مختارات من:

قصة قصيرة: التحدي

عبدالله حمد المعجل

لقد تم تدشيني في فئة المنتمين إلى منتصف العمر- برغم المقاومة الشديدة والتمسك بالبقاء في النصف الأول منه- إلا أنني رفعت راية التسليم في النهاية, ومنذ إعلاني الهزيمة بدأت تسترعي انتباهي الآراء المختلفة والمتناقضة حول الموضوع, فمن قائل إن الأربعين هي القمة ويبدأ بعدها العد التنازلي نحو السفح, ومن قائل إن الحياة تبدأ بعد الأربعين, ومن قائل إن الوضع يختلف من شخص إلى آخر وإن الشباب هو في القلب أو الروح وليس في الجسد, وطبعا كل ذلك يقال من باب التشجيع دون الخوض في التعاريف الدقيقة لما هو مقصود بالقلب أو الروح.

المهم أن الجميع اتفقوا أنه بدخول منتصف العمر لابد من مزاولة بعض الرياضة خاصة إذا كانت طبيعة العمل الذي يقوم به الشخص تتطلب عدم الحركة والجلوس لساعات طويلة, وإلا فإن الأملاح والسكر والدهون والكوليسترول تبدأ في التراكم في الجسم حتى يصبح أشبه ببقالة متنقلة.

وخوفا من ذلك , وفي محاولة أخيرة للتمسك بما تبقى من آثار النصف الأول من العمر فقد بدأت برنامجا للتمارين الرياضية يشتمل على المشاركة في حلقة للتمارين السويدية تنعقد في الأسبوع ثلاث مرات بإشراف مدرب متخصص ويشارك في الحلقة مجموعة من الذين تم تدشينهم أخيرا إلى منتصف العمر, كما يشمل برنامجي الرياضي الأسبوعي الجري أو الهرولة لمسافة خمسة كيلومترات مرتين أسبوعيا.

وقد أتاح لي كورنيش المدينة الجميل الفرصة لممارسة رياضة الجري في جو مشجع حيث بعد بناء الكورنيش فقد بدأ يتحول تدريجيا إلى ساحة لمزاولة رياضتي المشي والجري من قبل جميع الفئات والأعمار من قاطني المدينة, وحيث إن التقاليد المحافظة مازالت تخيم نوعا ما على مجتمع مدينتا فإن اغلب مزاولي هاتين الرياضتين يفضلون القيام بذلك بعد حلول الظلام بحيث لايراهم إلا من يشاركهم الممارسة في الغالب.

المهم أنه يمكن أن يقال إن للكورنيش فضلا كبيرا في رفع مستوى اللياقة البدنية لسكان المدينة, وقد كنت أزاول الجري هناك مساء كالآخرين ليس فقط لتخفيف درجة التعرض لأنظار الفضوليين وإنما لوجود المشاركة الجماعية في ذلك الوقت حين بدأت برنامج الجري منذ حوالي ثلاثة شهور استجمعت ما خزنته من إمكانات وخبرات سابقة ووظفت كل قدرتي على الإصرار وأنهيت الكيلومترات الخمسة في مدة تقارب الأربعين دقيقة, ولنكون دقيقين- لأهمية ذلك لاحقا- في 39 دقيقة و 41 ثانية (كنت أقوم بالتوقيت مستعملا ساعة رقمية), وبالطبع أنهيت الشوط وأنا ألهث وأتصبب عرقا, وبقيت على هذه الحال لأكثر من نصف ساعة.

بعد ذلك قررت في محاولاتي اللاحقة أن أبقي المسابقة وأن أحاول أن أحسن من الزمن.

في محاولتي التالية قطعت المسافة في 36 دقيقة و 34 ثانية ولهثت وعرقت لمدة عشرين دقيقة فقط, يجب أن نتذكر هنا أنني كنت أزاول تمارين سويدية عنيفة حيث ساعد ذلك علي تطوير إمكاناتي.

بقيت علي هذا المنوال, وفي كل مرة تتناقص المدة, في الشهر الأول بارقام كبيرة وبعد ذلك بدأ حجم التناقص يقل حتى وصلت إلى 31 دقيقة, ثانية, وبدأ التحدي الحقيقي, أكسب يوما 50 ثانية لأخسر في اليوم التالي 30 ثانية, واستمر الصراع.

ومع بداية الشهر الماضي وفي ساعة صفاء غير عادية ناتجة عن وجبة خفيفة في الظهر سبقها شعور بيوم عمل حافل بالإنجاز ولحقتها إغفاءة قيلولة قصيرة وجميلة, استطعت أن أقطع المسافة في أقل من 28 دقيقة و 14 ثانية, كان ذلك بالنسبة لي زمنا قياسيا وأصبح قطع المسافة في أقل من 28 دقيقة تحديا حقيقيا, ولكني لم أستطع حتى الوصول مرة أخرى إلى الرقم السابق وإن بقي زمني في المتوسط أقل من 29 دقيقة خلال الشهر.وفي الأسبوع الماضي ذهبت إلى الكورنيش كالعادة وبدأت أجري, كنت أحاول خلال ذلك كعادتي أن أشغل ذهني بأي أفكار مسلية تساعدني على قطع الوقت, كنت وقتها أسترجع حوارا جرى بيني وبين ابنتي ذات السنوات العشر محاولا أن أبلور التكتيك المناسب للإجابة على بعض أسئلتها الصعبة بالطريقة التي تحقق أقصى إفادة لها وأقل إحراج لي, وشيئا فشيئا بدأ تفكيري وانتباهي يتجه نحو أحد رفاق الكورنيش الذي كان يجري بجانبي.

كان طويلا قوي البنية ذا جسم رياضي, وكان واضحا أن لياقته البدنية أفضل مني بكثير.

بقينا نجري على وتيرة واحدة لمدة بضع دقائق دون أن يلتفت أحدنا إلى الآخر أو يعيره انتباها, ومن تعود على ممارسة رياضة الجري يعلم أن هناك شعورا بالأنس والألفة يتحقق من خلال الجري المتزامن بين رفيقين, ولكن بعد قليل بدا أن رفيقي بدأ يشعر بالملل من بطء الوتيرة فبدأ يسرع قليلا, ووجدت نفسي ألهث لأبقى على رفقته, ثم بدأ يزيد من سرعته ووجدته يتقدم عني بضعة أمتار, وبدأت الشقة تزداد بيننا كما لو أنه مل رفقتي التي فرضت عليه أن يغير في أسلوبه ويخفف من سرعته, وبدأت أشحن كل طاقاتي لأضيق من تلك الشقة بيننا, وكان قد بقي من مسافة الشوط حوالي نصفه, وقررت أنني أمام تحد حقيقي وهو أن أسبقه قبل نهاية الكيلومترات الخمسة.

بدأت أشحن كل إمكاناتي لأزيد من سرعتي, ووجدت كل أحاسيسي تتركز رويدا رويدا في اتجاه هذا التحدي الذي أمامي, وشعرت بانقطاع تام ولم أعد أعي ما حولي, وأصبح شعوري يتركز في حجم المسافة الباقية بيني وبين رفيق دربي, تلك المسافة التي بدأت تضيق قليلا قليلا, وبدأ العرق يتصبب مني وأنفاسي تتلاحق, ولكن شعوري بالتعب قد غلف بذلك الشعور بالتحدي الذي ملك علي كياني.

كانت المسافة بيننا تضيق شيئا فشيئا, وكان الشوط يقترب من نهايته أيضا بأسرع مما كنت أرغب, وقبل نهاية الشوط بمسافة مائة متر تقريبا أصبحت المسافة بيننا لاتتعدى بضعة أمتار, ووجدتني فجأة أجمع كل ما أستطيع من قدرة وأركزها في عضلات أرجلي التي بدأت أفقد الإحساس بها وشعرت بالمسافة بيننا تضيق بسرعة, وقبل النهاية بعشرة أمتار تقريبا كنت بمحاذاته, التفت إلي وقبل أن يدرك مايحصل كنت قد سبقته بمسافة قصيرة وانتهى الشوط بالنسبة لي وتوقفت عن الجري بعد أن أوقفت الساعة.

وبعد أن استطعت أن أسترد انفاسي قليلا نظرت إلى الساعة, لقد قطعت المسافة في مدة خمس وعشرين دقيقة و 47 ثانية, بالطبع كان ذلك رقما قياسيا لا أعتقد أني سأحققه مرة أخرى , ووضعت يدي على رسغي لأقيس نبضي, كان قلبي يدق بمعدل 160 نبضة في الدقيقة, كان ذلك بالنسبة لي رقما قياسيا آخر.

عبدالله حمد المعجل مجلة العربي ديسمبر 1998

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016