مختارات من:

الفائز بجائزة نوبل للآداب 1998 جوزيه ساراماغو الذي كنا لا نعرفه

محمد أبوالعطا

ربما لم نكن نعرف قبل فوزه بجائزة نوبل عام 1998 ، ولكننا سنتبين من هذا المقال مدى قصور حركة الترجمة عندنا ، التي تجعلنا في عزلة عن شوامخ الأدب العالمي .

رواية كل الأسماء " 1997 " ، للبرتغالي جوزيه ساراماغو ، تحكي قصة حب غريبة وشجية . رجل في الخمسين من العمر ، وحيد ، يعمل كاتبا في السجل المدني ، يحمل إلى مسكنه عن طريق الخطأ بطاقة بيانات امرأة . ينتابه هاجس غريب فيقرر التحري عنها ويتجشم في ذلك مخاطرة كثيرة ، يحمل تصريحا مزورا من السجل المدني الذي يعمل به يخول له الذهاب إلى مسكنها المدون لديه والقيام بالتحريات ، لكن المعلومات التي يحصل عليها ضئيلة للغاية فيقرر البدء من البداية .

يقتحم ليلا المدرسة التي تعلمت فيها ويجمع صورا لها في الصبا ، ويتقدم في بحثه تحت وطأة شعور غريب ومطرد بالانجذاب إلى تلك المرأة المجهولة بعد أن يتعرف فصولا من حياتها الخزينة ، وحين يكتشف عنوانها ويتوصل إلى أبوبها يعلم أنها أنهت حياتها بيدها قبل ذلك بأيام . يسلمه والداها مفتاح منزلها ، وبعد أن يزور قبرها يذهب- في أجمل فصول الكتاب- إلى ذلك المنزل ليتعرف لاحقا المرأة التي أحبها دون أن يراها ، ولينتسم عبقها بعد أن أنقذها من النسيان ، ليتعرف أشياءها الصغيرة في منزل رتبته امرأة جميلة على نحو بديع ، بل ويتمكن من سماع صوتها الصادر من جهاز تلقي المكالمات .

منذ بداية المجلد ، يداهم القارئ شعور بالقلق ، يتعاظم رويدا حين يستبين له أنه منكشف أمام آخرين مطلعين على أدق تفصيلات حياته وأن بوسع هؤلاء- برغم مظهرهم المتواضع- العبث بمصيره المسجل في بطاقة ، لكنه سرعان ما ستعاوده السكينة حين يفطن إلى أن الغاية هي إنقاذ هوية شخص من المجهول .

في هذا العمل ، يبلغ ساراماغو ذروة التجريد . تجريد الحدث : حدث صغير وبلا أهمية مبدئيا " لا أحداث كبرى هنا " يتطور في بطء وبلا صخب لتتفتق عنه دلالات عميقة ورهيبة ، تجريد المكان ، فالفضاء السردي الذي يتحرك في البطل مجرد إلى أقصى حد ، مدينة بلا اسم أو ملامح ، وأماكن " مظللة " تضئ فقط حين يمر الحدث بها ، تجريد الشخوص ، فمن المفارقة غياب الأسماء عن رواية عنوانها " كل الأسماء " ، وألا يذكر أي اسم علم ، حتى المرأة الغائبة التي أحبها البطل من اسمها ، حتى اسم البطل يذكر بلا ألقاب ، وهو كأنه لم يذكر لفرط شيوعه ، فالسيد جوزيه أو " دون جوزيه " واحد من بين مئات الألوف من " الجوزيهات " المجهولين .

السلطة نفسها مجردة . فالسجل المدني- الذي تذكر كثيرا في الرواية بهذا الاسم المهيب : " الأمة العمومية للسجل المدني "- يبتدي لنا السلطة العليا والمطلقة ، القميعة والمهيمنه على حياة الأفراد بمنشوراتها الدورية وخطب " الأمين العام " في موظفيه والتي تتعلق بقضايا تهم الجماعة ، في بعدها المحلي أو حتى الكوني . ولا تناظر سلطة السجل المدني سوى سلطة " الجبانة العمومية " ، فقيما بينهما يحويان كل الأسماء . هذا التناظر ، من ناحية أخرى ، يكمل لعبة التباينات التي ينهض على أساسها النص : الحياة- الموت ، الحقيقة- الزيف ، الشهرة 0 الرمادية ، الفرادة- الابتذال ، إلخ . " شئ من هذا يذكر برواية جمال الغيطاني الجميلة " شطح المدينة " ( دار الهلال ، 1990 ) ، خاصة اغتراب البطل إزاء تلك السطلة الثنائية القطب والتناوبية المطلقة : الجامعة- البلدية " . لكن بطل ساراماغو- في سعيه وراء إعادة بناء الفصول الأخيرة في حياة المرأة المجهولة- يخالف لوائح السجل المدني فيتسسل إليه ليلا ويرتكب كل فعل يعاقب عليه القانون ليجسد تمرد الفرد على قمع السلطة المطلقة المتمثل في تصنيف الفراد في قوائم صارمة : هنا الأحياء وهناك الموتي . الطريف أننا في نهاية العمل نكتشف أن هذا الدون جوزيه المتمرد مراقب من جانب " الأمين العام للسجل المدني " ذاته " لا أحد فوق السطلة " والمهتم شخصيا بنتائج تحريات دون جوزيه والذي يغض الطرف عما ارتكبه الأخير من تجاوزات ، في تواطؤ من نوع غريب ، بيد أنه غريب ظاهريا وحسب ، لأن مراقبة مساعي دون جوزيه هي التي حدث بالأمين العام إلى إعماله الفكر في فلسفة السجل المدني وغايته ، ليرى في النهاية أن من العبث الفصل بين الأحياء والأموات ، ومن ثم تتجلى تيمة الخطاب الروائي على لسان الأمين العام في خطبته الأخيرة في مرءوسيه : " .. لو أن الأحداث المشار إليها لم تثر في بعض الفكر لما وصلت البتة إلى فهم العبث المزدوج المتمثل في فصل الأحياء عن الأموات .. هو عبث من منظور الذاكرة كذلك ، لأن الموتى ، إن لم يظلوا وسط الأحياء ، مآلهم النسيان إن آجلا أو عاجلا .. فلنجمع في " أرشيف " واحد- سنسميه " التاريخي "- الأموات والأحياء ، فلا نفصل بينهم في هذا المكان ما دام القانون والعادة والخوف خارجه لا تسمح بذلك . فكما أن الموت ثمرة أخيرة لإرادة النسيان فإن إرادة التذكر يمكنها أن تبقى على حياتنا . قد يتعين على أن أوضح لكم أننى عن الحياة فقط كنت أتحدث الآن وليس عن الموت ، فإذا كنتم لم تعوا ذلك من قبل فلأنكم لن تكونوا قادرين أبدا على الفهم ، مهما يكن الأمر ".

إنقاذ من النسيان

ففي هذا العمل ثمة إرادة لاستعادة ما كان ، للإنقاذ من النيسان ، لإعادة بناء الحكاية . وهي إرادة ملحة عند ساراماغو ، وبوسعنا القول عند الأجيال الأخيرة من الروائيين البرتغاليين : الإبقاء على الذاكرة الجمعية، إنقاذ ما مضى ، تخليص تاريخ البرتغال من ضباب الذاكرة ، وهذا ما يفسر ازدهار الرواية التاريخية هناك . هذا الغرض المبدئي " أي التاريخي " تطور صوب التعددية في تأويل الماضي وفي تمثله ، بل وصوب مقاربات أشد استعارية للتاريخ " من المؤسسي أن هنالك من تصور أن ذلك قد يمت بصلة للواقعية السحرية " أو ليتمات أخرى طريق الموازاة الكنائية والرمزية بهدف الكشف عن وجود مقلقل قوامه سلسلة من الحدوس بصدد واقع افتراضي مبنى على أساس احتمالية . لكننا سنعود إلى ذلك فيما بعد ، لدى قراءة مجلده " مذكرة الدير " ( 1982 ) ، الذي يتناول بالفعل المغاير التاريخي .

والاسم ، عند سار اماغو ، ليس رمزا للتفرد وإنما وسيلة للالتفات إلى ما يمر دون أن نحس به ، إلى الشائع، إلى رجل الشارع ، إلى التاريخ الباطني للشعوب ، في اصطلاح الإسباني ميغل دي أونامونو . ومادمنا في ذلك قد يجدر بنا أن نشير هنا إلى عدة " نصوص غائبة " . فالشخوص المتخيلة في رواية " كل الأسماء " ربما استدعت تأويلا كافكويا ، كما أن " الأمانة العمومية للسجل المدنى " ، بسراديبها ودهاليزها تحوي كل شئ " كل الأسماء والبيانات " في فوضى تتكرر فتصير النظام ( بورخس في " مكتبة بابل " ) ، فضلا عن تيمة الأسماء وغياب الكينونة وشتات الهوية وفكرة التجريد ، وجميعها يحيل مباشرة إلى فرناندو بيسوا . وأما الشخصية " دون جوزيه " ، ذلك الكائن المتواضع ، المنعزل والوحيد ، الذي يجسد الكرامة الإنسانية رغم بؤسه وهوائه العاطفي ، فترجع أصداء شخوص آخرين عند فلوبير وميلفيل وكذلك بيسوا .

الماضي والحاضر

وزمن الحكاية استشرافي ، يتتابع طرديا في نقاء كحال أغلب أعمال هذه الروائي ، لكن إيقاع السرد هنا- على عكس أعمال أخرى- متنام ومتواتر وبلا تقطيعات في الزمن الداخلي أو رجوعات إلى الوراء . وهذا طريف . طريف ألا تحتفي رواية موضوعها إعادة بناء حكاية أو إنقاذ من النسيان بتقنيات التذكر والعودة إلى الوراء . بيد أن مرد ذلك يعن لنا شفيفا : فمهمة إنقاذ الذاكرة الجمعية في رأي الكاتب ينبغي أن تكون إيجابية وتستلزم مجهودا حقيقيا ابتداء من اللحظة الحاضرة ، وهي ليست من نسق " البحث عن الزمن المفقود " إذ لا يطغى الماضي عل الحاضر " فدون جوزيه- بطل العمل- ليست له ذاكرة ، ليس له ماض " ومن ثم غياب تقنية الزمن البطئ وتسيد إيقاع سردي رشيق ومتدفق ومناسب للحبكة . ولن يفاجأ قارئ أعمال سارامواغو بالتدخلات الكثيرة لصوت سارد من خارج القص ، مازح وساخر ومتشكك من أرقى صنف ، وحكيم ويأخذ من البداية بلب من القارئ الذي يطمئن إليه ، صوت إله " أوليمبي " صغير بوسعه أن يرسم بريشته حكاية صغيرة أو يغيرها ، أو هو بضربتي فرشاة- أي بإضافة حدث صغير حدثين- يعيد كتابة تاريخ " يتجلى هذا على نحو رفيع وخاص في روايته " الإنجيل طبقا ليسوع ، 1991 " أو يراجع مسلمة . والكاتب سيتخطى حواجز الطباعة المألوفة ، فلن يستخدم في الحوار مثلا النسق العمودي المعتاد ولن يحترم علامات الترقيم ، وما أشبهه في كل هذا بالبرازيلي الكبير جورجي أمادو " خاصة روايته " تييتا دو أغرستي " ، 1977 " .

ورواية " كل الأسماء " ، في مستوياتها المختلفة " التيماتي والتقني واللغوي ، إنجاز جديد في مسيرة ساراماغو الروائية ومخالف للبدايات ، أي منذ اوائل الثمانينيات " سنحترم رغبة المؤلف المعلنة ولن نلتفت إلى ما كتبه قبل ربع قرن من انقطاعه عن الكتابة " ، منذ أن نشر رواية " نهض عن الأرض " ( 1980 ) التي تكرست فيها موهبته الحقيقية كروائي . ولكن قبل تناول هذه الرواية بنحو من التفصيل ، أود الإشارة إلى مجلد أسبق ومهم ، مصنف تحت " رواية السيرة الذاتية " ، أقصد بذلك إلى مجلد " دليل التصوير والخط " ( 1977 ) . أولا ، لأن هذا الجنس الفرعي- الأتوبيوغرافي- ليس شائعا في الأدب البرتغالي ، ثم لأنه وثيقة ضافية تضئ الكثير من المؤثرات والفكر والتيمات والملام الأولية التي ستمتد وتكتمل في أعماله اللاحقة . بطل العمل مصور محترف يجرب الكتابة الأدبية . يتوسل الكاتب هذه " الذريعة " الأدبية ليرتاد أعز الفضاءات الفنية والأردنية والفكرية على نفسه : عشقه لمصوري عصر النهضة الإيطالي ومدرسة فلورنسا ، ولبلاثكت ورمبرانت وجويا وفان جوخ وبيكاسو ، تأثره بثربانتس وفولتير وروسو وستندال وتولستوي وأونامونوتوماس مان ، تحليله لروبنسون كورزو " ديفو " ولـ " مذكارت أدريانو " مرجريت يورسنار " من حيث المغاير الأتوبيوغرافي ولنسق الكتابة في ضمير المتكلم " الذي يناقشه على نحو مطول وطريف " ، موقفه من فكرة الموت والبقاء .. ألخ والقارئ سيقف على حصاد تكوين ثقافي غني وعلى تجربة معيشة ، تجربة زمن معيش لرحالة مثقف أو لكاتب رحالة . ومن بين الموضوعات الكثيرة التي يقدمها هذا الكتاب الممتع ، يطل برأسه موضوع علاقة هذا الكاتب الحميمية بالعالم الإسباني الذي يعرفه ويعايش متغيراته " أو هو يكابدها " عن قرب . لأن جوزيه ساراماغو هو ، من حيث الانتماء إيبيري ، يرى في إسبانيا والبرتغال ثقافة واحدة . وبدءا من هذا الكتاب سيتصدى لتاريخ البرتغال وإسبانيا من منظور التاريخ المشترك وغير المنفصل في قطر عن الآخر ، وسنجده محللا ومتمثلا تاريخ إسبانيا القديم والحديث كما يفعل بصدد تاريخ البرتغال ، وستنداح التخوم بين الحرب الأهلية الإسبانية مثلا وثورة " القرنفلات " البرتغالية " 1974 " ، بين ديكتاتورية سالازار وديكتاتورية فرانكو . ومعروف أنه اختار الإقامة أخيرا في إسبانيا " في لانثاروتي ، جزر الكناري " وأنه متزوج من الأشبيلية " بيلاردل ريو " مترجمة آخر أعماله إلى الإسبانية ، وهو كاتب مكرم ومحتفي به في إسبانيا وأمريكا اللاتينية . هذا الانتماء الايبيري سيتكرس في روايته الشهيرة " العوامة الحجرية " ( 1986 ) حيث تنفصل شبه جزيرة إيبيريا عن أوربا وتطوف بالأطلنطي صوب مصير مجهول " أيكون الجنوب الإيبيرو أمريكي ؟ " . وهذه الرواية تشهد حراكا مزدوجا ، فبينما تنفصل شبه الجزيرة عن أوربا جغرافيا " لتكشف عن موقف الكاتب المتشكك في علاقتها بالقارة القديمة " ، ثمة حراك آخر داخلي ، فمن ناحية تدور شبه الجزيرة حول نفسها فيصبح الشمال جنوبا والشرق غربا ، ومن ناحية أخرى- وهى الأهم- ترتحل جماعة إيبيرية- برتغالية- من موطنها لترتاد أرجاء شبه الجزيرة بحثا عن تجذر معالم هوية وثقافة واحدة ، ثقافة إيبيرية . يقول ساراماغو عن هذه الرواية :

هذه الرواية " تخص البرتغال ومجموع الشعوب الإسبانية التي أشعر بأنها تتقاسم ثقافة مشتركة ، ثقافة ليست بالضرورة أوربية : إنه عالم آخر ، عالم من قوة الشخصية والذاتية بحيث ينبغى لشعوب شبه الجزيرة أن تبذل جهدا عظيما من التفاهم المتبادل لتتصدى لضغوط الثقافة الأوربية التي هي ليست سوى ثقافة ثلاث دول مهيمنة : فرنسا وألمانيا وإنجلترا " .

قهر الفلاحين

ومن الرائع كذلك في " العوامة الحجرية " معرفة ساراماغو الراسخة بثقافة وجغرافية " شعوب إسبانيا " كما يقول هو ، والتى هي درس في تعميق الآخر هو نفسه " بعبارة بروخس الشهيرة .

تحكى رواية " نهض عن الأرض " تاريخ البرتغال فيما بين عامى 1910 و 1979 ، من خلال المحن التي تتعرض لها أسره " مالتيمبو " ، وعلى وجه الخصوص : دومينغو مالتيبو " وترجمة الاسم له دلالة واضحة : دومينغو الزمن العسير " وابنه جواو مالتيمبو ، وهما من الفرحين الأجراء في إقطاعية مونتى لافرى بإقليم ألينتيجو . الخط الأساسى للرواية هو نقطة التقاء بتيمة قهر الفلاحين المعدمين وكفاحهم من أجل كرامتهم ، حتى إنهم في النهاية يتعلمون كيف ينهضون عن الأرض . لكنه لا يغفل كذلك البعد التاريخى ، فالحكاية تتوقف إزاء أحداث مهمة كالحرب العالمية الثانية وثورة الجنرالات في البرتغال ، إلخ . ويناقش العمل مسئولية كل جيل في الكفاح من أجل مالتيوبو مزيدا من المهانة ويعتزل الناس لنهى حياته في عزة ، يشارك جواو مالتيمبو في تمرد الفلاحين على أوضاعهم المجحفة ويدخل السجن في لشبونة . لكنه فيما بعد سيطلق سراحة بعد أن تعلم كيف ينهض عن الأرض ويرفع رأسه . ولنسجل هنا فقط أنه عند خروجه من السجن يلقاه شخص متعاطف مع قضيته يدعى ريكاردو رييس . ومع ذلك ، فدومينغو وجواو مالتيمبو متنائيان عن نموذج يوائم تيمة العمل على أفضل نحو ممكن ، مثلما توائمة بقية التقنيات السردية . وبدءا من هذا المجلد ، نلاحظ مجموعة من السمات الفنية الممتدة في سرد ساراماغو ، أشرنا إلى حضور بعض منها في " كل الأسماء " : زمن داخلى طردى واستشرافى ، صوت من خارج الحكاية يبسط عباءته عليها ولا يبالى بالظهور أمام القارئ كأن يقول مثلا إن ماقاله في التو من حصاده الخاص . وهى طريقة- كما ذكرنا- حكيمة بلا اصطناع ولا تتغيا تعقدا فنيا من أى نوع ، وتجرب ، هنا ، أن تخلف انطباعا بأن صاحب هذا الصوت من أبناء القرية ، يحيا حياتهم ويكابد محنهم ، ويتآمر معهم ، غير أن هذا الصوت يتناوب مع صوت آخر من داخل السرد يظهر على نحو متقطع لكنه غير مخالف للصوت الأول " كونتربوينت " نكتشف في النهاية أنه صوت انطونيو مالتيمبو ، ابن جواو مالتيمبو . وإيقاع السرد بطئ ، استاتيكى ، ليغطى حبكة بسيطة ودرامية معا.

أما لغة ساراماغو هنا فهى بالغة التشكيل ، إذ تجمع بين العبارات البليغة والحكم والمأثور الشعبى في نبرة مازحة وساخرة ومنحازة تماما وبلا مواربة إلى جانب الفلاحين ، وهى لغة موحية ورفيعة وواقعية أيضا ، تتخللها لمحات جمالية وسحرية ، يدلل على ذلك الفصل الذي يتناول حكايات وأساطير شعبية " رجال- ذئاب- رجل تحول إلى دجاجة ، إلخ " تتجلى فيها عبقرية الأداء اللغوى عند ساراماغو ككاتب يمتلك ناصية السرد والوصف . ولن نغفل هنا ما بات جليا حتى الآن في شخصية وأدب جوزيه ساراماغو : المغزى الأخلاقى والالتزام الراسخ والنزيه بقضايا بلده وعصره . وللقارئ أن يتخيل صدى نشر هذا العمل في لحظة كانت الرواية الأوربية تمر فيها بفترة نقاهة بعد وعثاء الرواية التجريبية والنفسية وتغييب السرد أو ابتساره .

برواية " مذكرة الدير " دشن الكاتب مقارباته السردية لتاريخ البرتغال بمغايرات " ساراماغوية " ثابتة على تنوعها الإحداثى الزمنى هو القرن الثامن عشر ، قرن التنوير والباروك البرتغالى ومحاكم التفتيش كذلك . المحور الأول يقترب من جواو " يوحنا " الخامس ، ملك البرتغال ( 1706- 1750 ) ، المهووس بأحلام العظمة وبضمان بقاء أسرته الملكية في الحكم ، والتى جرت عليه الكثير من المتاعب منها هزيمته في معركة ألمانسا ( إسبانيا 1707 ) حين حاول التدخل في الصراع الدائر على العرش الإسبانى بتحالفه مع الأرشيدوق كارلوس . يفكر جواو الخامس في إنجاز معمارى عظيم يخلده فيأمر ببناء دير " مافرا " الشهير على غرار دير " الإسكوريال " في إسبانيا ، وكذلك في الولوج بالبرتغال عصر العلم باختراع " ماكينة " طائرة ويستقدم لهذا الغرض " علماء " مهووسين تعكس مسيرة حياتهم ونهايتهم المشئومة نحوا من ذلك الهذيان الذي صاحب " عصر الاختراعات " . وربما عثرنا على أكثر من وجه مشابهة بين هذا المجلد وبين رواية الإيطالى أومبرتوإكو " جزيرة اليوم السابق " التي ستصدر بعده باثنى عشر عاما ( 1994 ) ، وكذلك بينه وبين رواية المكسيكى كارلوس فوينتس " أرضنا " ( 1975 ) والتى تحكى بالفعل قصة بناء فيليبى الثانى لدير الإسكوريال وتتناول فضلا عن ذلك- وكما في رواية ساراماغو- التاريخ النحس لماكينة أخرى : ماكينة محاكم التفتيش الرهيبة وضحاياها التعساء من علماء وشعراء ومفكرين . أما المحور الثانى فهو " التاريخ الباطنى " للبرتغال : الرجال والنساء المعدمين الذين يعملون في بناء الدير . وهناك إرادة مؤكدة لإنقاذ تلك الحشود المجهولة من النسيان بتسجيل أسمائها " تيمة كل الأسماء " والتى يرمز لها بثلاثة وعشرين اسما تمثل حروف الهجاء في ترتيبها الأبجدى " في البرتغالية بالطبع " .

حياة ضائعة

مدخلنا إلى رواية " عام وفاة ريكاردو رييس " ( 1984 ) هو فرناندو بيسوا ( 1888- 1935 ) القامة السامقة في الشعر والأدب البرتغالى والأوربى . منذ عام 1912 ، ابتدع بيسوا ثلاث شخصيات أدبية ، ليست أسماء مستعارة له بلا ثلاثة شعراء لهم سيرتهم الذاتية ، ولكل منهم ملامحه الأدبية والفنية المحددة ، ونشر كل منهم أيضا أعمالا باسمه . أولهم ريكاردو رييس ثم ألبرتو كاييرو وألبارو دو كامبوش ، كامتداد للأنا المبدعة أو هو تعبير عن تجزؤ الذات أو تلاشيها في الآخر . ففى عام 1913 نشر بيسوا نصا تحت عنوان " غيضة الجنون " طرح فيه بوضوح إشكالية ازدواج الشخصية التي كانت بداياتها ، في العصر الحديث ، على أيدى الرومنطيقيين الألمان ، جوته وهولدرلن ونوفاليس . في العام التالى نراه يتحدث عن تشظى الذات " أنا قطعة من نفسى جبيسة متحف مهجور " ، ثم عن حالة " غياب الكينونة " التي يعيشها . ومن قرأ بيسوا مطلع على هياج روحه اليائس للفكاك من سجن الذات ، وميله من ناحية أخرى- وأبناء عليه- إلى التخفى والمخالفة وتقمص الاخر . في عام 1930 كتب:
" الحياة هي أن تكون آخر . حتى الإحساس غير محتمل إذا أحسست اليوم نفس إحساس أمس : بل هو تذكر- اليوم- لما أحس به أمس ، جثة حية لما كان أمس حياة ضائعة . إطفاء كل شى في اللوحة من يوم لآخر ، أن تكون جديدا مع كل فجر جديد ، في بتولية متجددة دائمة للانفعال ، هذا ، وهذا وحده ، ما يستحق أن نكونه أو نصير عليه " .

وفى هذه الرواية الفريدة يترجم ساراماغو لحياة ريكاردو ريس ، الشاعر المتخيل والأقراب إلى روح وفكر بيسوا والممتد في أكثر من عمل لساراماغو " لنتذكر ظهوره في نهض عن الأرض " في تكريم صريح وشخصى من جانبة لروج بيسوا ولينضم بهذا العمل إلى نخبة من محبى بيسوا ومترجميه وعلى رأسهم الإيطالى الكبير أنطونيو تابوكى ، صاحب " ليل هندى " و " يؤكد بيريرا " ، والناقد الإسبانى أنخل كريسبو.

وريسس ، بطل العمل ، طبيب وشاعر ذو نزعة كلاسيكية ، ولد في بورتو في عام 1897 ونفى إلى البرازيل بسبب ميوله الأيديولوجية الملكية . في عام 1935 ، يصل ريكاردو رييس إلى لشبونه في يوم وفاة بيسوا نفسه ، يموت ليتجسد في حياة " قرينه " التي تستمر بعد وفاته حوالى تسعة أشهر يتذكر ( رييس ) أنه جلس هناك في أزمنة أخرى ، بعيدة حتى إنه يرتاب من أن يكون عاشها هو نفسه ، أو عاشها أحد بدلا عنى ، ربما بنفس الوجه والاسم ، لكنه آخر " . كما تتجلى هذه التيمة " الاخر هو نفسه " في تنويعة أخرى ، فروح بيسا ، من خلال ظهوراته غير المنتظرة والمتعددة على امتداد الرواية ، يقيم حوارات مع قرينة رييس إلى أن يرافقه في الرحلة الأخيرة ، إلى حيث ينتهى البحر ، الذي هو الموت " في نهاية الرواية ، يسأل بيسوا : ألا ترتدى قبعة ؟ " فيجيبه رييس :" أنت تعلم أفضل منى أن هاك لا أحد يرتديها ".

وتنبجس قيمة هذه الرواية الرفيعة من " بوليفونية " المنظور ، فنحن نجول بلشبونة من خلال نظرة رييس الذي هو بيسوا الذي هو ساراماغو . فروحا بيسوا وسارماغو المؤتلفتان تعانقان مرتكزات جمالية مشتركة وتهيمان في فضاء مدينة لشبونة الشبحية والأسطورية في آن ، ووصف ساراماغو للمدينة متناص في الكثير منه مع نظرة بيسوا المكرسة في شعره " مثل قصيدة : " عن بعد على الجبال جليد في الشمس " ، وغيرها " وفى مجلده الخالد " كتاب القلق " .

لمحات من حياته

ولد جوزيه ساراماغو في 16 / 11 / 1992 ، في قرية أزينياغا بإقليم ريباتيجو ، شمال لشبونه . اسمه الحقيقى جوزيه داسووزا ، أما " ساراماغو " فهو اسم شهرة عائلة أبيه أضافة موظف السجل المدنى إلى الاسم الأصلى . ينحدر من أسرة فقيرة حتى إنه انتظر حتى سن التاسعة عشرة ليقتنى كتابا . هجر الدراسة بعد أن أنهى الصف الأول الثانوى بسبب فقره ، ومنذ ذلك الحين امتهن مهنا عدة ، فعمل موظفا في الإدارة الحكومية ثم عاملا في دار نشر فمصححا ، فمترجما فصحفيا وكاتبا . يحيا في الوقت الراهن مع زوجته الثانية ، الصحفية الإسبانية بيلار دل ريو التي تعرف إليها في عام 1986 ثم تزوجها في عام 1988 . نشر روايته الأولى " أرض الخطيئة " في 1947 ، لكنه يفضل نسيانها ، وفى 1966 ، نشر ديوان " القصائد الممكنة " . ولا ينتمى إلى أية حركة أدبية ولم يتأثر بأية موضة. يقطن قرية " تياس " بجزيرة لانثاروتى ، عوامة حجرية أخرى ، ومنفاه الاختيارى منذ 1992 ، بعد أن أوقف وكيل وزارة الثقافة البرتغالى ترشيح روايته " الإنجيل طبقا ليسوع " لجائزة " أوربا " بدعوى السهر على المبادئ الكاثوليكية . يعمل في رواية جديدة عنوانها حتى الآن " الكهف " وتتصل بفكر أفلاطون بصدد الواقع والحقيقة والنفس .

وهو من بين الأدباء الناطقين بالبرتغالية ، وعلى مدار السنوات العشر الماضية ، تصدر ساراماغو قائمة المرشحين للحصول على جائزة نوبل إلى جانب البرازيلى جورجى أمادو والبرتغالى لوبو أنتونيس.

محمد أبوالعطا مجلة العربي فبراير 1999

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016