يمكن القول إن سلوكيات الإنسان مكتسبة في معظمها، أو لنقل إنها في أسوأ الأحوال خلقية عدلتها وبشكل كبير التأثيرات البيئية المعدلة للسلوك.
لا نريد أن نتعرض في هذا المقال للآليات الأساسية للتعلم، والتي يتم اكتساب السلوك من خلالها، فهذا موضوع مقال آخر، ولكن يمكن القول بوجود آليات ثلاث يتم من خلالها تعلم الاستجابة السلوكية.
أولاها: التكيف الكلاسيكي ويعتبر الفسيولوجي الروسي الشهير Ivan Pavlov واضع أسسها من خلال تجربته الشهيرة على الكلب والتي ربط من خلالها بين الاستجابة والتنبيه من خلال ردود الفعل الانعكاسية.
ثانيها: التكيف الفعال، ويعتبر العالم B.F. Skinner واضع أسسها، وذلك في السنوات القليلة الأخيرة، والتي تم رفضها في البداية لكن استطاعت تفسير عدد هائل من السلوكيات الاجتماعية التي فشلت نظرية التكيف الكلاسيكي في تفسيرها. باختصار نقول: إن هذه النظرية تقوم على مبدأ أساسي يقول إن نتيجة سلوك معين هي منبه بحد ذاتها يؤثر في السلوك المستقبلي !
ثالثها: التعلم بالمشاهدة، أو النمذجة Modeling. وهو أسلوب مهم في اكتساب السلوك من خلال محاكاة سلوك مشاهد في المجتمع، وذلك من خلال مرحلتين مميزتين ومهمتين: اكتساب هذا السلوك بمشاهدته، ومن ثم إنجاز هذا السلوك. إن للنمذجة أهمية خاصة كبيرة في حياتنا.
مع استمرار التعلم إما بالتكيف أو بالمشاهدة فإن التطور العاطفي الشخصي والإدراكي العقلي يسيران بمراحل متعددة.
فرويد واريكسون
في الواقع أن نظريات التطور العاطفي الحديث للإنسان ترتكز على ما جاء به سيجموند فرويد في التحليل النفسي لتطور الشخصية وقد قام أريك أريكسون في السنوات القليلة الأخيرة بتعديل وتغيير بنص المراحل النفسية الجنسية التي افترضها فرويد، فأصبحت النظرية مقبولة إلى حد كبير ومسلما بها.
تشرح الأعمار الثمانية للإنسان Eight Ages of man تطور شخصية الإنسان، حيث يشكل كل عمر مناطق انعطاف نفسية واجتماعية يتأثر فيها الفرد ببيئته ومجتمعه، مؤثرا بذلك على شخصيته الطاغية في تلك المرحلة مؤدية إلى تطويرها أو إلى تنكيصها.
برغم ترافق الأعمار الزمنية مع مراحل التطور عند أريكسون، فإنها تختلف باختلاف الأفراد، ولكن نتيجة مرحلة التطور واحدة وثابتة، كما هو في النمو أو التطور الجسدي، ولكن هنا، وبعكس التطور الجسدي، قد نرى خصائص في مراحل لاحقة هي صفات لمراحل أدنى، وهذا ينتج عن عدم زوال هذه الخصائص بشكل كامل مع انتهاء المرحلة السابقة.
مراحل التطور العاطفي
1- تطور الثقة الأساسية (من الولادة وحتى 18 شهرا):
تتطور في هذه المرحلة الأولية من التطور العاطفي الثقة الأساسية بالبيئة (أو تفقد الثقة). يعتمد التطور الناجح للثقة على الرعاية المتواصلة للأم، والتي تلبي المتطلبات العاطفية، والفسيولوجية للوليد.
توجد نظريات عديدة، ولكن لا توجد أجوبة شافية تتعلق بصفات الأم، ولكن من المهم نشوء رابطة قوية بين الوالدة والطفل، ويجب الحفاظ على هذه الرابطة حتى يطور الطفل الثقة الأساسية بالعالم.
والواقع أن النمو الجسدي للطفل يمكن أن يعاق بدرجة كبيرة إذا لم تتم تلبية حاجات الطفل العاطفية من قبل الأم. حيث يوجد مرض يدعى متلازمة الحرمان الأمي (نسبة إلى الأم) وهذه المتلازمة مميزة جدا، حيث يفشل الوليد في كسب الوزن حيث يعاق نموه الجسمي والعاطفي، فيبدو الطفل المصاب أصغر من سنه الحقيقي بكثير. برغم أن الآلية الدقيقة لحدوث هذا المرض غير واضحة تماما ولكن تلعب الهرمونات الدور البارز في حدوثها.
على كل فإن عدم وجود الدعم الأمي الذي لا يتظاهر جسديا، يتظاهر بشكل واضح في نقص الثقة الأساسية، وهذا ما يحدث في الأسر المنحلة المتفككة أو عند الأطفال الذين يتركهم آباؤهم ليعيشوا في بيوت للتربية.
2- تطور الاستقلال (18 شهرا حتى 3 سنوات):
في هذه المرحلة من التطور العاطفي ينتقل الطفل من الاعتماد الكلي على الأم ليطور شخصيته المستقلة أو ذاتيته حيث يصارع الطفل حتى يعمل على تنفيذ اختياره الحر في الحياة، ولذلك ندعو أطفال هذه المرحلة بالأطفال الفظيعين Terrible Two's. يختلف الطفل بين كونه شيطانا صغيرا يقول لا لكل شيء يطلبه منه والداه ليصر على تطبيق رأيه هو، وبين كونه ملاكا صغيرا يعتمد على أبويه كلية، ولذلك يجب على الأبوين في هذه المرحلة حماية الطفل من أي عواقب خطيرة لسلوك غير مقبول، مع منحه فرصة لتطوير سلوكه المستقل، وذلك حتى يطور ثقته بالمحيط.
إن فشل الطفل في تطوير استقلاله يؤدي لتطوير شك الطفل في مقدرته بنفسه، وثقته بمقدراته، ثم ثقته بالآخرين، وبالتالي شعور الطفل بالخجل والنقص.
المقدرة في استقلال مقدرات الطفل الذاتية الجسمية هي جزء مهم في هذه المرحلة، مثل استغناء الطفل عن الحفاظات، لأن تبليل الطفل لثيابه في هذه المرحلة يسبب له الخجل.
كما تتطور وتتبلور لدى طفل هذه المرحلة الصفات الشخصية من الحب والكره، والتعاون والأنانية، والحرية في التعبير مع الإحساس بالوعي الذاتي.
ولكن عندما يشعر الطفل بأي موقف مهدد في هذه المرحلة فإنه يطلب المساعدة من أي أحد ويصبح غير قابل للفصل عنها.
3- تطور المبادرة (3 - 6 سنوات):
يستمر طفل هذه المرحلة في تطوير استقلالية أكبر مع نشاط أكبر، حيث نلمس فعالية جسدية مع حركة وفضول شديدين، مع تساؤلات كثيرة وكلام متتابع.
يجب أن يكون هدف الآباء والمعلمين في هذه المرحلة هو توجيه هذه النشاطات باتجاه مهارات قابلة للتدبير، وترتيب الأشياء بحيث يرى الطفل نجاحه في هذه المهارات عندما يحاول إنجازها، ومنعه من السلوك في مهارات تؤدي لفشله، يجب أن نعلم أن الطفل في هذه المرحلة قابل، ما يعاكس الشعور بالمبادرة هو الشعور بالذنب وهذا الشعور بالذنب ينتج من الأهداف التي يضعها الطفل في مخيلته ولكن لم يصل لها، أو من خلال أعمال بدأ بها ولكن لم يكملها، أومن خلال توبيخ لتصرف قام به من قبل شخص يحترمه (النموذج).
4- التمكن من المهارات (7 - 11 سنة):
يعمل الطفل في هذه المرحلة على اكتساب المهارات الاجتماعية والمدرسية التي تمكنه من التآلف مع محيطه وبيئته، وكذلك يتعلم الطفل قوانين مجتمعه والعالم. وكما يتضح للطفل أن هناك بعض المهارات التي لا يمكنه إنجازها بمفرده بل لابد من التعان مع الآخرين ولذلك ينخفض تأثير الأبوين كنماذج ويزداد تأثير الأقران. الجانب السلبي المقابل الذي قد يتطور هو اكتساب الشعور بالدونية Inferiority، فشعور الطفل بعدم مقدرته على إنجاز المهارات المدرسية والاجتماعية والجسمية - بعكس الآخرين الذين ينجزون بشكل أفضل. يجعله يحس بهذا الشعور. ولذلك من المهم - وذلك على عاتق الكبار المسئولين عن الطفل - خلق جو من التحديات التي يمكن للطفل أن يقابلها ويتجاوزها لا أن يفشل فيها الفشل المضمون.
5- تطور الهوية الشخصية (12-17 سنة):
المراهقة هي فترة من النمو الجسمي المطرد، يحدث فيها تطور نفسي. اجتماعي كبير. حيث يكتسب الفرد شخصيته المتفردة والشعور بالانتماء لمجموعة أكبر، وإدراك أن الفرد يمكنه التواجد في وسط خارج عائلته. إنها مرحلة معقدة بشدة لأنه ينتج عنها عدد كبير من الفرص الجديدة. كما أن ظهور الدافع الجنسي يعقد العلاقات مع الآخرين. كما تتغير المقدرة الجسمية، وتتزايد المسئوليات المدرسية، وتتحدد مناهج حياة الفرد.
إن تأسيس هوية الفرد يتطلب منه الانسحاب الجزئي من العائلة الصغيرة، وازدياد حجم المجموعة المماثلة له بالعمر وازدياد أهميتها، لأنها تعطي الشعور بالوجود مع ازدياد التحديات التي تقابل المراهق كنشوء الدافع الجنسي، والضغوط المدرسية، ومسألة كسب المال، ونشوء منهج للحياة، وكذلك وسائل اللهو والتسلية.. تؤدي كلها لضغوط شديدة على الفرد.
كما نلحظ انسحابا بسيطا للفرد من المجموعة المماثلة عمريا وذلك لتأسيس الفردية المتميزة وازدياد قيمة الفرد.
6- تطور الصداقة (الكهولة الشابة):
تبدأ مرحلة الكهولة بتطور صلات صداقة مع الآخرين، ويعتمد نجاح تطوير الصداقة على قابلية الشخص للتضحية من أجل الحفاظ على هذه الصداقة. إن نجاح هذه الصلة يؤدي إلى علاقة زمالة من أجل الوصول إلى الأهداف، في حين أن الفشل فيها يؤدي للعزلة أو الشعور بالاضطهاد والنبذ.
7- توجيه الجيل التالي (الكهولة):
وهو الهدف الأكبر للكهل الناضج، أي تأسيس وتوجيه جيل جديد، ليس فقط بكون الفرد والدا يعيل أسرته، ولكن كذلك بدعم مجتمعه وأمته، وهذا ما يضمن نجاح الجيل التالي، وعكس ذلك الركودة التي تتصف بالتقوقع والمركزية
8- الوصول للكمال (الكهولة المتأخرة):
وهذه هي المرحلة الأخيرة من التطور النفسي الاجتماعي في هذه المرحلة يتكيف الفرد على المزج بين خيبة الأمل والنجاح والتي يختبرها كل فرد كهل. إن الشعور بالكمال يعني الشعور بأن الفرد قد عمل أفضل ما لديه في كل المواقف التي تعرض لها في حياته، واستطاع أن يصل لحالة سلام معها. ويعاكسها الشعور باليأس وهو شعور بعدم السعادة يترافق معه الشعور بالخوف من الموت.
لنعاملهم تبعا لأعمارهم
إذن، يمكن من خلال فهمنا لهذه المراحل المختلفة أن نعامل الأطفال حسب أعمارهم العقلية وتطور أجسامهم حتى نصل بهم إلى شاطيء الأمان وإلى مرتبة الشعور بالكمال. ولو تصورنا الإنسان يصعد درج أعمارة الثمانية لقابلتنا هذه الثنائيات المتواجهة:
الكمال - اليأس
التكاثر - الركودة
الصداقة أو العزلة
الهوية يقابلها فقدان الهوية
الجد والكد يقابلها الدونية
المبادرة يقابلها الشعور بالذنب
الاستقلال يقابلها الخجل والشك
الثقة الأساسية أو فقدان الثقة الأساسية
إن تعاقب هذه الأعمار ثابت وغير مقيد بزمن محدد تماما. قد لا يصل بعض الكهول للدرجة الأخيرة أبدا !