ربما كانت هذه أخطر الثورات العلمية التي عرفها الإنسان وأكثرها تأثيرًا - بالسلب - على حياته بالرغم مما لها من فوائد جمعة.
إن جوهر هذه الثورة البيولوجية المعاصرة في الحقيقة هو ما سمي لدى علماء الحياة المعاصرين مشروع «الجينوم البشري». وهذا المشروع «هو تطبيق تكنولوجيا علمية للوصول إلى المحتوى المعلوماتي للجينوم»، وقد بدأ هذا المشروع رسميًا في الأول من أكتوبر 1990.
والجينوم البشري هو مجمل المادة الوراثية المسماة «الدنا DNA» التي يحملها الحيوان المنوي أو البويضة والموجودة بنواة كل خلية من خلايا أجسادنا. ويوجد الجينوم في صورة خيط طويل مقسم إلى ثلاثة وعشرين جزءًا منفصلاً يسمى كل منها كروموزوما.
والجينات هي الأساس المادي للصفات البشرية، وهي مقاطع من الكروموزومات تختلف أطوالها من بضع مئات من النوتيدات «أي الحروف»، إلى ما قد يربو على المليونين. ولكل جين موقع محدد على كروموزوم بذاته. وتقول النتائج الأخيرة لمشروع الجينوم: إن جينومنا يحمل نحو 30 - 35 ألف جين، وكان يظن أنه يحمل مئة ألف. وتؤلف الجينات نحو 5% فقط من مجمل الجينوم، أما الباقي 95% فيقال له «سقط الدنا» ولا تعرف له حتى الآن وظيفة واضحة. يحمل الجنس البشري ما قد يصل إلى سبعة آلاف مرض وراثي، ويوجد بكل منا في المتوسط عدد من الجينات المسببة للأمراض يصل إلى أربعة أو ستة جينات. ولقد كان تعقب الجينات المرضية في الحق هو أهم أسباب البدء في مشروع الجينوم البشري، وكانت أولى مهام هذا المشروع هي اكتشاف سلسلة النوتيدات جميعًا، أي معرفة ترتيبها على طول الكروموزومات. ولقد تمت السلسلة فعلاً وأعلنت في 14 أبريل 2003م قبل الموعد الذي كان محددًا من قبل (سبتمبر 2005م) بأكثر من سنتين. وتم حتى الآن تحديد مواقع آلاف الجينات ومعرفة تتابعاتها من النوتيدات، ولايزال العمل يجري للعثور على بقية الجينات وتشريحها جزيئيًا.
الجينوم والهندسة الوراثية
منذ ثلاثة عقود مضت، بدأ استخدام مصطلح «الهندسة الجينية» الذي يعبر عن الصلة الوثيقة بين أعمال المختصين بالتقانة البيولوجية «الحيوية» وبين الهندسة والمنفعة المتبادلة بينهما، وبفضل هذه الهندسة، يمكن إجراء الكثير من التراكيب الجينية، التي يرغب علماء الهندسة البيولوجية في بنائها، كما يمكن في الوقت ذاته تصحيح الأخطاء في بعض التراكيب الجينية بتجميع تراكيب من الدنا طويلة وخالية نسبيًا من الخطأ. وهذه التقانة نفسها تجعل من الممكن تكوين بروتينات جديدة كليًا.
وربما يكون ذلك وراء ما يسمى بعلم التخلق Epigenetics الذي يعنى بدراسة كيفية انتقال المعلومات من خلية إلى نسلها من دون أن تكون هذه المعلومات مشفرة بصورة تامة في متوالية «الدنا DNA»، وبدلاً من ذلك، يمكن تحوير المبين أو تعديله بطريقة أخرى. وتعني لفظة علم التخلق - حرفيًا - ما وراء علم الوراثة، فقد تكون التعديلات في صورة إضافة أو حذف جزيئات بعينها من الـDNA والذي يؤثر بدوره في كيفية تعبير الجين من قبل نواة الخلية.
إن هذا العلم المترتب على الثورة البيولوجية - البيوجزيئية قد يثير لدينا سؤالاً مهمًا هو: ما الحدود العلمية على خلق أشكال جديدة من الحياة؟ هل يستطيع العلم في أحد الأيام أن يخلق أجناسًا جديدة من الحيوانات الخرافية أو حتى جيلاً جديدًا من «الإنسان الفائق» أو «السوبرمان بقدرات فوق بشرية؟ هذا السؤال طرحه بالفعل كاكو في كتابه «رؤى مستقبلية».
إن هذا التساؤل لم يعد غريبًا، بل أصبح واقعًا بظهور الاستنساخ الذي انتقل من علم النباتات إلى عالم الحيوان وهو في طريقه إلى الانتقال إلى عالم الإنسان، فمن حيث المبدأ أصبح من الممكن استنساخ كائنات حية أرقى بطريقتين، الأولى بإزالة خلايا من جنين «قبل أن تتخصص إلى خلايا للجلد والعضلات والأعصاب.. إلخ» ثم تعديلها وترتيبها في المعمل أو حقنها في أم بديلة. أما الطريقة الثانية فهي أصعب بكثير وأكثر إثارة، حيث تؤخذ خلايا بالغة تخصصت بالفعل، ومن ثم جعلها ترجع بطريقة ما إلى حالتها الجنينية. وقد تم استنساخ النعجة دوللي على يد إيان ويلمت Wilmut وفريقه العلمي بهذه الطريقة الأخيرة عام 1997.
نتائج إيجابية
لاشك أن هذه الثورة البيولوجية بدأت تؤتي ثمارًا إيجابية متنامية عامًا بعد عام، وخاصة في مجالات بعينها مثل: الطب وصناعة الأدوية وزراعة الأعضاء... إلخ، ففك الشفرة الوراثية DNA لأي إنسان أصبح ممكنًا لدرجة أن جيلبرت وهو أحد العلماء المعاصرين المرموقين يتنبأ «بأنه سيمكنك في المستقبل الذهاب إلى صيدلية والحصول على تسلسل الـDNA الخاص بك على قرص مدمج، حيث يمكنك بعد ذلك فحصها في منزلك وعلى جهاز الكمبيوتر الخاص بك».
وقد قال جيلبرت كذلك إن التعرف على الخريطة الجينية وتسلسل «الدنا» لشخص سوف يقلب الطب رأسًا على عقب، حيث ستؤدي هذه الثورة إلى نشأة ما يسمى بـ«الطب الجزيئي»، الذي يكافح الأمراض على مستوى الجزيئات. إن فهمنا للمشكلة المعقدة للعلاقات المتبادلة بين الجينات وخاصة المسببة للأمراض متعددة الجينات والتي تتعلق بأكثر من جين واحد، وكيف تتسبب فيها عوامل من البيئة، بما في ذلك الأمراض العقلية وأمراض القلب والمناعة الذاتية ومرض الخدن المبكر والتهاب المفاصل، بل وأمراض الشيخوخة المبكرة. إن هذه الأمراض ستجد علاجًا في ظل هذه التكنولوجيا الحيوية المتقدمة لدرجة أن بعض العلماء يعتقدون أنه بالإمكان مستقبلاً التحكم في عملية التقدم في السن وتأجيل الشيخوخة، فهي - في رأيهم - ستصبح ظاهرة يمكن إيقافها، بل ربما يمكن بعد عام 2050 التحكم في الحياة نفسها وإطالتها!
اليوجينيا: ماذا تعني؟
يفهم البيولوجيون «اليوجينيا» على أنها تطبيق علم الوراثة البشرية على المشاكل الاجتماعية. فهي نوع من الانتخاب الصناعي، وهو أيضًا «علم تحسين الإنسان عن طريق منح السلالات الأكثر صلاحية فرصة أفضل للتكاثر السريع مقارنة بالسلالات الأقل صلاحية». أما موضوع بحث هذا العلم فهو «دراسة العوامل الواقعة تحت التحكم الاجتماعي التي قد تحسن أو تفسد الخصائص الطبيعية الموروثة للأجيال في المستقبل جسديًا أو ذهنيًا».
ولاشك أن هذا الموضوع لليوجينيا ليس جديدًا، فهو يرجع إلى أفلاطون صاحب أول رؤية لتربية أناس فضلاء وتحسين السلالات في دولته المثالية. أما في العصر الحديث، فقد كان جالتون هو أول من اقترح وسمي هذا البرنامج برنامج تحسين البشر «اليوجينيا» في أواخر القرن التاسع عشر. وقد اشتق الكلمة من أصل إغريقي يعني «نبيل المحتد» أو «طيب الأرومة». وقد كان يهدف من خلال اليوجينيا إلى تحسين سلالة الإنسان بالتخلص من الصفات غير المرغوبة وبإكثار الصفات المرغوبة. ولقد ذاعت هذه الآراء اليوجينية لجالتون مع بداية القرن العشرين وأصبح لها أتباع كثيرون في أمريكا وبريطانيا وألمانيا وغيرها من الدول الأوربية.
لقد شاعت اليوجينيا وتدخلت في تكاثر البشر بشكلين، أحدهما إيجابي هو اليوجينيا الإيجابية التي تعنى بمعالجة وراثة البشر لتوليد أناس أفضل، والأخرى سلبية عرفت باليوجينيا السلبية التي تعنى بتحسين نوعية السلالة البشرية بتخليص العشيرة من المنحطين بيولوجيا، ويتم هذا بتثبيط المتخلفين عن الإنجاب أو بمقاومة دخولهم إلى العشيرة عن طريق الهجرة. ومن الناحية العملية لم يحدث الكثير بالنسبة لليوجينيا الإيجابية، وإن تكن ثمة ادّعاءات يوجينية قد ظهرت عند بدء سياسات الدعم العائلي في بريطانيا وألمانيا في الثلاثينيات من القرن الماضي، كما كانت مسائل اليوجينيا الإيجابية حاضرة ومضمنة بالتأكيد في منافسات «أفضل العائلات» التي كانت تقام بأمريكا في العشرينيات من القرن الماضي.
أما اليوجينيا السلبية، فقد كانت ولاتزال هي الغالبة، وهي التي ينبغي أن نحذر من نتائجها ومخاطرها.
نتائج سلبية
لقد بدأت مخاطر اليوجينيا السلبية تتضح مع أواخر عشرينيات القرن العشرين، وعلى وجه الخصوص حينما تم تمرير قوانين التعقيم اليوجيني، فقد سُنت العديد من القوانين اليوجينية، وأعلن عن دستوريتها في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1927م في حكم المحكمة العليا في قضية «باك ضد بيل» عندما أعلن القاضي أوليفر وينديل هولمز أن من رأيه «أن ثلاثة أجيال من البلهاء تكفي».
وكانت الولاية التي قادت هذه المساعي هي ولاية كاليفورنيا التي عقمت يوجينيا منذ عام 1933م عددًا من الناس يزيد على كل ما عقمته الولايات الأخرى مجتمعة.
وقد حدث في ألمانيا النازية أقوى التحام بين البحث اليوجيني والسياسة العامة، حيث حذت ألمانيا حذو الولايات المتحدة واستلهمت قوانين ومعايير التعقيم فيها، وحثت على تعقيم بضع مئات الآلاف من الناس، وساعدت - بالطبع - في التمهيد لمعسكرات الموت.
لقد شهد مطلع القرن العشرين إذن أبشع صور اليوجينيا السلبية، فقد كان المناخ الفكري مهيأً لتحول اليوجينيا إلى سياسة،، وبدأت الحرب اليوجينية حقًا في أمريكا وألمانيا وإنجلترا والسويد والدانمارك وفنلندة، وكان العدد الأكثر فيها هم المتخلفين وراثيًا، الفقراء، المعتوهين والمجانين، مرضى الصرع والدرن الرئوي، المقعدين، المنحلين، الشواذ والمومسات المحترفات، المجرمين بالفطرة ثم الملونين والمهاجرين من السلالات الأدنى. وكان السلاح في هذه الحرب هو التعقيم القسري والحد من زواج المتخلفين أو منعه، ومنع الحمل والإجهاض، بل والقتل إذا لزم الأمر. فالأقوى - كما يقول هتلر - لابد أن يسود على الأضعف ولا يمتزج معه حتى لا يضحي بعظمته و«لن يجد في هذا قسوة إلا الضعاف».
إنها إذن تأثيرات العلم اليوجيني والفلسفة النيتشوية التي ترى أن الحرب ضرورية للتخلص من البشر المتخلفين الضعفاء. وكما قال اليوجيني الكبير كارل بيرسون: إن اعتماد التقدم على البقاء للسلالة الأفضل - على الرغم مما قد يبدو فيه من شر فظيع - إنما يعطي الصراع من أجل البقاء ملامحه المفتداة. إذا توقفت الحروب، فلن يتقدم جنس البشر، لن يكون هناك ما يكبح جماح خصب السلالات المتخلفة.
اليوجينيا السياسية
إن الحقيقة التي أود لفت الأنظار إليها هي هذه العلاقة غير الشريفة بين الثورة البيولوجية ممثلة في رأس حربتها اليوجينيا والسياسات التي يعتنقها وينشرها العنصريون أو اليوجينيون الجدد. إن عام 2001 شهد إعلان أحدهم ويدعى ريتشارد لين R.Lynn عن عودة اليوجينيا باسمها الصريح، هذا حينما أصدر كتابًا له يحمل عنوان «اليوجينيا: إعادة تقييم»، وقال فيه: إننا على أبواب عصر جديد. إننا نتحرك بسرعة تفوق الخيال إلى نوع بشري جديد، وستسبقه حرب عرقية. وقد رد على المفكرين اليساريين بقوله: إنهم أمسكوا بزمام الإعلام الأيديولوجي وأقنعوا الغرب بأن لاشيء يسمى «العرق» أو السلالة، وأن اليوجينيا علم كاذب. لقد حيّدوا الغربيين بأن قالوا بأن البشر من طبيعة واحدة. وحان الوقت لنتحرر من هذه الأفكار والقيود، التي كبلونا بها حتى لم يعد في استطاعتنا أن نعترض على فكرة وجود فروق عرقية بين البشر.
ومن جانب آخر، فقد انتقد لين فكرة معادلة النازية باليوجينيا ومعادلتها بالهولوكوست، حيث رأى أن البرنامج الألماني لتعقيم المتخلفين عقليًا لم يزد حجمه عن برامج الدول الأخرى، فالسويد قد عقمت أكثر من أي دولة في الغرب. أما «القتل الرحيم» فكان يجري لإفساح المكان بالمستشفيات للمجهود الحربي بعد بداية الحرب عام 1939م. ليس للقتل الرحيم علاقة باليوجينيا. أما قتل اليهود في «الهولوكوست» فقد جرى عندما اعتُبروا السبب في نشر الشيوعية، ولأنهم اعتبروا سلالة ذكية قادرة على منافسة ألمانيا في سيادة العالم.
هل تحققت أهداف اليوجينيا السياسية؟
إن الواقع الذي يعيشه العالم الآن، والصراع الدائر بين العالم المتقدم الذي تحكمه «صفوة» من رجال المال والأعمال والسياسة، وبين بقية سكان العالم، وخاصة في جزئه الجنوبي لهو خير دليل على أن الكثير من هذه الأهداف اليوجينية قد تحققت والبقية ستأتي حتمًا.
ففي مجال تحديد النسل وتخفيض، بل الحد من النمو السكاني للعالم النامي كانت النتائج مذهلة، فلقد طبقت الصين برنامجًا صارمًا في هذا الصدد سمح حتى بمراقبة عاملات المصانع ووضع جداول بتواريخ حيضهن على حائط المصنع حتى يمكن أن يراقب كل شخص الآخر، وسمح بأن تجهض كل امرأة حملت بعد طفلها الأول دون موافقة رسمية. لقد أثمر هذا البرنامج الصارم أن تم إجهاض 53 مليون امرأة بين عامي 1979 و 1984م، وقد تم في الفترة نفسها تعقيم 9.3 مليون رجل و31 مليون امرأة، وقد كوفئ وزير الصحة الصيني بأن نال جائزة السكان في عام 1983م، كما كوفئت السيدة أنديرا غاندي التي وافقت حكومتها على الخصي الإجباري في السبعينيات من القرن الماضي.
وفي المجال نفسه، تم خلال الخمسة والعشرين عامًا الماضية في العالم ما يزيد على بليون ونصف بليون عملية إجهاض. وتناقص متوسط عدد الأطفال للمرأة بأكثر من الثلث في ظرف ثلاثين عامًا. ونقص المتوسط في كل الدول النامية من 6.1 طفل إلى 3.6 طفل.
وعلى الجانب الآخر، يتنبأ العلماء بأن أحد المخاطر على المدى البعيد هو أن الأغنياء سيتمكنون من خطهم السلالي، بينما لا يستطيع الآخرون ذلك مما سيترتب عليه أن يترك بقية المجتمع في ذيل القائمة البشرية. وهذا سيخلق نوعًا من النظام البيولوجي الجديد للطبقات.
إن ثمة خريطة تدعى خريطة هاب ماب يشير إليها د. مستجير قد تكون أكثر خطورة من خريطة الجينوم نفسها، إنها خريطة تشير إلى فروق وراثية بين أفراد السلالات البشرية المختلفة. فهناك اختلافات معروفة على معدلات أمراض معينة بين السلالات البشرية، فمعدل الإصابة بالتليف الكيسي أعلى بين القوقازيين منه بين الآسيويين أو السود. كما أن الأمريكان الأفارقة يتميزون بمعدلات مرتفعة من مرض ارتفاع ضغط الدم والسكر. إن هذه الخريطة - خريطة هاب ماب - كشفت عن وجود فروق وراثية بين شعوب المناطق الجغرافية المختلفة بالعالم. لقد نشر أخيرًا بحث صنف البشر إلى سلالات جغرافية خمسة: أوربية، إفريقية، شرق آسيوية أوشيانية وأمريكية، وهاجم فيه المؤلفون فكرة رفض التصنيف الوراثي للسلالات وأهميته. إن الفحص المدقق كما يؤكد د. مستجير - سيؤكد وجود فروق وراثية بين المجتمعات قد تؤدي إلى تفسيرات عرقية خطيرة غاية في الخطورة. لقد تردد منذ فترة القول بأن إسرائيل تمكنت من صناعة «قنبلة بيولوجية» إذا ألقيت على تجمعات بشرية، فإنها تقضي على من هو غير يهودي «خاصة العرب» ولا تصيب اليهودي بأي أذى أو ضرر. وحتى لو لم يكن هذا القول صحيحًا أو غير ممكن، فإن تطبيقات البيوجينيا السلبية وخريطة هاب ماب العنصرية، تؤكد أنه يمكن تطوير تقنيات تقضي على سلالات معينة إذا ما عرف خريطة هذه السلالات الجينية والتأثيرات البيئية وخرائط الأمراض التي تنتشر بين أصناف معينة منهم... إلخ.
إن أهداف اليوجينيا السلبية التي يوجهها ساسة العالم المعاصر من ذوي الأيديولوجيا العنصرية كالإدارة الحاكمة في أمريكا الآن، قد تحقق منها الكثير ولايزال الكثير قيد التحقيق في فلسطين وأفغانستان، وأخيرًا في العراق التي لا يمكن أن توصف الحرب التي دارت وتدور فيها إلا بأنها «الحرب اليوجينية» على حد تعبير د. مستجير.
ولاشك أن كل ذلك ينبغي أن يدفعنا دفعًا إلى إعمال الفكر والانشغال بتأمل مستقبلنا العلمي في ظل استشراء وانتشار هذه اليوجينيا السلبية وسيطرتها عى عقول هؤلاء الساسة في أمريكا وإسرائيل.
الإسلام والتقدم العلمي
بداية لابد من التأكيد على أن رؤيتنا الإسلامية تستند إلى أساسين هما: الفلسفة الأخلاقية العقلية، ومبادئ الشريعة الإسلامية. وقد يتصور البعض أن ثمة تناقضًا يمكن أن يبدو بين هذين الأساسيين، ولأولئك أقول مؤكدًا إنه لا تناقض مطلقًا بينهما، فالعقل أس الشرع كما قال الإمام الغزالي. والشريعة الإسلامية كانت أول من حض من الشرائع السماوية على إعمال العقل في كل ما حولنا لدرجة أن قيل إن التفكير فريضة إسلامية. وهذا عنوان أحد مؤلفات كاتبنا الإسلامي عباس محمود العقاد. ولنحدد المعالم الأساسية لهذه الرؤية فيما يلي:
إن الإسلام باعتباره الدين الخاتم، كما هو معلوم دين العقل والعلم معًا، وهو الدين الذي تتمايز في ظل الإيمان به ميادين المعرفة، فالدين أساسه الوعي، والفلسفة أساسها العقل، والعلم أساسه التجربة. وقد أدرك علماء الإسلام ومفكروه هذا الأمر جيدًا، فأكدوا على التمايز بين الأنساق المعرفية، وأدركوا أن العلم الإنساني ليس دينا وأن عقائد الدين الموحاة المطلقة الصدق ليست علمًا من جنس ما نعرفه عن معنى العلم الإنساني في التاريخ وبوسعنا - على حد تعبير د. مصطفى لبيب - أن نقرر خلافًا لما هو مظنون، أن الوعي بهذا وصل إلى حد أنهم لم يأخذوا علمهم من الدين، بل أخذوا دينهم من العلم وإلى حد اعتبار المجاهدة العقلية هي العبادة الحقيقية. ولنتأمل قول الإمام أبي حامد الغزالي في «معراج السالكين»: «إن العلم هو السلم المؤدي إلى معرفة الله سبحانه، فهو الخط المكتوب المودع المعاني الإلهية والعقلية على اختلاف طبقاتهم يقرأونه، ومعنى قراءتهم له فهمهم الحكمة التي وضع دلالة عليها»، ولنتأمل قوله أيضًا في «إحياء علوم الدين»:
وبناء على ذلك، أؤكد أنه من ثوابت العقيدة الإسلامية الإيمان بأهمية العقل وضرورة البحث الفلسفي والعلمي على حد سواء.
إن موقفنا العقلي والديني معًا يدعم البحث العلمي والتقدم العلمي، فليس هناك أي خيار أمامنا مع الانتصارات المتوالية للعلم في خدمة الإنسان إلا أن ندعو إلى الأخذ بأسباب العلم ودعم التقدم العلمي في كل مجالات العلوم مادام هذا التقدم لا يتعارض مع الحفاظ على قدسية الحياة الإنسانية وخصوصية المبادئ القيمية، التي توصل إليها البشر طوال تاريخهم العقلي الطويل مثل الحفاظ على الحريات وعدم التدخل في خصوصية الإنسان وإفساد حياته.
إن ثنائية الخير والشر هي المبدأ الحاكم في كل أفعال الإنسان، وهي الثنائية نفسها التي تتحكم وتوجه البحث العلمي. فبالإمكان دائمًا أن يصبح هذا التقدم في خدمة الإنسان ولخيره ولصنع الحياة الأفضل لكل البشر دون استثناء.
إن الغرب المتقدم علميًا لم يصنع تقدمه من فراغ، بل صنعه في العصر الحاضر معتمدًا على التاريخ العلمي للإنسان في كل مراحل تاريخ البشرية الطويل، إن التقدم العلمي الغربي المعاصر ليس إبداعًا غربيًا مطلقًا، بل هو استغلال للتراكم العلمي الذي تحقق عبر العصور من الشرق القديم بحضاراته الخمس الكبرى إلى الحضارة اليونانية والرومانية، إلى الحضارة الإسلامية ومنها جميعًا إلى الحضارة الغربية الحديثة. إن التقدم العلمي تراكمي. ومن ثم فقد تشارك فيه كل البشر وكل الحضارات. ولا يحق لأحد أن يدّعي أنه المبدع أو أنه وحده أصل التقدم العلمي وصانعه.
إن الحقيقة السابقة تدعونا أولاً إلى الثقة بالنفس، وبإمكاناتنا البشرية القادرة الآن كما كانت فيما سبق، على صنع الإبداع العلمي ومواصلة المشاركة في صناعة التقدم على كل المسارات وفي كل المجالات.