مختارات من:
القنفد
محمد مستجاب
المختفي في ليل الصحراء، والمنتصر الدائم على الثعابين
نادراً ما نرى القنفد في بلادنا، غير أني لمحته خلال زيارة عابرة لمدينة مرسى مطروح أقصى الشمال الغربي لمصر، كما أن زميلاً كاتباً ـ في منطقتنا ـ صرخ مشيرا إلى حيوان يقطع عرض الطريق ليلا: فأر.. فأر، فضحكت ابنتي ساخرة بأن هذا قنفد وليس فأرا، وحينئذ ثارت في الذهن قضية مرهقة، إن أدباء عديدين يكتبون الأدب ـ القصة بالذات ـ معزولون عن الواقع، أو دون دراية بالواقع، لقد كان منزله يبعد عن الموقع الذي حدث فيه ذلك بعدة أمتار..!!.
بعدها أحسست برغبة عارمة أن أرى القنفد، كنت أحس أنه ـ بأشواكه ولؤمه وخبثه ـ يرتدي معطف الخفراء، أو يندس بين أوراق سكرتيري المديرين، أو يتحلل مزقا وقطعا من شهوات العدوانيين، أو يختفي ـ لغة ـ في قصائد ومقالات المبتزين، أو هو الجهاز العصبي للذين يحيقون بالوطن الألم، وقد يكون ـ القنفد ـ نخاعا شوكيا للضباع والناهشين في سيرة الأبرياء.
وفي رحلتي الأخيرة بين تكوينات الصعيد، وجدت نفسي ضيفا على جماعة من الغجر، عاملوني ـ أول الأمر ـ بتوجس فظلوا شديدي الحذر، أقوالهم وحركاتهم منقوشة كالأشواك، غير أن الاقتراب الأكثر منهم أذاب الأشواك الحادة الصلبة ليعودوا في الشكل المطلوب تماما: شديدي الألفة والكرم والمرح، كان القنفد لا يزال في عقلي، وبعد أن احتسيت الشاي في مضربهم المؤقت الذي يقيمون فيه، "أجمل شاي شربته في حياتي"، أبرزت رغبتي: أن أشهد قنفداً، هكذا ثارت الرغبة دون مبرر ظاهر، فتهامسوا وتضاحكوا ثم جاءوا به ـ أي بالقنفد، ويدعونه "أبو أذن"، ذو رأس قصير وخطم "منطقة امتداد الأنف والفم" متوسط الطول ومدبب، والأذن بادية الكبر والاتساع وبيضاوية لها طرف مدبب، والذيل قصير قليل الشعر، وتغطي الأشواك كل الجسم في خطوط طويلة ممتدة حتى الجبهة والأذنين.
خلال اندهاشي لرؤية هذا القنفد، بدأ أصدقائي يعودون للتهامس، وكأنهم إمبراطور روماني يود إسعاد ضيفه، وجاء أحدهم بثعبان مرعب، ألقوا به على الأرض فأثار في النفس رعباً لذيذاً وممتعا، وفور أن وقع نظر القنفد على الثعبان حتى ازدادت أشواكه انتفاشاً، دار القنفد حول الثعبان عدة دورات "شاهدت من قبل مثلها بين الكلب والقط وان اختلفت التفاصيل" كانت المسابقة بين محيط الدائرة "القنفد" والمركز "الثعبان" تصل إلى المتر، حينئذ قفز القنفد قفزة صارخة ليصبح قريبا من الثعبان، وكان خطمه قد انكمش للخلف ليكون في حماية الأشواك المشرعة، ثم بدأ القنفد يزحف على بطنه، ومتى اقترب منه انقض عليه ـ مرة أخرى ـ في سرعة وحذق، وأمسك بالثعبان من نهاية الذيل، والتوى الثعبان بأنيابه البارزة محاولاً أن يلتهم القنفد، لكن الأشواك تحول دون ذلك، حيث يعود القنفد إلى الخلف بسرعة ويظل ساكناً فترة، وما يكاد الثعبان يعيد ترتيب نفسه حتى يهاجمه القنفد من الخلف بنفس الطريقة من جديد، هذه الطريقة التي قد تكون تجاوزت المرات العشر، حيث ـ آخر الأمر ـ يقفز القنفد قفزة شوكية واضحة القوة، ليتشبث برقبة أو رأس الأفعى ليظل ضاغطاً حتى تتوقف حركة الثعبان تماما.
ويرد القنفد ـ بالذال دون الدال ـ في المعجم الوسيط، وفي الموسوعة العربية الميسرة أيضا لكنه ـ عند علماء الحيوان من أساتذة الجامعات يرد بالدال ـ ويتكرر كثيرا حيث يبدو أن ذلك ناجم من تبادل الدال والذال موقعهما في بعض الأحيان عندنا ـ أي في اللغة العربية، وهو حيوان ثديي يأكل الحشرات، شديد النشاط ليلا ونادراً ما يشاهد نهارا، كما أنه يكمن شتاء كالثعابين والضفادع، وأنواعه عديدة تستوطن أوربا وآسيا وإفريقيا، والقنفد المصري نوعان: واحد يطلق عليه الحبش، والثاني هو الأذاني ـ والذي كان بطلا للمعركة السابقة مع الثعبان، كما أن نوعا ثالثا: أبيض البطن كان منتشرا جنوب مصر في القطاع النوبي قبل بناء السد العالي.
لكن علماء الحيوان يذكرون أنواعا عديدة من القنافد منها داكن الظهر، والشعري، والأوربي، وفي جميع الحالات فإن القنفد يميل إلى الانزواء والبعد عن مواقع الكثافة السكانية، وبعض فصائل الغجر تصطاده ـ خلال تجوالهم الدائم والمعهود ـ ليكون جزءا من لعبة يثيرون بها متعة الناس تكسبا، تماما مثل ألعاب الثعابين والعقارب والسلاحف "وهذا لا علاقة له بفصائل استخراج الثعابين"، لكني لم أشهد ذلك إلا حين زرت مضرب الغجر، كما أن القنفد لا يرد في المعهود من تشبيهات ومجازات الناس في حدود علمي، إلا أنني لاحظت ـ وكنت صبيا ـ أن أمي حاصرت أخي الأصغر بالعصا، في ركن، واتهمته بأنه كالقنفد يصيب بالأذى كل من يحتك به، مع أن أخي هذا طيب جدا ونلوذ به دائما كي لا يستمع إلى شكوى الآخرين من أذى يلحق بهم حين يقتربون منّا.
نادراً ما نرى القنفد في بلادنا، غير أني لمحته خلال زيارة عابرة لمدينة مرسى مطروح أقصى الشمال الغربي لمصر، كما أن زميلاً كاتباً ـ في منطقتنا ـ صرخ مشيرا إلى حيوان يقطع عرض الطريق ليلا: فأر.. فأر، فضحكت ابنتي ساخرة بأن هذا قنفد وليس فأرا، وحينئذ ثارت في الذهن قضية مرهقة، إن أدباء عديدين يكتبون الأدب ـ القصة بالذات ـ معزولون عن الواقع، أو دون دراية بالواقع، لقد كان منزله يبعد عن الموقع الذي حدث فيه ذلك بعدة أمتار..!!.
بعدها أحسست برغبة عارمة أن أرى القنفد، كنت أحس أنه ـ بأشواكه ولؤمه وخبثه ـ يرتدي معطف الخفراء، أو يندس بين أوراق سكرتيري المديرين، أو يتحلل مزقا وقطعا من شهوات العدوانيين، أو يختفي ـ لغة ـ في قصائد ومقالات المبتزين، أو هو الجهاز العصبي للذين يحيقون بالوطن الألم، وقد يكون ـ القنفد ـ نخاعا شوكيا للضباع والناهشين في سيرة الأبرياء.
وفي رحلتي الأخيرة بين تكوينات الصعيد، وجدت نفسي ضيفا على جماعة من الغجر، عاملوني ـ أول الأمر ـ بتوجس فظلوا شديدي الحذر، أقوالهم وحركاتهم منقوشة كالأشواك، غير أن الاقتراب الأكثر منهم أذاب الأشواك الحادة الصلبة ليعودوا في الشكل المطلوب تماما: شديدي الألفة والكرم والمرح، كان القنفد لا يزال في عقلي، وبعد أن احتسيت الشاي في مضربهم المؤقت الذي يقيمون فيه، "أجمل شاي شربته في حياتي"، أبرزت رغبتي: أن أشهد قنفداً، هكذا ثارت الرغبة دون مبرر ظاهر، فتهامسوا وتضاحكوا ثم جاءوا به ـ أي بالقنفد، ويدعونه "أبو أذن"، ذو رأس قصير وخطم "منطقة امتداد الأنف والفم" متوسط الطول ومدبب، والأذن بادية الكبر والاتساع وبيضاوية لها طرف مدبب، والذيل قصير قليل الشعر، وتغطي الأشواك كل الجسم في خطوط طويلة ممتدة حتى الجبهة والأذنين.
خلال اندهاشي لرؤية هذا القنفد، بدأ أصدقائي يعودون للتهامس، وكأنهم إمبراطور روماني يود إسعاد ضيفه، وجاء أحدهم بثعبان مرعب، ألقوا به على الأرض فأثار في النفس رعباً لذيذاً وممتعا، وفور أن وقع نظر القنفد على الثعبان حتى ازدادت أشواكه انتفاشاً، دار القنفد حول الثعبان عدة دورات "شاهدت من قبل مثلها بين الكلب والقط وان اختلفت التفاصيل" كانت المسابقة بين محيط الدائرة "القنفد" والمركز "الثعبان" تصل إلى المتر، حينئذ قفز القنفد قفزة صارخة ليصبح قريبا من الثعبان، وكان خطمه قد انكمش للخلف ليكون في حماية الأشواك المشرعة، ثم بدأ القنفد يزحف على بطنه، ومتى اقترب منه انقض عليه ـ مرة أخرى ـ في سرعة وحذق، وأمسك بالثعبان من نهاية الذيل، والتوى الثعبان بأنيابه البارزة محاولاً أن يلتهم القنفد، لكن الأشواك تحول دون ذلك، حيث يعود القنفد إلى الخلف بسرعة ويظل ساكناً فترة، وما يكاد الثعبان يعيد ترتيب نفسه حتى يهاجمه القنفد من الخلف بنفس الطريقة من جديد، هذه الطريقة التي قد تكون تجاوزت المرات العشر، حيث ـ آخر الأمر ـ يقفز القنفد قفزة شوكية واضحة القوة، ليتشبث برقبة أو رأس الأفعى ليظل ضاغطاً حتى تتوقف حركة الثعبان تماما.
ويرد القنفد ـ بالذال دون الدال ـ في المعجم الوسيط، وفي الموسوعة العربية الميسرة أيضا لكنه ـ عند علماء الحيوان من أساتذة الجامعات يرد بالدال ـ ويتكرر كثيرا حيث يبدو أن ذلك ناجم من تبادل الدال والذال موقعهما في بعض الأحيان عندنا ـ أي في اللغة العربية، وهو حيوان ثديي يأكل الحشرات، شديد النشاط ليلا ونادراً ما يشاهد نهارا، كما أنه يكمن شتاء كالثعابين والضفادع، وأنواعه عديدة تستوطن أوربا وآسيا وإفريقيا، والقنفد المصري نوعان: واحد يطلق عليه الحبش، والثاني هو الأذاني ـ والذي كان بطلا للمعركة السابقة مع الثعبان، كما أن نوعا ثالثا: أبيض البطن كان منتشرا جنوب مصر في القطاع النوبي قبل بناء السد العالي.
لكن علماء الحيوان يذكرون أنواعا عديدة من القنافد منها داكن الظهر، والشعري، والأوربي، وفي جميع الحالات فإن القنفد يميل إلى الانزواء والبعد عن مواقع الكثافة السكانية، وبعض فصائل الغجر تصطاده ـ خلال تجوالهم الدائم والمعهود ـ ليكون جزءا من لعبة يثيرون بها متعة الناس تكسبا، تماما مثل ألعاب الثعابين والعقارب والسلاحف "وهذا لا علاقة له بفصائل استخراج الثعابين"، لكني لم أشهد ذلك إلا حين زرت مضرب الغجر، كما أن القنفد لا يرد في المعهود من تشبيهات ومجازات الناس في حدود علمي، إلا أنني لاحظت ـ وكنت صبيا ـ أن أمي حاصرت أخي الأصغر بالعصا، في ركن، واتهمته بأنه كالقنفد يصيب بالأذى كل من يحتك به، مع أن أخي هذا طيب جدا ونلوذ به دائما كي لا يستمع إلى شكوى الآخرين من أذى يلحق بهم حين يقتربون منّا.
