مختارات من:

حمدة خميس وسعدية مفرح

المحرر

مع الرجل تتحقق حريتي
وبه يتسع قيدي إلى حدود الأفق


* يجب أن يكون للشاعر وعي بالحق والحرية والعدالة دون انحياز لعرق أو جنس أو قومية.
* الشعر أصبح ممكنًا بعد أن تهمشت القواعد القديمة وأصبح التعبير عن الذات الإنسانية ميسورًا.

«التعدد لا يمكن إلا أن يكون ثراء وإثراء للشعر»... تقول الشاعرة البحرينية حمدة خميس، وتضيف في لقائنا معها لهذا الشهر: «وليتني كنت أكثر تعددا مما أنا عليه الآن».. ولعلها فعلا إحدى أهم الشاعرات العربيات المعاصرات إيمانا بفكرة التعددية في الشعر، ويتضح ذلك من خلال استقراء وقراءة مجموعاتها الشعرية المختلفة، والتي بدأت مسيرة نشرها عام 1979 بمجموعة شعرية عنوانها «اعتذار للطفولة»، ثم توالت إصداراتها فيما بعد: «الترانيم» 1985، «مسارات» 1993، «أضداد» 1994، «عزلة الرمان» 1999، «مس من الماء» 2000.

ويبدو أن الشاعرة المولودة في البحرين عام 1946 كانت مؤهلة منذ البداية لتؤمن بهذا الفكر التعددي، فقد تلقت تعليمها في أكثر من بلد عربي منها البحرين والعراق والمغرب، كما أنها عملت في التدريس والصحافة وتنقلت في الإقامة ما بين الإمارات وسورية وبريطانيا.

ونشرت الشاعرة أولى محاولاتها الشعرية عام 1969 تحت عنوان «شظايا» ثم واصلت رحلة التشظي عبر القصيد في أعمالها اللاحقة.

وتحاور حمدة خميس في باب «وجها لوجه» لهذا العدد من «العربي» الشاعرة والصحفية الكويتية سعدية مفرح التي صدر لها حتى الآن خمسة دواوين شعرية وهي «آخر الحالمين كان»، و«تغيب فأسرج خيل ظنوني»، و«كتاب الآثام»، و«مجرد مرآة مستلقية»، و«تواضعت أحلامي كثيرا»، بالإضافة إلى أنطولوجيا لشعراء الكويت بعنوان «حداة الغيم والعزلة»، ومجموعة شعرية للأطفال بعنوان «النخل والبيوت».

* لم تخططي لكي تصبحي شاعرة... ولكن كيف انبثق سؤال الشعر في داخلك للدرجة التي أصبحت معها ضرورة للتحقق بالنسبة لك؟ أو بصيغتك الجميلة التي كتبتها ذات قلق مثير «لماذا نكتب!... نحن النساء المنذورات - كالقرابين - للغياب، القابضات على الغبار... المرسومات بفرجار وفق زوايا منحنية! نحن اللاتي صهرن في قوالب أضيق من مساحة الكتابة وأفقر من ثرائها»؟

- كيف تستطيع صبية على مقاعد الدرس، تتلقى معرفة اختارها الآخرون، ومعرفة محظورة تلص عليها في غفلة العائلة والتقاليد التي تعتبر الكتاب بالنسبة إلى الفتاة خطيئة تقود إلى الخطيئة... كيف يمكن لهذه الصبية أن تخطط، والتخطيط فعل اختيار حر ووعي ناضج؟

لم أخطط إذن بل لم أحلم أو أتمنى أن أكون شاعرة أو كاتبة أو أي تصنيف يندرج تحت مسمى الأدب. فقط كنت مأخوذة ومسحورة بقراءة الكتاب المحظور حتى من قبل المدرسة التي ترى أن انشغال التلميذة بما يسمى «المطالعة الحرة» يشغلها عن حفظ الدروس ويضعف مستواها الدراسي!!

هكذا كان التفكير العقيم - وما زال حتى اليوم - يجعل من الكتاب والقراءة عبثا مفسدا. لكنهم ربما كانوا على حق، فقد (أفسدتني!) المطالعة الحرة إلى اليوم، حين نبهتني إلى معنى «المطالعة» بوصفها اطلاعا على معرفة لم تسن قوانينها مسبقا من قبل القائمين على السنن، وانتباها إلى أن «الحرة» تعني الحرية في الخروج على السائد والساكن والمستبد. فمنذ الابتدائية إلى اليوم كانت القراءة هي مربيتي ومرشدتي إلى صراط يأبى أن يستقيم وفق مساطر السلف والجموع!

ولم يكن لكينونتي الأنثوية - المضطهدة أبدا عبر كل العصور - شرط خيار باتجاه الشعر، فلو كان الأمر كذلك لكانت كل نساء الأرض شاعرات!

* لماذا الشعر، القصيدة بالذات صارت خيارك في الكتابة؟ لماذا لم تتجهي لفضاءات الرواية والقص وهي الفضاءات التي تفضلها المرأة عادة؟

- لم يكن الشعر خيارا، كان استجابة للصوصيتي السرية علىالكتاب الذي كنت اخبئه تحت الفراش حتى يغرق البيت في نوم ساذج عميق، لأخرجه من مخبئه السري وأقرأ على ضوء فانوس ضئيل حتى صباح يقظة الجميع، لأغتسل وأحمل حقيبة المدرسة التي لم تمس كتبها، وأذهب كتلميذة نشطة إلى المدرسة. تلك السرية جعلت لي مزاجا صامتا وميلا للعزلة والاختزال في الحديث. ولأن الشعر اختزال للغة وتكثيف سري للدلالة، بينما السرد تكثير للغة وكشف معلن للدلالة، قلت الشعر ولم أقل السرد. لعل هذا الترابط بين السرية والشعر هو ما يحيلنا إلى الشاعرية... لعل!

* القارئ مجموعتك الأولى «اعتذار للطفولة» يجد نوعا من التمرد المزدوج على أكثر من موروث وبتجليات مختلفة... هل تحيل الكتابة إلى التمرد؟ أم أنها تتطلبه؟ بمعنى آخر: هل يمكن أن تكون الكتابة دليلا على التمرد أم نتيجة له؟

- لا هذا ولا ذاك... فالأمثلة التي يقدمها الواقع الثقافي في تجلياته الأدبية لا تشير إلى أن الكتابة تؤدي إلى التمرد، ولا أن التمرد يسوق إلى الكتابة، ولو كان الأمر كذلك لكان كل أبطال وسياسيو حركات التحرر في العالم شعراء، ولكان كل الشعراء متمردين. الشعر والقص والرواية وغيرها من تصانيف الأدب السائد

لا تقدم مثالا على من يقود الآخر، أو يؤدي إليه... فأكثر الشعر السائد لا يشي بالتمرد، وأكثر الشعراء مستتبون في تسليمهم واذعانهم لما تمليه عليهم الجموع، بل إن كثيرا من الشعراء يسهمون في تكريس السلفية السائدة والخضوع للمستبد، نصا وسلوكا.

التمرد في طبعي ليس فعل خراقة، بل فعل وعي مبكر ونزوع خارق للحرية حين عتمة القيود، للجمال حين ركام القبح، للحياة في أوج فتنتها حين تفشي الموت. والتمرد كي يجد تعبيره في الشعر، يشترط الشجاعة، وليس الجرأة كما يصف البعض قصائدي. فالجرأة موقف آني من حدث آني، قد يليه الجبن والتخاذل في موقف آخر. الشجاعة وحدها تنبع من الروح والرؤيا لتسري في الحرف والمعنى.

أنتمي للإنسان المطلق

* بالرغم من أنك بدأت التحرك في مساحة الوعي ضمن منظومة قومية سائدة خرجت عليها فيما بعد (فنيا)... فإن ذلك الخروج لم يدخلك في المنظومة المضادة، إن صح التعبير... كيف يمكن للمبدع أن يتحقق إبداعيا دون أن يستند إلى حائط قوي من الفكر المنجز والمكرس سلفا؟

- لم أكن قومية قط أكان بوعي لاحق أم بلا وعي مبكر. فالقومية ليست سوى انتصار للعرق على حساب الأعراق الأخرى. كنت دوما كونية، لا أنتمي إلى قوم دون قوم رغم التصنيف الذي ينبغي أن يباد، بل أنتمي إلى الإنسان بمطلق تعريفه، وأنتصر لقضاياه المصيرية أينما كان، وفي أي زمن ترجّ فيه حياته كل وسائل الاستبداد ومصادرة حقه في الحياة والجمال والحب... وبسبب من هذه الرؤية والموقف، لم أحتج ولا أحتاج إلى حائط اتكئ عليه، ولعل هذا ما يفسر خروجي فنيا على الأمر والنهي والقالب والتطويع... كنت في زمن مبكر أبحث عن الطريق المؤدي إلى ذاتي الحرة... وكانت ثمة خيمة من الاستشراق وقفت في ظلها مع الآخرين وارتبطت مصائرنا معا... رغم أني لم أتعلم في ظلها ما لم أعرفه مسبقا، فقد جئت إليها ناضجة الوعي بالقهر الذي يحيق بالإنسان، وناضجة الوعي بالحرية وفداحة مطلبها؟ وأقول، بالأمس واليوم وغدا: لا حاجة للمبدع إلى حائط من أي نوع، فما الحيطان سوى أسيجة وقيود يدل عليها اسمها. والإبداع قوة تحطم الحيطان كلها وتنتصر للحياة بأجمل تجلياتها.

* بالمناسبة: أنت واحدة من قلائل الشعراء الذين تميزوا بوعي سياسي حاد، ولكن هذا الوعي لم يستغرق تجربتهم الشعرية... لم يفسد جماليتها وعفويتها... كيف استطعت المشي على البرزخ بين الشعر والوعي السياسي بهذا التوازن الذي لا يبدو مقصودا؟

- الوعي السياسي الحاد تعريف محدود، والصحيح أنه وعي بالحق والحرية والعدالة والمساواة، ليس لفرد دون آخر، ليس لجنس دون جنس، ليس لعرق أو قومية دون أخرى، ليس لدين دون آخر، لمجتمع دون آخر، ليس لحضارة دون أخرى. إنه وعي يشمل الإنسان والكون والكائنات. توق للحياة في أبهى وأرقى تجلياتها غريزة لا يحدها التعريف بـ (السياسي) لأنه توق يتجاوز المحدود إلى المطلق. والشعر إن لم يستطع وعي هذا المطلق يظل بوقا يرجع صدى الآخر المحدود. ويقيم له قداسة ليس جديرا بها.

لعلني انتبهت إلى هذا وشققت دربي ليس بفداحة وخسائر - إذ القول بالتضحية أو دفع الثمن، قول عقيم وسلبي ورثاء للذات - بل بغبطة وثراء... فالطريق الصعب أثرى بالمغانم من الطريق السهل!

* تمتلئ أجواء قصائدك بالنساء، دون انحياز مسبق منك نحو نموذج على حساب آخر من نماذجهن المختلفة... هل يعني ذلك أنك منحازة لمحض الأجواء النسائية بغض النظر عن المنطلقات الفكرية والاجتماعية والتاريخية والطبقية التي يمكن أن ينطلق منها كل نموذج على حدة؟

- بل إنني منحازة إلى الإنسان في صيغة المرأة كما له في صيغة الرجل، لا يعلو أحدهما على آخر ولا يتدنى دونه. فالإنسان هو المرأة والرجل معا، ففي كل منهما نبض من الآخر... ولأنني منحازة أبدا إلى الحرية فإنني ضد كل من يستلبها تحت أي أيديولوجية كانت، غيبية أم وضعية... وإذا كانت تجربتي الشعرية تشف عن انتصار للمرأة دون الرجل، فلأن الرجل دوما كان مبتكرا وحاملا لأيديولوجيات القهر والاستبداد، لا على المرأة وحدها وإن نالت النصيب الأكبر من نصل الاستبداد، بل على الرجل ذاته... ثم أنني امرأة أكتب بلسان حال النساء اللاتي هن أنا... واستبطن كينونتهن في كينونتي... إن أجمل شهادة تقدم لي حين يقول لي أحد، إن نصي أنثوي النزعة واللغة... وماذا عليه أن يكون غير ذلك... ألست امرأة؟!
الرجل... معشوقي وآسري بالحب

* على الصعيد نفسه... أين الرجال في قصائدك؟ يبدو وكأنك تعاملينهم بتهميش متعمد رغم أن القارئ لقصائدك يلاحظ أنك تفارقين الكثير من المنطلقات التقليدية للمرأة العربية الكاتبة في نظرتها المكرسة للرجل باعتباره متهما ومسئولا بشكل كامل عن كل تبعات مجتمعاتنا العربية الذكورية؟

- الرجل ليس مهمشا في تجربتي، فهو معشوقي وآسري بالحب. به ومعه تتحقق حريتي، وبه يتسع قيدي إلى حدود الأفق. الرجل أيضا ولدي وأخي... الرجل وحده من أصعد مراقي الوجود معه... وهو من يشظيني... فكيف أعادي من أعشق، ومن لا بديل له سواه؟ لكنني... عدوة شرسة بألف مخلب ومليون ناب لكل سوط ونصل وأيديولوجية من أي صنف ومسمى إذا جُسدَت في رجل!

* وعلى الصعيد نفسه أيضا... بالرغم من ذلك الهم النسوي الطاغي في قصيدة حمدة خميس فإنك لا تبدين ممثلة للقول النسوي التقليدي القائم على أساس معاداة الرجل لمحض رجولته بل ربما لوضعه المتميز اجتماعيا... ما رأيك؟

- من الخطأ الاعتقاد أن القول التقليدي النسوي على حد تعبيرك يعادي الرجل لمحض رجولته... كيف يكون ذلك والنساء اللواتي يرفعن شعار النضال النسوي أغلبهن متزوجات وأمهات واخوات لرجال وبنات لرجال؟ كما أن الوضع الاجتماعي المتميز ليس سببا في هذه المعاداة، بل الشرائع والقوانين اللاإنسانية واللاحضارية هي التي توغل في التمييز بين الرجل والمرأة... وسيبقى الوضع هكذا ما دامت شرائعنا وقوانينا إلى اليوم لاإنسانية ولا حضارية.

والمرأة لا تضمر العدوانية تجاه الرجل لأنها من تنجبه، لكن المفارقة الفادحة تكمن في غرس عدوانية الرجل تجاه المرأة أما، أختا، زوجة وحبيبة... وهذا الغرس يتم منذ غفلة الطفولة، فالأخ يربى على أنه وصي على أخته، حتى لو كان أصغر منها عمرا، والأب وصي على امرأته وبناته وأهل بيته كما يقال... إن الجرائم التي

لا تشرّف الإنسانية وتسمى بجرائم الشرف... تتم أغلبها على يد الإخوة بتحريض دائم من الأب... ومع الأسف حتى من الأم التي لقنت الخضوع وأفرغت من مكنونها الإنساني لتصبح مجرد أداة وخازن ومكرس لقيم المجتمع الذكوري... أما الوضع الاجتماعي المتميز فإن المرأة قادرة على البلوغ إليه حينما تتأنسن الشرائع والمفاهيم الاجتماعية التي تتشرب هذه الشرائع وتعيد إنتاجها في مسيرة حياتها على مر الأزمنة... لقد شوهت الشرائع منذ عصورها السحيقة إنسانية الرجل والمرأة معا، حين جعلت من المرأة خطيئة كبرى، وجعلت من الرجل فارسا يمتطي كل الصهوات!!

* منذ «اعتذار للطفولة» ديوانك الأول الصادر عام 1976، مررت بأكثر من مرحلة فنية... هل يكبر الشاعر على قصيدته؟ هل يتخلى عن قصيدة ما في سبيل بحث دءوب لقصيدته المستحيلة؟

- أظن أن القصيدة تكبر مع الشاعر، لأنها تحمل خصائص تحولاته الروحية والنفسية والثقافية التي تصوغها تجارب حياته بتنوعها... وما لا يشي به السرد تشي به القصيدة... والقصيدة التي تقف في مرحلة واحدة تشي بشاعر بقي في مرحلة وحيدة لم تلون مسراه التحولات، لا الشخصية منها ولا العامة... شخصيا أعشق التجريب على الرغم من أنني كسولة وفوضوية... دوما أتوق إلى الخروج عليّ، نصا أوشخصا... لا تعجبني ذاتي في آنها الواحد... ولأني امرأة ضجرة دوما اشتغل على تحولاتي كما يشتغل الإزميل في ضراوة الحجر.

وإزميلي الأمثل ليس القراءة وحدها بل فتنة التأمل العميق، وبهجة الأهواء والهوايات التي قد تبدو لا شعرية عند البعض لكنها تنساب في نسغ القصيدة كالماء في نسغ الشجر... وأنا امرأة أعشق الحياة وأسلك دروبها وأمجدها في كل تجلياتها الجميل... فهل استطاعت قصائدي اللحاق بي؟!

لسنا ضحايا للدونية

* شهدت السنوات الأخيرة اهتماما إعلاميا ونقديا مبالغا فيه لكتابات المرأة العربية (والخليجية بالذات) فيما يشبه الظاهرة التي بدأت فجأة... ألا ترين أن في ذلك الشكل من الاهتمام نوعا من التعامل الخاص والذي يخبئ وراءه نوعا من الدونية الخفية والتي أصبح الرجل المثقف، الحديث، لا يجرؤ على التصريح بها علنا، للمرأة وكتاباتها ما دام هذا الرجل ينظر لها بهذا الشكل الجمعي وإن كانت نظرة إيجابية؟!

- لماذا ننظر إلى هذا الاحتفاء من جانب سلبي؟ لماذا لا نقول إنه تعبير عن انتصار المرأة لقضاياها وإبداعها؟ ولماذا نستبطن الإحساس بدونيتها لنعتقد أننا ضحايا هذه الدونية؟ بالأمس القريب كان الرجل ينظر إلى إبداع المرأة على أنه «ثرثرة نسوان»، وأن قضاياها قد تبناها الرجل في إبداعه وتولى الدفاع عنها ولا لزوم إذن لأن تشغل المرأة نفسها بهذه الترهات... اليوم يحتفي الرجل بإبداع المرأة ويسهب في هذا الاحتفاء، البعض فرحا منتصرا لها، والبعض مكرها كي لا يقال إنه عدائي... فلماذا نحن النساء نعيد مفهوم الدونية وننظر إلى احتفائه بنا على أنه مبالغة تضمر الدونية وليست تضمر الإعلاء والاحتفاء... ألا تعتقدين أن الرجل يضمر في أعمق أعماقه الإحساس بوحشة الطريق إلى الإبداع حين يغيب عنه نصفه الإنساني؟

* كثر الحديث أخيرا عن مصطلح كتابة الجسد... توصيفا لنوع من الكتابات التي تحتفي بقضايا الجسد الأنثوي بالذات وتنتجها غالبا الكاتبات الجديدات، شاعرات وقاصات، إن صح التعبير... ألا ترين أن الانجرار المباشر وراء هذا النوع من الكتابات يخفي وراءه استجابة لمغريات النشر والترجمة مثلا دون أن تكون هناك حاجة ملحة في كثير من الأحيان إلى التوغل في قضايا الجسد عبر الكتابة الأيروتيكية بهذه المباشرة؟

- دوما سوء النية والتفسير... لماذا لا تتحدث المرأة والرجل عن أخطر حق صودر منذ الشرائع الأولى، عمودة الرجل والمرأة لماذا نعتبر الحديث عن الجسد خطيئة؟ هل سنظل إلى الأبد نتحدث عن الروح؟ وما هي هذه الروح غير طاقة الجسد؟ ثم عن أي جسد نتحدث... عن نصفه أم عن كله؟

ما الجسد سوى حضورنا في الحياة وما الروح إلا تجلي حيوية هذا الجسد... لقد صبت المفاهيم المعوجة كلها وحشيتها المضمرة والمعلنة على الجسد الأنثوي، وفصلت بين الجسد والروح. الجسد كرمز للانحطاط والروح كرمز سمو وهمي زائف، فشوهت لا حضور الجسد الإنساني بعنصريه بل جعلت من الجسد الأنثوي مرجعية لغوية لكل قاموس البذاءة التي يتداولها الناس كل يوم للحط من قيمة إنسان ما، رجلا كان أو امرأة... ويمكنك أن تستعرضي الآن قاموس البذاءة والتحقير لتدركي أننا نحن النساء كنا وما زلنا المرجعية في كل لفظ يعني الانحطاط والتحقير... وإذا كان ثمة امرأة تمتلك هذه الشجاعة النادرة لتعلن حضور هذا الجسد الإنساني في أوج ارتقائه، مرحى وألف مرحى... لقد أنهكت أجسادنا نحن النساء تحت حوافر الفرسان، وعلينا الآن ودوما أن ننفض هذه البردعة ونعلن حضورنا الإنساني الكامل!

* بالمناسبة: ما رأيك في قضية ترجمة الشعر في ظل المقولة السائدة التي تقول إن أي ترجمة للشعر تعتبر خيانة له؟ وكيف يمكن أن نصل للآخر بغض النظر عن حاجز اللغة؟

- الخيانة تتكرس على قدر الخائن... فإذا كان المترجم يتقن اللغتين - المترجم منها وإليها - لا اتقانا حرفيا فقط، بل حضاريا وبنية ثقافية، فإن الخيانة هنا لا تكون كذلك. ثم إن الشعوب تناقلت حضاراتها عبر الترجمة منذ أزمنة بعيدة، ودليلها حضارتنا التي نسميها عربية وإسلامية... ففي قراءة تاريخ هذه الحضارة سنرى أنها مزج بين حضارة بدوية منعزلة وحضارات تعددت جهاتها واقتحمت قسرا بما يسمى إلى اليوم بـ (الفتوحات)... ودقة هذا القول تجدينه في أسماء النوابغ في العلم والفلسفة والأدب التي تحتويها مدوناتنا التراثية!!

* وعلى الصعيد نفسه، ما الذي يهم الكاتب (ويهمك شخصيا أكثر)، نجاح الكاتب بلغته الأم؟ أم نجاحه المتعدد وبلغات أخرى؟

- بلى كل كاتب يهمه ويعنيه انتشاره بكل لغات الأرض... وغير هذا القول ادعاء كاذب... إن ثقافة كل مثقف عربي استندت إلى ثقافات العالم، عبر الترجمة... وما مكتباتنا اليوم سوى تكريس وامتداد لهذا النشاط... لكننا نحن العرب ما زلنا ننشط في ترجمة الآخر إلينا ونغفل بقصد وبدونية، عن ترجمة إبداعنا إلى لغات العالم.

الشعر أم اللغات

* يا ترى... أي شعر بقي لنا؟ وفي أي المظاهر يتجلى راهنا؟ وهل يمكن أن يبقى كأحد الخيارات الإنسانية الجميلة في ظل انفتاح العالم على بعضه بعيدا عن جغرافيا الشعر، ووفق صياغة العولمة الجديدة؟

- العولمة الجديدة قلت - ولست أعرف أن هناك عولمة قديمة - وحدت حضارات العالم، وجعلت من قراءة الشعر ممكننا في لحظة برقية، هذا إذا امتلكنا قدرة قراءة لغات متعددة. ولأن الشعر أم اللغات ومنجبها، سيظل وتر الإنسان حين يعزف إيقاعه الخاص، الذاتي، المتفرد... اللغات، وما من مجتمع في هذا العالم إلا ويتوالد فيه الشعراء. لكن علينا فقط أن ننفض التقييم السلبي لمفهوم العولمة، ونتقن أكثر من لغة كي نقرأ إيقاع الشعوب!

* أخلصت للقصيدة... ولكنها لم تكن خيارك الوحيد... كتبت للمسرح وكتبت للأطفال وتمارسين الكتابة الصحفية كخيار دائم... هل تأخذ هذه الخيارات من رصيد الشعر أم أنها تضيف إليه يا ترى؟

- التعدد لا يمكن إلا أن يكون ثراء وإثراء للشعر... وليتني كنت أكثر تعددًا مما أنا عليه الآن... والكتابة للصحافة قول سردي يكمل النص الشعري، ولا يلغيه... وأنا سعيدة جدا، لأن ما أريد له أن يكون نقمة صار نعمة... فحين اعترضت السيرة السياسية مسيرة الحياة، نهضت طاقة المعرفة والكتابة السردية للصحافة لتردم الهوة وتهزأ من المصادرة... وتضيف إلى التجربة الشعرية بعدا آخر يثري ويكمل.

* كيف تقوّمين الحركة الشعرية في المنطقة العربية راهنا؟ ومن من الأسماء الجديدة تسكن قصيدته ذائقتك الشعرية؟

- الشعر اليوم أصبح إمكانية كل مقتدر ومثقف، فقد تهشمت جدران الضوابط الخليلية وقوالبها المتيبسة على صخرة الحداثة... وأصبح التعبير عن الذات الإنسانية في انشغالاتها وفرديتها المصادرة دوما بحظر الجماعة، ممكنا وميسورا.

وسواء كانت القصائد المنتشرة تنبض بالشاعرية أو تتوهمها فإن التعبير لغويا أصبح حقا لكل إنسان سواء رضي المحافظون أم انتفضوا رفضا.

بالنسبة لي ليس لدي ثمة شاعر يسكن ذاكرتي، لأني أبدا اتقصى كل ما لا أعرف... وكل الشعراء بمن فيهم أنا يعيدون لي ذاكرة النص المتكرر... لكني أتوقف دهشة وطربا أمام نص متميز بمفارقته السائد والمألوف، أيا كانت شهرة الشاعر أم مجهوليته... والشعراء الشباب يثيرون لدي الكثير من الدهشة والإعجاب حين يبالغون في تطرفهم ويبتكرون صورا جديدة وبلاغة لم تقنن مسبقا... ولأني لم أضع نفسي قط، قياسا للشاعرية فإن كل جديد يبهرني وأحتفي بالنص

لا بالاسم أو الشهرة؟

* أنت من جيل حقق الكثير لهذه المنطقة بعد أن قدم الكثير من الضرائب على مختلف الصعد... هل تعتقدين الآن أن الضرائب التي قدمتها تتناسب طرديا مع ما تحقق لك؟ وما تحقق للأخريات (وهن كثيرات) على يديك أو استلهاما لتجربتك؟

- أنا لا أقول بالضرائب بل بالمكاسب... ما الذي خسرته؟ غفلتي أم غبائي أم خنوعي وتسليمي بقدر رسمه لي غيري وذات صاغها الآخرون، وأدعي أنها أنا أو ذاتي؟

في ثقافتنا العربية المتأبدة في التسليم والسلفية، تصاغ ذات الفرد وفق شروط الجماعة... والخروج على هذه الجماعة هو

ما نسميه الضريبة! ماذا كنت لأكون لو لم أخرج على شرط الجماعة؟ امرأة ملحقة بحظيرة العائلة، ثم بحظيرة الزوج، أم تلد، وتخدم، وتنطوي على أحزانها، وتموت كما يموت نبات منسي... أنا أخسر يا صديقتي الجميلة، ولم أدفع ضريبة استحقت عليّ ظلما وعدوانا، بل كسبت أناي ونقيت ذاتي من شوائب الآخرين، وها أنا حاضرة في الحياة كما سأكون حاضرة في الغياب!!

حياتي... في دواويني

* بالمناسبة: ألا ترين أنه آن الأوان لتسجيل ذلك كله في سيرة حياتية تؤرخ لسؤال الشعر وإجابات النساء هنا؟

- إن سيرتي الحياتية متوافرة جدا، في مقالاتي وتأملاتي... في ذاكرة من يحبوني وقلوبهم... في بهجة أولادي وضيائهم... أيضا في ذاكرة من يضمرون لي غير ذلك... تدوين السيرة الحياتية لا يمكن أن توجزه صفحات كتاب أيًا كان عدد صفحاته، لأنها مهما تعددت لن تبلغ مدار السنين التي عشتها وسوف أعيشها كما يتمنى كل كائن حي... مسيرة حياتي مدونة في قصائد دواويني... في مقالاتي... في أبحاثي. وحتى في أجوبتي على أسئلة كهذه دونها الصحفيون ونشرت في المنابر الصحفية على مدار سنوات... كما أنها موجودة في الدراسات التي اتخذت من تجربتي محاور لدراستها الأكاديمية... ثم إن من سوف يرغب في قراءة سيرتي بعد الغياب عليه ألا يوجزني في كتاب بل في حضوري الإنساني والشامل... ثم إني لا أمتثل للسائد والمتعارف عليه في كتابة الشعراء لسيرتهم أو لتجربتهم الإبداعية... فما من مرة قرأت سيرة لأحد واستغنيت بها عن تقصي إبداعه... إن كتابة مسيرتنا في الحياة لا يمكن أن تختزنها ذاكرة توشك على الستين

أو السبعين أو أكثر... إلا بمنظور آني وتأويل لاحق لما يسبق من مراحل حياتنا... لذا سوف أترك هذه المهمة للدارسين والمنقبين في رفاتنا!

* وأخيرا يا شاعرة: إلى أين تمضي بك القصيدة؟ وإلى أين تمضين بها؟

- لا أعرف أين سنمضي ببعضنا، ربما أرتقي بها عليّ... وربما ترتقي عليّ حين تحتضن نزقي، مروقي وتوقي الدائم للتجديد والعصيان...!!.


أرأيتَ مملكةَ الربـيـ
ـعِ يُعيدُ رونَقَها الربيع

ويُتَوَّجُ الراعي بهـا
ملِكاً رعيَّتُه القطيـع

الذئبُ يَرْهبُـه ويـل
ثُم كفَّه الحمَلُ الوديع

آذار في رَحْبِ الفضا
ءِ سفيرُ دولته الرفيع

هاتيكَ ألـوانٌ تشِـعـ
عُ وتلكَ ألحانٌ تَشيع

لَمنْ الربيـعُ وطيبُـه
وهواه والزَّهَرُ البديع

فرحُ الربيعِ لمنْ لـه
أرضُُ وليس لمن يبيع

المحرر مجلة العربي مايو 2008

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016