في لغة مليئة بالألفة والبساطة تكشف المرأة العربية في سوريا عن بعض من أحاسيسها الدفينة. وهي هنا تتوق إلى حرية مازالت مفقتدة. وإلى انعتاق مازال أمده بعيداً. أن "العربي" بهذا الملف عن بعض الأصوات النسائية في القصة السورية تفتح نافذة على أدب المرأة في عالمنا العربي وتشرع في خطة طموح من أجل عرض تضاريس هذا الأدب واستجلاء ملامحه وهي أيضاً تعطي الفرصة لأصوات مبدعات هذه الأمة أن تعلو وأن تغضب وأن تعبر عن هذا الغضب.
استأذنها ليعلق معطفها الوحيد الذي تلبسه منذ أكثر من عشرة شتاءات متوالية، تأملته يحمل معطفها علي ساعده ويعبر ردهة طويلة واسعة مفروشة بسجاد فخم من اللونين الأخضر والرمادي الفاتح، ويغيب في آخر الردهة منعطفا إلى اليمين متجنبأ الاصطدام بجرن نحاسي كبير مزخرف، يحمل شجرة خضراء صغيرة لم تر في حياتها أجمل منها، أخذت نفسا عميقأ وهي تنقل بصرها فى الصالون المريح الواسع، وجسدها يغوص في الأريكة المخملية مسترخيا مرتاحا، تأملت اللوحات الرائعة التي تزين الجدار عن يمينها وقد رتبت ترتيبا أنيقا كالدرج، وقامت عن الأريكة مستندة على يديها لتنتشلهـا من السرير الطري الذي أحدثه جسدها في نسيج المقعد اللين المخملي واقتربت من اللوحات المتماثلة في المساحة والإطار الخشبي الرفيع، وأحست بالافتتان من المناظر الطبيعية الخلابة التي تصورها هذه اللوحات التي كانت مرسومة بالألوان المائية، وتوقفت طويلا عند لوحة البحر، وانتقل إلى نفسها هدوء البحر وسكونه.
لم تشعر بخطواته حين اقترب منهـا ووقف إلى جانبها متعمدا أن يقتل المسافة بينهما، سألها بانشراح: أتعجبك اللوحات؟ قالت وهي تشعر بمدى سعادته وشعوره بالنصر من قبولها دعوته : كثيرا. رد بافتخار: عندي مجموعة هائلة من اللوحات، أترغبين في رؤيتها؟ نظرت إليه متصنعة الابتسام: أجل. ربت على خدها الدافئ وقال بود: الآن؟
قالت وهي تحس بذلك الشيء الوحيد الذي ينتظره الحصول عليها: أجل.
أمسك يدها وقال : تعالي..
تركته يقودها ممسكا بيدها وهي تعي بعمقى أنهما كيانان منفصلان يستحيل أن يندمجا في العمق، وأن عالمها لن يكون عالمه أبدا، خطان مستقيمان لايلتقيان، وأكدت لها مشاعرها أن ماتكنه له هو الكراهية الفعلية، وأخذت تتأمل روعة الصالون الذي بدا لها عالما كبيرا من الزجاج، فواجهـاته كلها من الزجاج المدخن الممتد من السقف إلى الأرض، توقفت وهي تقول له: تعال نخرج إلى الشرفة، المنظر منها بديع.
كان سعيدا مغتبطا كطفل صغير حصل على لعبة تمناها طويلا، سحب أحد الأبواب الزجاجية وخرجا إلى الشرفه الواسعة، ولم تبال بالهـواء العاصف، كانت تطل على. المدينة من الطابق الخامس، امتلأت نفسها غبطة وقالت وهي تلقي برأسها إلى الخلف مستمتعة بالريح تطير شعرها، وتلسع وجهها ورقبتها: أحس أنني أقرب إلى السماء مني إلى الأرض.
قال وقد شجعه الهـواء العاصف على الاقتراب منهـا واحتضانها:- أنا لايهمني أن أكون قريبا لا من السماء ولامن الأرض، بل منك، ضحكت بتصنع وهي تنفلت منه، وتسير بخطى سريعة على الشرفة وقالت بصوت مرتفع؟ لتتغلب على صوت الريح: أتعرف أنت تشبه الأطفال.
أخذ يرتجف من البرد قال لها وأسنانه تصطك: تعالي، سنتفرج على المنظر من خلال الزجاج. بدا اقتراحا معقولا، دخلا، فأغلق الباب الزجاجي بإحكام، وغزاهما دفء الشوفاج اللذيذ، وقفا ملاصقين للزجاج، وامتدت يده الحرة لتكتب على البخار أحبك، ضحكت وهي تحسه مراهقا صغيرا تعطف عليه، وليس رب عملهـا، رجل الأعمال الثري الذي يعد من أهم رجال الأعمال في المدينة، غادرتها حالة البهجة العصبية التي أحستها للحظات، وتخيلته يكتب هذه الجملة لكثيرات من قبلها، وكثيرات سيأتين بعدها إلى هذا المنزل الأسطوري، أوه لايهم، فهي لاتحس بالغيرة لأنها لاتحبه، كما أنها ليست صيدا ثمينا، لأنها رافقته بكامل وعيها وإرادتها.
قادها من يدها إلى الصالون الثاني الكبير الذي يفصله عن الأول البار والبيانو، وواجهـة كبيرة لخزانة زجاجية تضم أشكالأ غريبة ومتنوعة من كئوس الكريستال، والفضيات الفخمة المطعمة بالذهب، وتحفا صغيرة من الجاد والعاج، تركته وجلست على مقعد البيانو المخملي الأحمر، ورفعت الغطاء الخشبي الفخم، فسألها: أتجيدين العزف؟
ردت: أجل
سألته: وأنت؟
قال: إطلاقاً.
أحضر كأسين من الكريستال لهما ساق زجاجية طويلة، وسألها: مارأيك أن نشرب شمبانيا نخب زيارتك الأولى لي.
قالت: كما تريد.
وأخذت أصابعهـا تعزف بمهارة لموزارت، وطغت صورة الراهبة الكهلة ماري كلير فوق أصابع البيانو، ماري كلير المدرسة الخاصة للبنات التي كانت تعطف عليها وتحبها وتسمح لها بأن تتتعلم العزف على البيانو مع الطالبات الثرياث، وهي ابنة سائق الباص الخاص بالمدرسة، وفي طفولتها لم تشعر بالفروق الطبقية بينها وبين الطالبات المدللات المترفات، ربما تفوقهـا عليهن بالدراسة كان تعويضا قويا، حتى في دروس اللغة الفرنسية توقفت، كانت تهوى الفرنسية، وأحب تسلية لنفسها كانت أن تلقي أشعارا بصوت عال لأشهر الشعراء الفرنسيين، وكان والدها يطرب سعيداً من سماعها برغم أنه لايفقه شيئا مما تقوله، لقد أعفته الراهبة من الأقساط، وسمحت لأولاده الأربعة بأن يسجلوا في المدرسة الخاصة التي تشرف عليها الراهبات، ساعتها نظرت إليها الراهبة بعينيها الزرقاوين الصغيرتين الغائرتين وهي تعزف، وقالت لها وهي تفتح ذراعيها لتحضنها: إذن سناء ثابري على اجتهادك، فأمامك مستقبل مشرق. ضحكت وقذ توقفت عن العزف، كان يقف إلى جوارها مسندا ساعده إلى ظهر البيانو، يتأملها وهو يمسك كأس الشمبانيا بيده، ويرشف منه رشفات كبيرة، قال لها:عزفك رائع، ضحكت وسألته: كيف عرفت أنه رائع.
رد ضاحكا: أوه هكذا أحس، كل شيء يصدر عنك رائع.
قدم لها كأس شمبانيا، فأخذتها وهي تبتسم بخجل؟ أحست أنها في قلب الموقف وأن التراجع مستحيل، سألها: لماذا ضحكت حين انتهيت من العزف؟
قالت وهي تتجرع رشفة كبيرة من الشمبانيا: لقد تذكرت ما قالته لي الراهبة ذات يوم، أن مستقبلا مشرقا ينتظرني. قال مؤكدا قول الراهبة: أجل، معهـا حق ياسناء أنت فتاة خارقة، تستاهلين أفضل عيشة. أمسك يدها، ومشيا متلاصقين، كانت الشمبانيا قد ساعدتهـما في إزالة الحرج بينهما، وتساءلت كم من الأشهر أو السنوات ستستمر علاقتها معه رئيسها وممولها، وصعب عليها تحديد الاجابة، تنبهت لصوته يسألها: أين تفضلين الجلوس في الصالون الأول أم الثاني؟
ردت بمرح: أليس هناك صالون ثالث؟
ضحك قائلا: لا، لكن في بيتي الجديد هناك أربعة صالونات.
وسألته بحقد واحتقار: ومتى سينتهي إكساء البيت الجديد؟
قال بحماسة: الله أعلم، المهندس المشرف يقول ستة أشهر ويكون جاهزا.
قالت بنفس الاحتقار: أوه ستة أشهر كثير.
- معك حق، لكنك تعلمين صعوبة استيراد السيراميك، وورق الجدران الأجنبي، إلى ما هناك من لوازم.
اقترحت أن يجلسا في الصالون الأول حيث يمكنها أن تتأمل اللوحات وتسرح بنظرها عبر راجهات الزجاج السميك، لترى المدينة ممتدة تحت نظرها.
سألها أحب أن أعرف شعورك نحوي، سألته بسخوية مبطنة: أيهمك كثيرأ شعوري نحوك؟
رد بآلية: أجل.
قالت: لا أظن.
نظر إليها باستغراب وقال: كيف؟
قالت بثقة: أنت متزوج ورجل أعمال ناجح، وأنا أعرف علاقاتك النسائية السابقة. وقاطعها محتدا: أنت مختلفة صدقيني، لاتقارني نفسك بغيرك من النساء.
ضحكت وقد أخذ شعور بالعبث واللاجدوى يعربد في داخلها، تجرعت الشمبانيا حتى القطرة الأخيرة وقالت له: أتعرف! شيء جميل أن تجلس في بيت مدفأ بالشوفاج، تتحرر من ثقل ملابسك، لوتراني في البيت كيف أبدو ألبس جوارب صوفية، وروبا سميكا، وشالا من الصوف، وأتحلق مع إخوتي حولى المدفأة الوحيدة الأثرية، ونرتجف من ماء الحنفية البارد، ودوما نسخن الماء للاغتسال والجلي، كانت تتكلم بصوت رخو من تأثير الكحولى وكأنها تحدث نفسهـا، لم يبد عليه أنه يتابع حديثها أو يفهمه، كان يتأمل عنقها الأبيض ويتمنى لو يفك أزرار قميصها الوردي الشفاف، وكانت تشعر برغبته وتتملص منها، لكنها تعرف أنها ستوافق بالنتيجة، وأن هذا الموقف كانت تفكر به منذ أكثرمن ستة أشهر منذ قبلها لتعمل عنده في مكتبه التجاري.
في الأشهر الأولى كانت تراقب هذا العالم الغريب عنها تماما، الصفقات. والأرباح بالملايين، الأسفار، الثياب الفخمة، الأحلام-التي تصير واقعا بلحظة،: وهي تجلس وراء مكتبها تقرأ المجلات أو تترجم بعض الأوراق، ويأتي المدير بأوقات لايمكنها أن تتبنأ بها أبدا، فقد يصادف أن تحضر إلى المكتب في الصباح الباكر فتراه، وقد لايأتي أياما متتالية، ثم يحضر فجأة، ولاينصرف أبدا كأنه قرر الإقامة إلى الأبد وراء مكتبه. أكدت لها الأيام أنه معجب بها، يتمنى لو تصير عشقيته، فثارت كرامتها وتحسبت لمواقف لم تحصل، وعزمت أن تلقي مفاتيح المكتب في وجهة لو حاول التحرش بها، ولكن هذا اليوم لم يأت، وحين دعاها إلى مكتبه ذات يوم، وما كان أحد غيرها استنفرت وقالت لنفسها سأريه الآن من أكون. لكنه طلب منها بكل لباقه أن تنزل إلى السوق لتشتري ثلاثين قلما فخما هدايا للعملاء، وأعطاها رزمة من النقود، وقال لها تصرفي، عندي مشاغل كثيرة، سأعتمد عليك.
أمسكت رزمة النقود بيدها، وللحظة تخيلت أنها تملكها، وانتابها. شعور بالاستقرار والسعادة، وأنصرفت من مكتبه وهي تتساءل لماذا لم يتحرش بها؟ لكان أملها قد خاب، عجبا أما كانت تقرأ الرغبة في عينية دوما، وتضبطة كيف يتلصص عليها عند انحسار تنورتها أو من فتحة قميهصا، وأحست بالغضب يعصف بها كأن أنوثتها طعنت في الصميم، فها قد خلأ المكتب، ولم يكن سواهما موجودين ثقيلين حقيقيين، فلم يُسمعها كلمة غزل واحدة، ولم يتحرش بها، أتراها كانت واهمة، أما تراه منشدا لها يتمنى التقرب منها .
وصلت إلى المكتبة الفخمة بثقة وهي تشعر أنها صاحبة النقود، فتحت حقييتها وابتسمت رغما عنها وهي تتأمل رزمة المال.
لأول مرة تخاطب البائع بثقة وقد تلاشى الخوف من السعر الذي سيطلبه، قالت له: أريد أفخم أنواع الأقلام لو سمحت.
عدت النقود وسلمتها للبائع هرول أمامها يفتح لها باب المكتبة، أمكنها أن تحس للحظات أنها سيدة مهمة محترمة يسعى الجميع لمراضاتها، وفي طريق العودة قفت طويلا تتأمل الواجهات، يشتاق جسدها لفستان جميل، لحذاء مريح، وتأرجحت مشاعرها بين غضب عاصف ورغبة عميقة في البكاء.
حين وصلت إلى المكتبة كان داخلها محتقنا كبخار لايجد منفذا للانطلاق، كانت شاحبة ومرهقة كما لو أنها لم تنم منذ أيام، قدمت له كيس الهـدايا، وفتحت حقيبتها لتعيد له مابقي من النقود، أخذ الكيس شاكرا، وحين همت بالانصراف ناداها برقة: سناء، انتظري.
نظرت إليه بشرود، كأنه ليس حقيقيا أمامها، أحست أنها لم تعد شجاعة مستنفرة كالسابق، وأنه لو تحرش بها الآن فستحتاج إلى مجهود كبير كي تصده، قال: أرجوك اقبلي مني هذا المبلغ. هدية.
قالت ببرود وما المناسبة.
- في كل عيدم أقدم هدايا للعملاء والموظفين عندي.
كانت نظرتها تتلوى فوق يده الممدودة، وبدا لها كأن دهراً قد مر وهي تتأمل يده الممدودة، وافتكرت الحذاء المريح الذي تحتاج إليه، وأسرع عقلها ينجدها، إنه يقدم الهدايا للجميع، فلماذا لاتقبل منه الهـدية والعيد قريب، وأي ضرر أن تدخل البهـجة لقلب اخوتها بشرائها علب حلويات فاخرة.
اشترت الحذاء الجميل، كانت سعيدة وكئيبة في وقت واحد، وكان وجهها يتقلص تقلصات لم تحزر في تحديد نوعها أهي إنذار بالبكاء، أم هي ضحك حقيقي كادت تنساه، بل نسيته فعلا، وهي مسجونة خمس سنوات في بيت أهلها العتيق لاتملك قرشا في حقيبتها.
بعد أيام استدعاها المدير، كانا منفردين في المكتب الواسع، تحفزت هذه المرة، وتوقعت أن يتحرش بها، وأكدت لنفسها أنه كان ذكيا، فقد أعطاها المال معتقدا أنه ملك زمامها، ستصرخ بوجهه وسترمي مفاتيح المكتب أمامه، وتقول له بتفاخر: لن تشتريني بألف ليرة ياقذر. لكنه طلب منها هذه المرة أن تعطي ابنه دروسا خصوصية في اللغة الفرنسية، كان يحدثها بلباقة واحترام، وطلب إليها أن تصنع القهوة فهو يشكو من صداع، وجلسا يرشفان القهوة وهو يحكي لها ماضيه البطولي في محاربة الفقر، وكيف نجح وصار ثريا، وكيف ضرب ضربات ربح من ورائها الملايين، كانت تحتقره وتعرف أنه لص ومنافق، لكن وجهها لم يكف لحظة عن الابتسام له بكل ود واحترام زائفين.
تعرفت زوجته وأولاده، قالت لأمها: لم أجد أغبى من ابنه، أنه حمار، تصورى يا أمي لا يستطيع أن يركز لحظة وأحدة،- إن ذهنه مبعثر كحفنة رمل تذرينها في كل اتجاه.
ردت أمها: هكذا الدنيا، لا أحد كامل، إمأ فقير ذكي، أو حمار غني...
وعلى بساطة هذه الجملة فإنهـا أنتفضت وتوقف ذهنها طويلا عند هذا الكلام وقالت محتجة:
- ولكن هذا ظلم.
- أوه يا ابنتي هذه حال الدنيا، منذ الأزل هناك الغني والفقير.
وردت بحدة لا، هذا غير مقبول أبدا، فهل يعقل أن يملك الحمار الغبي كل هذا المال.
بعد شهرين من تدريسها لابنه، لم يسألها كم تريد ثمناً للدروس الخصوصية، اجتاحها شعور بالسخط والغضب، وتساءلت: أيعتقد أني سأعلم ابنه الغبي مجانا، وأحست أنها مستغلة، لكنها فوجئت ذات عصر بباب بيتها يقرع وبحمالين يحملان غسالة أوتوماتيك قالا إنها من المعلم، وأنه سيأتي بعد نصف ساعة ليزورهم، انتابتها حالة من الهياج، فلم تعرف كيف تتصرف، لكنها كانت ترتعش بسعادة غريبة، كما يرتعش جسد من الحمي، قالت لأمها: لقد أهدانا غسالة أوتوماتيك، مقابل تدريسي لابنه.
صاحت أمها غير مصدقة:
غسالة؟ وتابعت لاهثة أسرعي رتبي البيت، سيأتي الآن، آه كيف سنستقبله في بيت حقير كهذا، ألقت ثيابها القليلة على السرير، واحتارت أي فستان تلبس أرادت أن تبدو جميلة فاتنة، أحست أن أنوثتها تشع من مسامها كما يشع الدفء من الشمس ،.وقالت لنفسها: إنه رجل طيب سيدخل ييتنا أي يحترمنا، وتذكرت والدها بحزن أليم، قالت لقد قتله الفقر.
دخل المعلم، وجلس علىالأريكة اليابسة، وشرب القهوة وهو يتأملها بدفء وشوق، أرتعشت من نظراته، امتدحها كثيرا أمام أمها، نظر بشفقة ليدي أمها المشققتين، قال لها: آن الأوان لكي ترتاحي يا أم سعيد. وبعد نوبة السعادة العصبية التي حلت بها بعد دخول الغسالة الأوتوماتيك إلى البيت الفقير، أصابها هبوط حاد، أحست أن داخلها خواء، وأنهـا تسمع صوت نحيب بعيد، كيف قبلت هذه الهدية؟ كيف فرحت لهذا الحد؟
لم تنم تلك الليلة، وفي اليوم التالي قررت أن تواجهه، ستقول له بصراحة، إن الغسالة لا يمكن أن تكون ثمنا للدروس، وإنها لاتستطيع أن تقبل هدايا غالية، وإذا رد بسخرية: لكنك قبلتها البارحة، فستجيب بكل ثقة: لقد أخطأت، والأن سأصحح الخطأ.
لكنها استيقظت على صوت الغسالة تعمل، كانت أمها سعيدة، وقد ملأت الغسالة بالثياب المتسخة وقالت لها: ياسلام ياسناء، سنوات وأنا أحلم بالغسالة، سنوات طويلة. خرجت ولم تقل شيئاً.
لم تستطع أن تكلمه، كان المكتب يغص بالعملاء والموظفين، طلبها بالهاتف وأخبرها على عجل أنه دعا مجموعة من العملاء الفرنسيين إلى الغداء في بلودان، ويريدها أن تكون معه للترجمة وأكد لها أن تكون جاهزة تمام الساعة الواحدة والنصف ليصطحبها معه.
كان الغداء فى فندق بلودان الكبير المطل مباشرة على الوادي، والطبيعة الفاتنة تكشف بسخاء عن لسحرها وفتنتها، قامت بسرور بالغ بدور الترجمة، ولمحت نظرات الإعجاب فى عيون الفرنسيين، كان قد دعا أربعة عشر شخصا للغداء، كلهم من رجال الأعمال والتجار، وأحست أنها نجمة تلمع وسطهم وهي الشابة الحلوة المثقفة، كانت الصفقة التي يتفقون على تفاصيلها هي استيراد نوع متطور من الألمنيوم أرخص وأمتن من الألمنيوم المستعمل، وأبدى رئيسها في العمل الرغبة الشديدة في إنشاء معملى في دمشق تحت إشراف مختصين. فرنسيين، وقال إنه مستعد للتكاليف كاملة.
لأول مرة تتناول طعام الغداء فى مطعم فخم، وأسفت على بقايا اللحوم والأسماك التي بقيت على الطاولة بكثافة، وفي طريق العودة كانت وحدها تجلس بجانيه في سيارة البويك الزرقاء، كان وقتا مثاليا ليبوح لها بعواطفه دون أن تمتد يده لتلتقط يدها، قال لهـا على ألحان موسيقى أجنبية هادئة، إنه مفتون بهامن أول مرة رآها، ولاينفك يفكر بها، وأنها تستأهل كل خير، ويتمنى أن تعيش بأفضل مستوى، وشكا لها وحدته، وفشل زواجه، وأنهـا أمله الوحيد وهو يقترب من عقده الخامس، وأنه يتمنى أن يكون خاتم سليمان، تأمره فيلبي
كانت تصغي وصورة أمها فرحة بالغسالة لاتفارق خيالها بل تتنطط أمامها على الطريق،أصوات نسآئية في القصة السورية وصور إخوتها يرتجفون من البرد وهم يقطعون ساحة الدار العريية العتيقة ليدخلوا الحمام المظلم، أو المطبخ المهلهل، تتراقص في ساحة رؤياها الواسعة، واستطاعت بثوان، أن ترى حياتها مفرودة أمامها، الطالبة المتفوقة الموهوبة بالعزف على البيانو، خريجة الآداب، الحاصلة على درجة امتياز، هي نفسها الشحاذة الفقيرة التي لهثت طويلا وراء وظيفة لن تحصل عليهـا أبدا، آه والغسالة الأوتوماتيك تغسل وحدها، تغلي وتنظف وتعصر، أغمضت عينيها وهي لا ترى سوى الظلام وحين فتحتهما كانت الطبيعة مثلها تغرق في الظلام.
حين أوصلها إلى البيت قال لها وعيون الرغبة تنصب حولها شركاً محكما: سناء أنا فخور بك، لقد كنت اليوم فرنسية أكثر من الفرنسيين.
وقبل أن تغلق الباب وراءها، قال لها برجاء: سناء فكري بما قلتة لك المعادلة صريحة واضحة وعليها أن تقرر.
أتاها صوته حالما بعيدا يعيدها من خيالاتها الكثيفة: إيه أين سرحت؟.
قالت وهي تتناول كأس الشمبانيا وترشف منها رشفات صغيرة متلاحقة: أتعرف يبدو أن الطوابق العالية تطلق الخيال.
اقترب منها، وطبع قبلة طويلة لزجة على عنقها، قال بهمس كالفحيح: لقد أطلقت خيالي من أول مرة رأيتك فيها.
اقشعر جسدها للحظة، وهمت بالانتفاض، لكنها تجرعت دفعة واحدة كأس الشمبانيا، وأحست أنهـا تسترخي وتبتسم، واحتوت بنظرها المدينة اللامتناهية المطلة من خلال واجهات الزجاج العريضة، كان جسدها يتحرر من أثقاله، ربما بفعل سريان الكحول في دمها، ومن دفء الشوفاج اللذيذ، تمنت لوتفتح الزجاج، وتطير بغيمة تائهة، تمدد على الأريكة مسندا رأسه إلى حضنها تأملته ووضعت يدهاعلى رأسه، سألته ساهمة: ألازلت تعتبر نفسك خاتم سليمان؟ مد يده فك أزرار قميصها ويقول بنفاد صبر: أطلبي ما تشائين.
أغمضت عينيها وهي تتخيل أنها تغوص في أعماق غيمة شاردة.
فستان الشيفون الأسود
بقلم : أنيسة عبود
لا أعرف لماذا انزعجت..
كنت أرتدي فستان الشيفون الأسود، وكنت أعاني صداعاً نصفياً حادا،ً الغرفة المحجوزة لي في الطابق الرابع واسعة، بسريرين ونافذة تطل على ساحة المدينة. قرنفلة حمراء في الكأس؟ حبوب الصداع على الترابيزة، شراشف ملونة كأن خريفاً تساقط عليها. موعد الحفلة لم يحن بعد، مازال الطريق الذي اجتزته عالقاً بقدمي. أشده من الغرب! أشد البحر إلى تلك المدينة الصحراوية، يتنازعنى صمت وباب ونافذة وانتظار، وبهو في الطابق السفلي يخبئ لي المفاجآت، ومساء لا أعرف كيف سأطوي عتمته، وهاتف أخرس طيلة الوقت يرن فجأة، أنظر إلى الغربة، كل حطام روحي جمعته وجلبته معي. نزف أمي، نزف الزمن، صراخ أبي، وجوه بعض الأصدقاء، ثم الصداع.. إني لا أترك شيئا حين أسافر، من فرشاة الأسنان إلى آخر الهموم.
قلت: أمثالي لا وقت لديهم للفرح، فلماذا أصروا على دعوتي.
الهاتف يرن. إن أحدا ما تذكرني أخيرأ! أو لعلة وجدني أنا الهاربة أبداً.
ولكن أنا لماذا انزعجت؟ لا أدري.
كنت متأهبة لملاقاته، فقد حدثني عنه أحمد كثيرأ حتى قلت له مرة:" لقد صرعتنى به " ابتسم وقال: "اسمعي.. إنه رجل رائع، وهو صديقي جداً جدا،ً مرة أعطاني السماعة وقال: سلمي عليه".
كدت أغلق الخط، لماذا أسلم على رجل لا أعرفه، لم أحب هذه الطريقة، "أهلاً حدثني أحمد عنك كثيراً ".
وأنا كذلك، نحن نعرف بعضنا". وإذا أغلقت السماعه لا أعرف لماذا اعتراني الفضول لأشاهد هذا الرجل. ثم تتالت حواراتنا عبر الهاتف في المناسبات، كان يعرف عني كل شيء من خلال أحمد، وكان قد شاهد بعض لوحاتي المرسومة على الخشب، وأنا بالمقابل عرفت عنه أشياء كثيرة ولكنها لاتهمني. مع ذلك وجدتني مع كل هاتف أرسم له شكلاً معيناً. مرة أعطيه شكل أخي الكبير، ومرة أعطيه شكل أبي، ولكن سرعان ما اعتقد بأنه يشبه خالي كامل، هكذا، طويل، وسيم عريض المنكبين، له صوت جميل، ربما كان أجمل من خالي.
في مكالمة تالية، أعطيته شكل عمي، قصير القامة، ممتلئ الجسم، أسمر الوجه، بعد ذلك أمحو كل هذه التطورات، زاعمة بأنها لا تعنيني.
كان أحمد صلة الوصل بيننا، صرت أعرف متى يسافر على، ماذا يحب، كيف يعيش تقريبا. ولكن كنت أثبت لأحمد دائما أن اهتمامي بعلي الذي لم أره ابدأ يعني اهتمامي بأحمد، وعندما كنا نتحدث علىّ وأنا، كان أحمد محور الحديث، لكن أحيانا كنت أدير ظهري لكل هذه المجاملات والطقوس وأتمرد على قوانين العلاقات المعتمدة على الزيف والترحيب في الوقت الذي نكون فيه نكاد ننفجر، وكنت أبرر لنفسي دائما، لا شيء يقيدني، أنا أتحدث مع من أشاء، هذا الـ علي لا يعنيني كصديق، إنه صديق صديقي وكفى، عالمه غير عالمي، وهمومه لا تشبه همومي. إنه لا يقع ضمن دائرة تخيلاتي، والقواسم المشتركة بيننا قليلة.
عاتبني أحمد بشدة، قلت له: أن لنا أن نختار أصدقاءنا، ما عدت قادرة على المجاملة، آن لي أن أكون أنا. أنا "ولكن علي رائع" هه... لا أحد رائع إلا بعد تجربة، كنت ملدوغة من الزمن ومن الأصدقاء، لذلك كنت سريعة الحكم والهروب، ولكن لماذا انزعجت عندما تقابلنا لأول مرة؟لا أعرف، لا أعرف.
***
كان تشرين في أواخره...
"هوى" تشرين يحرر الورق الأصفر الحزين، الغيوم تتكدس وراء نافذة الغرفة، الغرفة في الطابق الرابع، تطل على ساحة المدينة، الساحة واسعة موشحة، غريبة. الباب مقفل وأنا غريبة ومتعبة لا أعرف كيف أرمي أكداس القلق من هذه النافذة ليحط في الساحة، يتشظى، يتناثر، يمر الناس، يقولون: امرأة بحرية رمت قلقها وأسماءها ووجعها الساحلي في ساحتنا، فهـل لأحدكم اعتراض؟
كنت أسمع الجدران تتكلم، "سيعترض عمال البلدية، سيعترض رئيس البلدية، والمحافظ. سيقولون: من أين لنا بالعمال ينظفون هذا الكم الهائل من الحزن والقلق والهذيان المتناثر في الساحة".
ينتشلنى الهاتف الذي يرن، أركض إليه حافية، أتزحلق، أصطدم بحافة السرير، أقع. أظل على الأرض مكومة، يتتهي الرنين وأنا لا أقدر على النهـوض، ظننت أن صديقي يستعجلني، أتلمس صدري، أعتقد أن ضلعا قد كسر، نهضت بتثاقل، شتمت الفندق، وعماله الذين رفعوا الموكيت، وشتمت الذي اتصل، عاد الهاتف إلى الرنين، رفعت السماعة، حاضر، سا.. ولم أكمل، قال: "أنا على، علمت أنك موجودة هنا، هل أقدر أن أراك؟"، "طبعا"،.
تلعثمت، أنا في الغرفة "407" أنا في الطابق... في الجهة... في المدينة النائية التي تحردني من اسمي وعناويني، وليبقى شكلي الخارجي فقط، أنثى سمراء، طولها كذا... وزنها كذا... مرت هنا و.... قال : مسافة الطريق
***
مسافة؟!
أي مسافة يقصد؟ الآن سياتي، يريد اجتياز الساحة التي تفصلني عنه! سيرى الساحة المملوءة بالتماثيل الصغيرة التى فرخها التمثال الكبير، لن يستطيع العبور، عليه أن ينحني ويلتف، تماثيل القلق التي نثرتها في الساحة تشكل مطبات وحواجز، ولكن كل هذه التماثيل أنا جلبتها.
ربما.. أحاول اختراع حوار أحدث به علي وجهاً لوجه، عن أي شيء سنتحدث؟ أوه...الصداع يشجني، استلقي على السرير، غيوم تتساقط في الغرفة، صدري يؤلمني، لابد أن ضلعأ قد كسر، ليكن، أصير ناقصة ضلعين بدلاً من ضلع واحد، سيكون ذلك ميزة أنثوية فائقة بالنسبة لي، أتأوه وحدي. أتقلب بهدوء على السرير حتى لايتجعد فستان الشيفون الأسود، المنسدل على جسدي "ترى كيف يتصورني علي؟".
أنا أتصوره وسيمأ، أنيقاً، أحمد قال إنه دار العالم، نهـل من ثقافات كثيرة، وتعرف على نساء كثيرات، إذن يجب أن يكون وسيمأ، بالتأكيد هو لايشبه فلاحي قريتي المشققة أكفهم بالمطر والوحل والشقاء، ولايشبه زملائي الموظفين الذين يرتدون القميص طيلة العام، يغسلونه ويكوونه، ثم يعيدون الكرة حتى تتنسل خيوطه ويجرد لونه، قد يشبه ابن عمي عامر الفنان، أو يشبه زوج صديقتي الجراح الكبير، أو ... يقرع الباب، أنهض أسدل ثوبي الأسود. "من؟".
"أنا علي".
أدير قبضة الباب، القبضة لاتدور، أحاول شدها، أجرح أصابعي، أقول له: لحظة، يظنني مشغولة بوضع العطر، أعارك الباب مرة أخرى، أرتبك " الباب لاينفتح يا أستاذ" يدير هو كرة الباب، أخيرآ ننجح، هاهو أمامي. أتراجع إلى الوراء، تتلعثم أصابعي، أرتدي إلى كلمة "تفضل".
جلس إلى حافة السرير، ظللت واقفة، تأملني، أطرقت برأسي إلى الأرض، ساد الصمت.
***
ماذا لو أن الباب لم ينفتح؟
أنا أعرفك جيدأ" قال كي يكسر زجاج الصمت، لم أستطع الكلام، أربكتني الدهشة، وأحزنني الرهان الخاسر مع خيالاتي، للأسف هو لايشبه أبي ولاعمي ولا أخي الكبير، إنه لايشبه خالي، ولايشبه عامر، لماذا؟ لماذا؟ لقد خسرت مع نبوءتي، إذن الصوت لايحدد الشكل، ولكن لماذا انزعجت؟ ماعلاقتى به؟
" أتشرب قهوة؟"
"لا.. لن أعطلك عن الحفلة".
أعتراني إحساس بالحزن والأسى، هكذا ببساطة يأتي، وببساطة ينسحب "لن أعطلك" ما أثقل هذه العبارة، أيه.. ليكن، أظنه جاءليرى شكلي، وأنا كنت أريد أن أرى شكله بعد عدة حوارات. ولكن لماذا حضر الشكل وغاب الحوار؟
نزلنا معا إلى البهو، ودعني، كانت يده باردة، وصوتي باردأ، راقبته من بعيد، تكسر غصن برتقال في روحي، هل كنت أنتظر صور، أخرى لصوت أعرفه؟ لا أعرف.
في السهرة نسيت اللقاء، وعاتبت نفسي كلما تذكرت انزعاجي. ليكن طويلاً، قصيراً، ئحيلاً، شابا،ً عجوزا،ً بشعاً! أنا ما علاقتي به؟
مع ذلك لم يغير اللقاء من طريقة الحوار، نبدأ بالطقس يسألنى عن أخر لوحاتى، وننهي الحوار بالحديث عن أحمد. لكنى صرت أستفقد هواتفه عندما تتأخر، وشيئا فشيئا صار وجهه يطغى ويحتل غرفتي، لم أكن أخطط لذلك فأنا لا أميل بالتدريج، دائماً أخشبى اللقاء الأول. ولقاؤه الأول به مر، لم يبق في ذاكرتي إلأ لون ثيابه والباب الذي رفض أن ينفتح- مباشرة.
"أتذكر ذلك؟!"
غمرني بعينيه، قال: أذكر، وأذكر ماذا كنت ترتدين، إنه ثوبك الشيفون الأسود، الجميل، المثير، الـ... وأنت كنت ترتدي الأخضر، يومها لا أعرف لماذا انزعجت؟ لم أخبرك إلأ بعد زمن طويل وكان الوقت ليلاً، والهواء الشمالي يعصف بالمدينة، الأشجار خائفة، المدفأة تئن. وأنأ أرسم، وإذ رن الهاتف وسمعت صوتك أرتبكت، رحت أهرب من أرتباكى بأسئلة عبارة عن الطقس والبرد والمكان الذي تتكلم منه.
"أتكلم من المدينة التي التقينا بها".
"صحيح؟ صرت أحب تلك المدينة".
"عندك برد كثير؟ بردانه؟". "أجل..."
"تعالى أدفئك.. ألو... ساد الصمت، وجهك ملأ الغرفة، انصهرت "ألوان ثيابك مع ثوبي الشيفون الاسود، لماذا قلت هذه الكلمة، يبدو أن لكل حالة توحد كلمة واحدة، قد نقضي العمر ولانجدها، وقد نجدها فجأة بين ركام الكلام والوجوه والألوان، فتزيل ركام تماثيل القلق من الساحات وتوقف عاصفة البرد، ماذا لو لم أرتد فستان الشيفون؟ وأنت لم ترتد الأخضر، ماذا لو أنني ماجئت الحفلة والباب لم ينفتح؟ أكنت ستظل صديق صديقي لا أكثر؟ طوقني بذراعيه، شعرت برائحته تتغلغل إلى مسام روحي، تأملته.. إنه ليس الذي رأيته أول مرة، إنه الذي أراه بقلبي، يبدو أننا عندما نحب نرى بقلوبنا لا بأعيننا. أميل رأسي إلى صدره ماذا لو أن الباب لم ينفتح؟ همس مع ذلك كنا التقينا، دائما هناك أثنان يجب أن يلتقيا، تصير هي كل النساء ويصير هو كل الرجال، أليس كذلك؟ صمت شعرت أنني لم أعد قادرة على الكلام.
وبدأ غصن البرتقال مزهرا.
تاج من شوك
بقلم: اعتدال رافع
تاج المرأة شعرها..
ومذبح النملة رأسها..
جدائلي مشنقة!
يفصلون التيجان لرأسي القائظ، يحصرونه بقالب صغير كأنه قدم. يتورم ويوجعني كثيرا.
الله زين رأسي بشعري ليغريني بالأنوثة، ويدفع عني هجمات القر والحر.
يلفحني احتراقي..
تتكدس الجعلان السوداء على عتبه غرفة نومي، أسحقها، وترتعش عظامي، يقول أخي، الجعلان مقدسة تحرسني في نومي. أقول له، تلك كانت جعلاناً ذهبية، وأكف عن قتلها حتى ولو كانت سوداء كالليل.
السواد سيد العالم..
وأنا ابتسام، عمري من عمر شجرة التفاح التي زرعها أبي في حديقة بيتنا وطلب من أمي أن ترعاها وتتفيأ بظلها، ولاتقطف ئمارها وهي فجة!
آه.. ما أشهى التفاح!!
رائحته مغرية كالموت تسوط المسام العطشى بابر العسل التي تعشش في خلايا الدماغ ومشهقة الروح وبعاق الأحشاء، كلنا نحب التفاح.
رحل أبي، وأمي قطفته فجا، قضمته سرأ ولعنته جهراً وخالتي الحاجة لطيفة كانت تخزنه في صندوقا ملابسها كي تبعد العث عن جسدها، وأنا أحب أن أرسمه بألوانه الذبيحة والشاحبة.
كلهم يقولون لي: أجمل ما فيك شعرك!
يصرون على قولهم هذا بقوة الأوصياء الحكماء، أصحاب الهـيبة القصوى.
أن يبقى طويلاً مفلوشا على ظهري كالشموس: إن مددت يدك إلى شعرك فسوف أكسرها، صوت يشوش إيقاعات الكون من حولي. تراودني نفسي على قص أطرافه المتشققة واليابسة. أخاف على يدي من الكسر، فأوامر الكبار مفروضة كالأقدار لاسبيل إلى مناقشتها، أوردها!
دغلي المشوش والمجنون لعنتي المتنامية الجبروت والقسوة، يكسو رأسي، يتطاول ويغزر بلا إذن مني، مثله مثل بقية تكاويني التي تنمو وتتكور في غفلة عني، منابته تتحول إلى حناجر مقلوعة، عندما يتخد وسيلة لقصاصي، يتحول إلى ليل مذبوح النجوم.
عندما خطبني عبدالمنان، كرر اللازمة: أجمل ما فيك شعرك.
كتمت غيظي ورسمت ابتسامة على شفتي اليتيمتين من صوتي، لم أعترض على غزله الصريح في جهوريته الذي اختصرني كلى بـ "شوشتي". هو مثل الأخرين لأنه منهم، والعلامات الفارقة تنقشها أصوات الفرسان أفلاكا على جباه الصبايا (يذهب الفرسان غلى الصيد والحرب، الصقور على معاصمهم، والصبايا يشتغلن التنتنا في انظار عودتهم محملين بالطرائد والأوسمة).
أعلق مديتي في نحري، أسير إلى يومي حثيثا
سأمتلك زمام شعري وأجزه من منايته وأفوت على الآخرين فرص عقوبتى وإذلالي، ولا أعود جميلة في نظرهم، وأرتاح من عبودية أرهقتني ستة عشر عاماً بالتمام والكمال.
توجعني ضفائري، وأنا نائمة أفيق على صراخ مكوم في زغبها الذي نما بعد اقتلاع خصلات منها لتفريغ رأسي من الطيش والأحلام.
توجعني فساتيني التي تضيق باستمرار عند الصدر والخصر وينشمر طولهـا إلى ما فوق الركبتين.
الخلاص أقرب من الدمعة وأبعد من المجرة!
إلى أن يحين يوم امتلاكي لشعري،؟ أموه رغباتي بطفولة مصطنعة، جدلته وحبست نهـاياته بدبابيس لها شكل فراشات قزحية الألوان لأخفف من ثقله عن كاهلي الحبال للربط والشنق، وضفيرتاي من عمر أنفاسي الجنينية، مدموغة بظلمة الرحم، لاتشبه أي ضفائر! قاسيتان كذيول الأمهر، تتدليان إلى وركي بشماتة، تنطان عندما أنط، وتنامان عندما أنام، تلهثان بالحريق عندما يتأجج رأسي بالأحلام.
يوسف زوج أمي اختلس يده إلى شعري، مشت أصابعه على طول انسيابه كما ينساب الزورق على صفحة الماء، حطت على وركي، وقال يوسف.. آه.
لمحته الزوجة وهو يفعل ذلك ويتحرج، دافع عن نفسه وقال، الشيطانة أغوتني. استدركت همجية العقاب المتوقع فورا،ً حملت شعري وهربت حافية القدمين، تزحلقت على الدرج من وجلي، والزوجة تلحق بي وتهبط خلفي وبيدها علاقة ثياب خشبية في وسطها سلك معدني له شكل علامة استفهام "؟". ضفائري تنبض بذعري وتنط، يطوحها الخوف في الهواء بعيدة عني، تمكنت الزوجة منها، شدتها بقسوة وبرمتها على كفها، أصبحت في قاع الدرج، وضربتني بعلاقة الثياب، ذبح سلكها معصم يدي التي كنت أتلافى بها الضربات، كان رأسي المسحوب من ضفائري يسبقني على الدرج ويبكي من جراء ارتطامه بالحجر.
تركت جرحي فاغرا،ً تورمت شفتاه وحشوته بالبن حتى انقطع نزيفه " ترك ندبة عميقة امتدت إلى قلبي".
صرت أتصنع الموت في البيت، والغنج والدلال والإغراء في مشيتي بعد خروجي منه، عبدالمنان لهـث من التعب وهو يركض وراء شعري، وضع علامة (X) على باب بيتنا مثل حرامية علي بابا الذي كانوا يريدون سرقة كنوزه، في اليوم التالي جاء عبدالمنان مع أمه وعمته وأخته الكبيرة وخطبني، وافقت في الحال، لم أبال البتة بسنواته الأربعين وشبكات العنكبوت حول عينيه وفمه، أو عري رأسه من الشعر.
أدركت بفطرتي أنه انتقاني ليعوض عن محله!
حبس خاتم الحطبة بنصري وفرحت به كأنه خاتم المارد الذي سينقذني من عذابات شعري. أغرق في نشوة طفولية عارمة وأنا أتأمله يغوص في دائرة اللحم، أرفع يدي بمناسبة وغير مناسبة كى أظهره للجميع ظنا مني أنني أصبحت إنسانة لها رأي وكيان "مسكينة صديقتي ثريا التي كانت تقص شعرها مثل الصبيان، صارت في العشرين ولم تتزوج!".
تبدلت، انتقلت من حالة الكمون والسكون إلى فاعلية الحركة. كتبني اسمي على البحر امرأة، صهلت الأمواج بالركض إلى جيادي البرية الحرون وكانت حبلى باللؤلؤ والمرجان. قبل اليوم كنت لؤلؤة سوداء تبوح لليل ببياضها الموشى بسحر الخلق وحكايات الجنيات، تراودني لفحة شمس على محارتي وأغمض شغافي من الخجل، قال لي فمي، ثوب العروس أبيض، رغوة الفرح بيضاء، اشلحي سوادك وأطلقى عصافيرك من أقفاصها وأزيلي رغرة الأسى من عينيك. قريبا ستصبحين امرأة لها رأي وكيان وتنتقلين من الموضوع إلى الذات ويصبح شعرك لك وليس لأحد سواك أن يقرر مصيره. طلب منك عبد المنان في ليلة الدخله أن تفرشي شعرك على وسادة لينيم رأسه العاري على دفئه، فأنت لم تتزوجيه إلا من أجل قص شعرك، تحقيق رغبة صغيرة ضريبتها العمر!
طوال فصل الشتاء كان شعرى وسادة لعبد المنان، ولما جاء فصل الصيف ظننت أن عبد المنان قد شبع نوماً على شعري، ففي الصيف يجزون صوف الخروف.
اغتنمت غياب عبد المنان، أمسكت بالمقص وحسمت عذابات سبعة عشر عاما،ً وجززت شعري، كان يهوي على الأرض كما تهوى الجبال، مسحت دمعتين وأنا أودعه وقبل أن ألقيه في صندوق القمامة "وجدتي كانت كلما مشطت شعرها تزيل ما علق منه بأسنان المشط وتبرمه على أصابعها مثل كعكة صغيرة وتحشو به وسادتها خوفا من أن تقع عليه أعين الغرباء".
أتأمل نفسي المرآة، أضحك وامد لساني لأتأكد من أن المرأة التي تقابلني هي.. أنا! غربة كالصعقة امتدت لحظات وأنا مشدوهة بتلك المرأة الغريية التي كانت تمد لى لسانها، توسلت إليها أن تكف عن سخريتها، وتحبني، جارتني بنظراتها التي يمتزج فيها الانتصار بالانكسار، والضحك بالدمعة، تعودتها وأحببتها، شغفنا معأ واخترقنا الأشياء والكون من حولنا وامتلأنا بتناغم شجي، ورقصنا رقصه الطائر الذبيح. داهمنا عبد المنان ونحن على هذه الحال، انفغر كله! فك قشاط بنطاله وطراه إلى نصفين وهم أن يسوطنا به، هربنا من وجهـه وكنا لانزال نمد لساننا ونضحك، ولم يتمكن منا، في ركضنا قلبنا الطولات والكراسي وتحطمت المزهريات وصورة العريس والعروس، وعبدالمنان يلوح لنا بوعيده وسوطه، اختبأنا خلف الأثاث المقلوب والمزهريات المحطمة ولعبنا لعبة القط والفأر!