتهم من مرضي الطاعون والكوليرا، وأن الاستبداد والفساد لو كانا معممين، لدمرا الكرة الأرضية.
معركة مزدوجة
"عرض لمجهول حول الأزمة في حلب" هو عنوان التقرير الثالث الذي كتبه الكواكبي خلال ذروة المعركة المزدوجة مع الوالي جميل باشا: أهالي حلب وأعيانهم من جهة، والقنصل البريطاني وترجمانه دمر كاريان من جهة موازية. وهذا التقرير تمحو برمته على الأسماء والأحداث والأرقام.
محمد باشا من قبرص أنشأ ست عشرةة بلدة في إطار مشروع سمي "جلبة عيسى" نجح المشروع فحذا المواطنون حذوه، حيث بنوا بلدات مماثلة وقد بلغ عددها الرقم 253، ومعظم هؤلاء يملكون صكوكاً تثبت ملكيتهم لعقار أو منزل، إضافة إلى ذلك، يوجد قرب البادية وفي سنجق دير الزور، أربعمائة بلدة يملكها مواطنون بموجب صكوك، وقد دفعوا لقاء الملكية آلاف الليرات العثمانية.
عندما كان يتولى أمر الطابو الخاص بإملاك السلطان الكواكبي أو جميع الذين أتوا بعده، كان الوالي حصة الأهالي، وهو فعل ذلك، ليس حباً بالفقراء، بل رغبة في توليه مسئولية تسهل له الاستيلاء على المزيد من الأراضي وتقطع الطريق على الشكاوى. وخير دليل على الاتهام، أنه ما إن أصبح مسئولاً عن أملاك السلطان في الولاية، حتى انقلب من مدافع عن الأهالي إلى مضطهد، وحين تلقى الأمر بشراء الأراضي التي شملتها خريطة عقارات السلطان، راح يفرض على الفلاحين أسعاراً بخسة وأحياناً يصادر أراضيهم من غير أن يدفع قرشاً واحداً. ولإنجاح خطته جرد حملة عسكرية مؤلفة من 50 جنديا، حيث مارسوا الضرب والاعتقال وانتزاع صكوك الملكية. وكان المساكين يوقعونعلى التنازل عن ممتلكاتهم والدموع تنهمر من عيونهم.
وطرح الكواكبي الأسئلة الثلاثة التالية:
كيف يمكن ممارسة العدالة إذا كان الحكم خصما؟ ألا يوجد رجل ذو ضمير ليتأمل بالحالة المأساوية؟ وهل يتعذر إلقاء الضوء على أمور عامة ومهمة؟ ويسارع إلى الإجابة بأنه من غير المسموح الخروج من حلب بالنسبة لأولئك الذين يتمتعون بذكاء يمكنهم من استيعاب المعضلة والقدرة على الشكوى ضد الوالي، وبالفعل حاول بعضهم القيام بالمهمة، ولكنهم أهينوا وردوا على أعقابهم. ثمة شخص سافر إلى القسطنطينية للشكوى، ولكنه اضطر إلى الهرب باتجاه مصر، فاستعاده الوالي وسجنه لمدة 50 يوما. وقد تم ذلك من غير صدور قرار من المحكمة أو أمر من المدعي العام.
وتساءل الكواكبي: بأي قرار قضائي عومل قائد الجيش السابق أحمد فهمي بتلك الصورة المهينة؟ وهل يستحق من حمل الوسام المجيدي أن يضرب في أسواق حلب؟ بالعكس كان أحمد فهمي موضع احترام وتقدير الجميع طيلة خدمته التي دامت سبع سنوات، ولكن جميل باشا لم يكتف بإهانة القائد العسكري السابق، بل صادر بعض دونمات من أراضية، وكمية من الغلال، وفرسين أصيلين.
سرقوا القبيلة
وثمة حادثة مضحكة مبكية يرويها الكواكبي وهذه خلاصتها: قافلة من قبيلة تومان توجهت نحو حماه لشراء الحبوب. اعترض طريقها قطاع طرق من قبائل موالي وخالدي ولهب وسرقوا 200 جمل عدا الماشية والأموال، وقتلوا ثمانية أشخاص، قدم المعتدى عليهم شكوى لدى الوالي، فبادر إلى اعتقال المعتدين، وصادر المسروفات، ولكنه احتفظ بها لنفسه، ثم قبض 800 ليرة من المعتقلين حتى أفرج عنهم.
وبعد أن يورد الكواكبي أمثلة أخرى حول مظالم الوالي، يتهم جميل باشا مداورة بالمساهمة في تقويض دعائم السلطنة، حيث يقول إن من لايرغب في هدم أساس دولتنا، لايقوم بتلك الأفعال على مرأى ومسمع الأعداء المحطين بنا!
ونختم بأنه لم يعد من وسيلة للتخلص من تلك المآسي سوى اللجوء إلى السلطان.
وقرن الكواكبي القول بالفعل، فقد وجه برقيتين إلى السلطان، ولكن ليس دفاعاً عن أحد الحلبيين أو المقيمين في ولاية حلب، بل عن نفسه.
قال في البرقية الأولى غير المؤرخة والمفترض أنه أرسلها في يوليو 1889: "كان لى الشرف بالعرض برقيا على جلالتكم الإمبراطورية تفاصيل الأعمال الجائرة الموجهة ضدي من قبل جميل باشا والتي أثقلت كاهلي، وبناء على توجيهاته وتوصياته ثم طرد حراس محاصيلي الزراعية، وسلبت منتجاتي وماشيتش، وحتى بعد هذا السلب، فيما لو أراد أن يكون عادلاً، لكان يمكن إعادة ممتلكاتي، لكن ذلك أصبح الآن مستحيلا، وبسبب شكايتي والتماسي العدل والرأفة الإمبراطورية بطلباتي الحقة، ازداد خوفه، والآن بعد أن ضاعت ثروتي، أقع في هم الحفاظ على حياتي، ولقد استقرضت حتى أجور برقياتي، أطلب إليكم باسم جميع الخلفاء الراشدين بأن تبادروا بسرعة إلى مساعدتي".
واستهل الكواكبي برقيه الثانية، المؤرخة في 20 يوليو 1886 بالإشارة إلى برقيات أخرى كان أرسلها إلى السلطان وأشار فيها الى محاولة جميل باشا تحقيرة ومصادرة منزلة:" ساقني الوالي، وبحجة الاطلاع على الأوراق الخاصة بحسابات المستشفي المشاد في حلب، حيث كنت متبرعاً في التدقيق بالمصاريف، وسط دزينة من حراس البلدية ومخبرى الشرطة، وكأني مجرم، وذلك مشياً على القدام من منزلي الكائن في طرف المدينة حتى المركز البلدي، ثم أعادني إلى المنزل بالطريقة نفسها لجلب بعض الأوراق، وهناك لم يسمحوا لي بدخول منزلي، بل عمدوا إلى نقل كل أوراقي إلى الخارج، ولما أخذت الأوراق المطلوبة، تم سوقي من جديد بالأسلوب المهين نفسه.
أنا بن أحد أقرباء النبي رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، وعائلتي هي الأعرق بين جميع العائلات الوجيهة في حلب، رأيتني منذ فتوتي في خدمة الحكومة ، ونظراً لإيماني وتراثي، كنت أتصرف ائما بصورة محترمة، ومن غير أن اكون مغروراً، أستطيع القول إنني أنتمي إلى طبقة عليا ومميزة، ضف إلى ذلك أن مدينة حلب تصنفني بين أبرز العلماء الأئمة والخطباء والفقهاء، وبهذه الصفة أنا معفى من العقوبات المهينة حتى لو كنت أستحقها ، كيف إذن يتم تحقيري فقط من أجل أوراق تافهة، وعلى مرأى من أصدقائي وأعدائي؟ أترك الحكم للعدالة المنزهة والمعروفة لصاحب الجلالة السلطان وأضع أمامه وصف حالتي التعيسة، وللمرة الثانية خلال يومين، ومنه ألتمس الرحمة والحماية".
محاولة اغتيال
وأخيراً وقع ما يمكن اعتباره القشة التي قصمت ظهر البعير، فقد أطلق محام أرمني الرصاص على الوالي وهو في طريقة من منزله إلى مركز الولاية، فأخطأه. لم يكتف جميل باشا باعتقاله، بل عمد إلى اعتقال نخبة من قادة حلب وعلى رأسهم الكواكبي بتهمة تحريض المحامي زيرون، ولكن الأخير لم يكن بحاجة لإلى من يحرضه عل قتل الوالي، ذلك أن جميل باشا قد اضطهده وسحب منه رخصة المحاماة لأنه كان يدافع عن المظلومين إلا أن رصاصات زيرون الثلاث التي أخطأت جسد الوالي قد أصابت الكرسي الذي كان يتربع عليه ويمارس استبداده، فالمحقق الاستثنائي صاحب بك المرسل من الباب العالي والمشهور بنزاهة، كان مقتنعاً ببراءة الكواكبي ورفاقة، وبفساد الوالي. لذلك سارع إلى قطع الطريق على استغلال حادثة زيرون. فنقل جميل باشا من ولاية حلب. وأفرج فوراً عن الكواكبي وسائر المعتقلين، وباعتبار أن صاحب بك لم يكن السلطان عبدالحميد، فإن مسلسل الاستبداد لم ينته فصولاً في حلب.
يبقى أن المعركة مع الوالي لم تكن كلها خسارة بالنسبة للكواكبي. فقد كانت أحد المختبرات التي "درس" فيها مقولتي الحرية والاستبداد ومشتقاتهما. ومن المؤكد أن كتابة الخالد "طبائع الاستبداد" كان ثمرة صراعه مع الولاة الظالمين والسلاطين المستبدين وفي طليعهم جميل باشا والسلطان عبد الحميد أكثر مما هو ثمرة مطالعاته لكتاب النهضوي الإيطالي الفييري وأمثاله.