مختارات من:

محمد بن عيسى وعبد الرحيم العلام

المحرر

راهنت أصيلة على الثقافة فارتبطت بها


* كانت مؤازرة جلالة الملك الحسن الثاني ودعم جلالة الملك محمد السادس مواسم أصيلة حماية لنا ضد من احتالوا لقبر هذه المبادرة
* هناك ثقافات عربية وليس ثقافة واحدة، ويجب استثمارها لتطعيم الثقافة الكبرى
* كنت ومازلت أتطلع إلى اليوم الذي ستصدر فيه مجلة العربي بلغات أخرى

حين تلَبس عشق «أصيلة» بمحمد بن عيسى، تماهت به الأحاسيس نحو المغامرة والحلم، لصنع المختلف والمتفرد والأفضل لمدينته، والسعي لانتشالها من قوقعة الصمت والنسيان.

من العشق بدأت الرحلة؛ رحلة «موسم أصيلة الثقافي الدولي»، وبالعشق والتفاني سقيت مشاتلٌها الفنية، لتزهر تشكيلا، وموسيقى، وشعرا، ومسرحا، وفكرا؛ رحلة اعترتها الكثير من الصعوبات والإكراهات، والخيبات، والكثير من الحبور والانتشاء بكسب رهان المغامرة. رحلة قادها، بكل تفان ونكران للذات، الأستاذ محمد بن عيسى، أمين عام مؤسسة منتدى أصيلة، وكل سكان هذه المدينة، وجميع ضيوف موسمها، وزوارها، فكانوا جميعا حراسا لـ «مدينة الفنون»، وصانعي كينونتها الإنسانية والثقافية والفنية.

لكن المثير في هذه الرحلة، هو أنها لا ترتبط عند محمد بن عيسى بموسم أصيلة الثقافي فقط، بل تتجاذبها أسفار أخرى عديدة، سياسية وثقافية وفنية وشخصية، أثمرت عديد الخبرات، والتجارب، والأفكار، وامتدت في عدد من الجغرافيات والبلدان والقارات، كما أنتجت ذاكرة مشعة وثرية، يبدو من الصعب اختراقها، أو لملمة خيوطها كلها، في هذا الحوار المفتوح، والصادق معه.

فهو الفنان، والمثقف، وعمدة المدينة، والوزير، والسفير، لكنها مهام ومناصب، مهما تسامت، ومهما تُوجت، فهي تنصهر فيما بينها، لتقدم لنا صورة ذلك الإنسان، الحكيم، العاشق للفن والفكر، والمخلص لوطنه ولمدينته، والحارس الأمين لكل قيم الحوار والتفاعل والتلاقح بين الشعوب والحضارات.

في هذا الحوار نسافر مع الوزير الفنان محمد بن عيسى، في ذاكرة موسم ثقافي فريد من نوعه، ونحن نحتفي مع أصيلة بالذكرى الثلاثين لتأسيس موسمها الثقافي الدولي.

* راهن موسم أصيلة الثقافي الدولي بشكل مغامر وجنوني، منذ بدايته، ولايزال، على الفن، فربح الرهان. استمر الموسم، واتسع، وامتد، كما ازداد إشعاعه، وتعمقت تجربته عالميا، وامتد تأثيره إلى مهرجانات، ومدن مغربية وعربية أخرى.
فكيف فكرتم في المراهنة على الفن بالدرجة الأولى؟ هل ذلك نابع من تجربتكم الشخصية مع (الصورة)، وتجربة صديقكم، في المغامرة، محمد المليحي مع (الرسم)؟ أم أن للاشعور دخلا في عملية الاختيار، والمراهنة على الثقافة والتشكيل، بحكم أنكم قد عايشتم وتأثرتم بتجارب بلدان أخرى، ففطنتم، منذ البداية، إلى أن أصيلة لن تكون سوى «مدينة للفنون» بامتياز؟

- هذا موضوع يحتاج إلى مائدة مستديرة لتعريف الثقافة المغربية بمعناها الشامل. أعتقد أن كل دارس أو متمعن في تاريخ الثقافة المغربية، سيلاحظ بعض المميزات، من قبيل أن الإبداع في الثقافة المغربية، كان أساسا بصريًا ويدويًا، ولم يكن كلاميا. لذلك، نجد، مثلا، أن العمارة والفسيفساء والطرز والأعمال الجلدية والنحاسية والجص والزرابي، فيها زخم كبير من الإبداع العلمي، فإذا لاحظنا الزخرفة المغربية في الخشب، فسنجد أنها زخرفة حسابية وهندسية، وليست فقط رسومات جزافية.

هذه نقطة أولى. أما بخصوص تجربتي مع الصورة، فقد كنت منذ صغري مهتما بها. كنت قد اشتريت من طنجة، عام 1951، أول كاميرا، هي عبارة عن صندوق (box)، بـ 150 بسيطة إسبانية حينذاك (أقل من يورو)؛ ومازلت أحتفظ إلى اليوم بعشرات الأفلام لصور صبانا في أصيلة.

كما أن إقامتي في مصر لفترة، رسخت في تجربتي ثقافة الفعل والكلمة، وعلمتني طرق التعايش مع الغربة والحاجة. سافرت سنة 1961 إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لدراسة علوم الاتصال (الإعلام والصحافة)، وهناك اكتشفت قطاعا أكاديميا كبيرا، يتخصص فيه الناس، للحصول على شهادات عليا، هو قطاع الإبداع البصري. كنت أدرس الصحافة بمعناها الواسع، ولم أتخصص في التصوير. ولكنني كلما كان عندي فائض من القروض (crédits) في دراستي، كنت أختار دروسا في فنون التصوير، وأذهب إلى المختبرات، وأشتغل مع كثير من الزملاء المصورين الكبار، الذين كانوا يعملون في مجلات مختلفة، كـ (Geografic magazine)، و(Look)، و(Life)، وكلها مجلات لم تعد موجودة اليوم. هذا ما دفعني نحو الصورة، وأتاح لي فرصة التعرف على مبدعيها، مثل المصور الفرنسي الكبير كارتيي بريستون (كان يأتي من باريس إلى نيويورك)، والمصور النمساوي إرنست هاس، وغيرهما. ثم من خلال دراستي للاتصال، تخصصت في «الاتصال البصري» أو «الاتصالات الإلكترونية» (Electronic Medias). تدربت بعد تخرجي في قناة (NBC) الأمريكية، حوالي 6 أشهر، ثم كنت من حين لآخر، ولأكسب بعض الدولارات الإضافية، أصور لبعض التلفزيونات، لكنني لم أكن في الحقيقة مهنيا أبدا. هذا ما جعلني أنضم إلى حلقة الأصدقاء المبدعين بالصورة والرسم واللوحة الزيتية. كان معظم أصدقائي، في الولايات المتحدة الأمريكية، وبعدها في البلاد التي اشتغلت بها مسئولاً دوليًا، في إفريقيا، وفي أمريكا اللاتينية، وفي أوربا، كان معظمهم من رجال الإبداع، من التشكيليين والسينمائيين والمسرحيين. كما تعرفت على كثير من الفنانين خلال الستينيات والسبعينيات، في كينيا وتنزانيا وغانا وساحل العاج والسنغال وأثيوبيا. كانت فرصة، بالنسبة لي، لتوثيق التجربة بالصورة، حيث صورت مناظر نادرة عن الحياة والطبيعة. ومنذ فترة قصيرة فقط، وأنا في لندن، فكرت في إخراج هذه الأعمال في كتاب، وهي رغبة كانت تراودني قبل ثلاثين سنة. مرة في روما، في خريف 1957، حدثني محمد المليحي عن مشروع يقام في فرنسا، يوفر للفنانين التشكيليين فضاء للعمل لمدة معينة، شريطة أن يكون مقابل ذلك، ما أبدعوه من لوحات. بعدها ببضع سنوات، اكتشفت أن ما كان يعنيه المليحي هو «مدينة الفنون» (Ville des arts). كما بقيت تلك الزيارة التي قمت بها، أنا وزوجتي للدنمارك سنة 1971، عالقة في ذهني، حيث كنا قد توقفنا في كوبنهاجن ليلة العودة، فقرأت في مجلة عن افتتاح «متحف لويزيانا»، رحنا لزيارته، واكتشفنا فيه منظرا جميلا، حيث وجدنا في بهوه الكبير أطفالا يرسمون، وأعمالا نحتية جبارة لكبار الفنانين، مثل هنري مور. صورة أولئك الأطفال وهم يرسمون، بقيت عالقة بذهني إلى اليوم.

عندما عدت إلى أصيلة بهذا الزخم الفني، فكرت في تأسيس جمعية، فكانت «جمعية المحيط الثقافية»، التي تحولت فيما بعد إلى «مؤسسة منتدى أصيلة». هكذا، بدأت أحقق ما كنت أفكر فيه، وأنا طفل، أي كيف نجعل من مدينتنا «مدينة للفنون»، وليس فقط حيا للفنون، كما هو في باريس.

وفي أحد اجتماعات المجلس البلدي لأصيلة، حيث كنت مستشارا منتخبا بالمجلس المذكور، منذ عام 1967، كان النقاش حول مشكلة جمع النفايات والأوساخ والنظافة في المدينة. وهنا طرحت على أعضاء المجلس موضوع إشراك الطفل في المحافظة على البيئة، وعلى نظافة المدينة، ومن ثم، اقترحت على المجلس دعوة مجموعة من الفنانين التشكيليين المغاربة أن يرسموا أعمالا تشكيلية على الجداريات. لذلك جعلنا من مجموعة أطفال كتائب لحماية أحيائهم من الأوساخ والنفايات، هكذا كانت البداية.

وفي السنة نفسها 1978، تساءلت لم لانطور هذا العمل إلى شيء آخر؟ مثلا استضافة بعض الفنانين من خارج المغرب، للإقامة والإبداع لمدة معينة في أصيلة. وفعلا، حدث أن ذهبت إلى نيويورك لهذا الغرض فقط، فاستطعت أن أحصل على أرقام هواتف 11 فنانا، من الولايات المتحدة وجواتيمالا وفلسطين والعراق والسودان واليابان، ووجهت لهم الدعوة، فالتقينا في شهر يوليو في «قصر الريسوني» بأصيلة، الذي كان عبارة عن خراب. كان ضيوفنا يستحمون، في البداية، بماء البئر، ويأكلون وينامون في بيتي.

كانت هذه هي بداية مشاريع الحفر التشكيلي التي اشتهرت بها أصيلة.
أصيلة ملتقى الحوار

* هل لكم أن تقربونا، ولو بشكل مركز، من طبيعة الحوار الثقافي والفكري الذي خلقه موسم أصيلة الثقافي الدولي، وطوره على مدى تسعة وعشرين موسمًا، بشكل أضحت معه مدينة أصيلة فضاء مفتوحًا، وملتقى حرًا للحوار الثقافي والحضاري، بين الشمال والجنوب، وبين الشرق والغرب؟

- أنا أظن أن أصيلة بادرت إلى عمل ثقافي، ليس نخبويًا، ولا شعبويًا، وليس بعمل في قاعة مغلقة. كانت البداية بعمل التشكيل، ولأول مرة في بلادنا يمارس التشكيل كل عام في الشارع، من خلال صباغة الجداريات، فأصبح الناس يحترمون هذا العمل دون المس به، ولا نبشه أو خربشته، بحيث أصبحت هذه الممارسة تشكل جزءًا منهم. أما بخصوص الندوات واللقاءات والمحاضرات، فأصيلة كانت سباقة إلى فتح فضاء الحوار الحر، والمسئول، والجريء، حيث كانت التعددية تتم في جو شعبي، في «مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية»، وقبله في «قصر الريسوني» (قصر الثقافة حاليا)، كفضاءات، كانت، ومازالت، مفتوحة للجميع؛ للأستاذ والمفكر والجامعي، وبجانبهم الأم المرضعة، وصياد السمك. أنا أسمي هذا الفضاء «برلمان الثقافة».

* كيف تمكن موسم أصيلة الثقافي الدولي، منذ تأسيسه في فترة تاريخية وسياسية، كانت مطبوعة بالاحتقان السياسي والثقافي، أن يحظى باهتمام الملك الحسن الثاني رحمه الله، وبدعمه ورعايته، ودوام سؤاله عن الموسم، وكذلك برعاية ودعم الملك الحالي محمد السادس، منذ أن كان وليا للعهد. حدث هذا في مرحلة كان قد دخل فيها الموسم في صراع مع السلطة، التي اعتبرت هذا المولود الجديد تحديا لها، فسربت من حوله الأقاويل والشكوك والتهم الشخصية؟

- بالفعل، أقول هذا وأكرره في كل مناسبة، فلولا مظلة جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله، وجلالة الملك محمد السادس، لا أعتقد أنه كان بإمكان مشروع أصيلة الثقافي الدولي أن يستمر ويتطور، وأن يئول إلى ما آل إليه. ذلك أن موسم أصيلة الثقافي نشأ في أوج الحرب الباردة، وفي أوج شتات النخبة العربية والإفريقية. كما عرفت هذه الفترة، في كثير من الأحيان، أزمات بين النخب والسلطة، وانبعاثًا جديدًا كذلك للحركات المطالبة بالديمقراطية، وحقوق الإنسان، والحريات العامة.

كان طبيعيا أن يثير ولادة موسم أصيلة في هذه الأجواء، الكثير من الشكوك: شكوك النخب، والهيئات السياسية، ومنظمات أخرى في المجتمع المدني، وكان من الطبيعي أيضًا أن يثير انزعاج السلطات، وكنت أدافع عن مبدأ الثقافة، غير التابعة للأيديولوجيات، وغير الخاضعة للسلطات. كنت دائما أقول إن العمل الثقافي يجب ألا يكون وقفا على أحد، فهو مجال للتبارز والتحاور واحترام الرأي الآخر.

ولقد أتيحت لي فرصة، شرحت فيها لجلالة المغفور له الملك الحسن الثاني، في يوم من عام 1978، مضمون مشروع أصيلة الثقافي، قلت لجلالته، نسعى في «جمعية المحيط الثقافية» إلى تفعيل اللامركزية، التي كانت شعار المغرب الجديد بعد المسيرة الخضراء، وذلك بالخروج بالعمل الثقافي، وبالتظاهرات الفنية، من العاصمة إلى فضاءات عمرانية أخرى في المملكة، وأوضحت لجلالته ما كنا نعانيه، حين نطرح مفهومنا للعمل التقدمي والممارسات الديموقراطية. وقلت لجلالته إن التقدمية لا تعني بالضرورة الدعوة إلى الانتساب إلى فئة ما، أو التآمر على نظام ما. فأنا، لكي أكون تقدميا لست مجبرا أن أكون ماركسيا، مثلا. وتفهم العاهل الراحل ما كنت أود إنجازه في مدينة أصيلة. وهكذا، كانت مؤازرة جلالته رحمه الله. ومن ثم، كان دعم وترؤس جلالة الملك محمد السادس، وهو حينئذ ولي للعهد، مواسم أصيلة، حماية لنا ضد من كانوا يحتالون لقبر هذه المبادرة.

هكذا، كان في حضور جلالة الملك محمد السادس، وهو ولي للعهد، إلى أصيلة، لافتتاح بعض مواسمها حافزًا لنا، للمضي قدمًا في تطوير التجربة، وتعميق الممارسة، وتنويع الأنشطة. وأشهد أنه لم يحدث في أي موسم من المواسم أن تلقيت أي توجيه من أحد، فقد كنا، كما نحن اليوم، نعمل في مناخ شفاف، وحر، وملتزم. كنا نريد أن تكون أصيلة منتدى، يلتئم فيه الجميع، من اليمين واليسار، تعبر فيه النخب عن آرائها، وعن توجهاتها بكامل الحرية، وبكامل المسئولية.

هكذا، إذن، راهنت أصيلة على الثقافة، فارتبطت بها، فترى الناس يحجون إليها، من كل بقاع العالم، في إطار «موسم هجرة إلى أصيلة»، ليس للاستمتاع ببحرها فقط، بل لأن ثمة أيضًا موسمًا ثقافيًا هناك.

صحيح أن المدن، بصفة عامة، لها مميزاتها وخصوصياتها، إما تجارية أو سياحية أو صناعية، وأعتقد أن الثقافة هي من التوابل الثابتة، مثل الملح بالنسبة للطعام. هكذا، هو شأن الثقافة، فأنا لم أعرف مكانا يعيش فيه الإنسان دون رصيد ثقافي ما. خصوصية أصيلة، تتمثل في أن الثقافة فيها مازالت تتسم بالتلقائية في كثير من الأشياء، بحيث تجد فيها نوعًا من الألفة كما لو كانت ناديًا، كل واحد يلعب ويمارس فيه ما يستهويه. هذه هي أصيلة في موسمها، ولذلك، يغلب عليها هذا الطابع الثقافي. فأصيلة لخصوصيتها البيئية على الأطلسي، بجمالية غروبه في الخريف وفي الشتاء، ولمناخها الصحي، تبنت عددا من الفنانين والشعراء والكتاب، بحيث تبدو حصيلتها الثقافية أكثر من حصيلتها التجارية والفلاحية، ربما لأن النزوع الثقافي في أصيلة كان موجودا فيها من قبل.

هناك أيضا مرجعية أساسية في نظري، فأصيلة كانت من المواقع التاريخية التي استضافت أولى دفوعات المهاجرين من الأندلس، بحكم أنها كانت في الطريق، لأن الممر بين قرطبة وفاس كان عبر طنجة وأصيلة (طريق طنجيس في الخرائط الرومانية القديمة). كما عاشت أصيلة في ظل حضارات مختلفة: البرتغال، الإسبان، ثم دخول الإسلام إلى المغرب، بحيث يقال إن عقبة بن نافع حين وصل إلى البحر، كان على الشاطئ بين أصيلة وطنجة، والثابت هو أن إدريس الأول دخل عبر أصيلة، فأقام أسس الدولة الإدريسية في المغرب.

كل شيء مطروح للحوار

* لقد كان موسم أصيلة الثقافي الدولي سباقا إلى تنظيم عديد الندوات والملتقيات السابقة لزمنها، والتي انصبت على مناقشة «قضايا ضخمة». ومن بين تلك الندوات التي نظمتموها ندوة تعرضت للعلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والعالم العربي والإسلامي، والتي بدت حينها علاقات محيرة للجميع، كما أبانت عن الهوة الكبيرة التي تفصل العالم العربي عن أمريكا.
فما هي الشروط التاريخية والثقافية التي كانت، ومازالت، تتحكم في اختياركم لمواضيع بعض الندوات والملتقيات المؤثرة، والمثيرة لجوانب من العلاقات المعقدة القائمة بين العرب والعالم، من قبيل الندوة السالفة الذكر، وغيرها من الندوات التي يعود الفضل لموسم أصيلة في التنبيه إلى أهميتها؟

- نبدأ بموضوع أمريكا، لقد تخرجت في بداية الستينيات من الجامعات الأمريكية، فاشتغلت وتزوجت في الولايات المتحدة. لم أنتبه حقيقة، حينئذ، إلى الهوة التي تفضلت بذكرها، القائمة بين العالم العربي والعالم الآخر، أي الولايات المتحدة. فالعرب، عموما، لديهم شعور عدائي نحو أمريكا؛ أولاً، بسبب دعمها لإسرائيل، وثانيًا، بسبب عداء بعض قادتها للعرب والإسلام. من ثم، بدأت ثقافة الرفض لأمريكا كلها، في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات (عند نهاية الحرب الباردة). وفي العام الأول من تعييني سفيرا لجلالة الملك الراحل الحسن الثاني، بالولايات المتحدة، كنا قد لاحظنا، مع زميليّ وصديقيّ العزيزين، أحمد ماهر، سفير مصر بالولايات المتحدة آنذاك، والدكتور الشيخ محمد الصباح، سفير الكويت وقتها في واشنطن، أن هناك هوة كبيرة في الجانب المعرفي للعربي بأمريكا. أنا شخصيًا، توصلت إلى أن المسئولين العرب، عمومًا، لا يعرفون كيف يُمرر القرار في أمريكا. كثيرون منهم كانوا يستثمرون علاقاتهم في توطيد تواصلهم بالرئيس، مع أن أمريكا لايحكمها الرئيس وحده، الرئيس الأمريكي له نفوذ أكيد، لكن الكونجرس له نفوذ أكبر. ثم إنه داخل الحكومة الأمريكية هناك حكومة اسمها البنتاجون، وحكومة الخارجية، وحكومة اللوبي، وحكومة الإعلام، وحكومة المخابرات. فالرئيس في أمريكا، كما نشاهد اليوم، قد تقبل قراراته وقد ترفض. وداخل الكونجرس توجد لوبيات وأزقة ودهاليز وميولات وشعوبيات، إلخ. هذه المعرفة بالآخر، لم تكن متأتية مع الأسف الشديد لكثير من المسئولين العرب.

كما أن فئة قليلة من السفراء العرب، هم من كانوا ينتقلون إلى الولايات الأخرى، خارج واشنطن، ليتعرفوا على السيناتورات (الشيوخ)، وعلى أعضاء مجلس النواب في مقاطعاتهم الانتخابية، وليحتكوا بهم، ويكسبوهم لمؤازرة القرارات التي يتخذها الكونجرس الأمريكي، فيما يتعلق بشئون بلدانهم. هناك أيضا تأثير مراكز الأبحاث والدراسات، وكذلك النخب الأمريكية، والبيوتات، وكبريات الجامعات... من هنا، جاءت فكرة تنظيم «ندوة العرب والأمريكيون: صورة الواحد في منظور الآخر»، شاركت فيها مجموعة من كبار المفكرين والمهتمين بالعلاقات العربية - الأمريكية، الأمريكان والعرب، فتبين أن كثيرا من المواقف والسياسات، التي كانت تتخذها جهة ضد أخرى، كانت غالبا قائمة على سوء التفاهم.

هذا لا ينفي أن لبعض المجموعات في الولايات المتحدة الأمريكية مصالح خاصة في المنطقة، وتوجهات لا تخدم بالضرورة مصالح العرب، بل هي معاكسة تمامًا، وعدائية للقضايا العربية الحيوية. وبمعنى آخر، أنا لا أسقط من حديثي عن التعامل الديبلوماسي مع الولايات المتحدة وجود لوبيات استعمارية، امبريالية، لارحمة فيها ولا شفقة.

إلى جانب ذلك، كانت ثمة رواسب؛ فموسم أصيلة بدأ في قلب الحرب الباردة. كانت ميولات الشباب المتعلم آنذاك يسارية، وكانت لهم مواقف عدائية للغرب، ولهم ما يبرر ذلك أيضا، وهو تغلغل الشعور القومي العربي، من البعثيين والقوميين والناصريين. كان هؤلاء الشباب يغترفون مواقفهم من المعسكر الذي كان يخاصم ويعادي الولايات المتحدة، على أساس أنها دولة رأسمالية، إلخ، فتكون لدينا نوع من الرفض الكامل للآخر. أنا أذكر أنه في عام 1978 -79، كان عدد من المثقفين والفنانين المغاربة يدعون إلى مقاطعة الغرب. كنت أقول إن الطريق الوحيد القائم بين الشمال والجنوب كان طريقا نحو الشمال فقط، ولا يعيدك إلى الجنوب، أو لا يترك مجالا لإنسان الشمال ليمر فوقه إلى الجنوب. كنت أقول، بدل أن نهدم هذا الطريق نبني بجواره طريقا آخر من الشمال إلى الجنوب.

هذا كله، دفع بنا إلى أن نخلق موسم أصيلة الثقافي، وقد ذكرت هذا في مقال كنت قد كتبته في «فندق الجولف» بالبحرين عام 1977، وبه افتتحت الكتاب الذي أنجزناه عن «أول موسم ثقافي» نظم بأصيلة، حيث طلبتُ من المليحي أن يوقع معي ذلك المقال، الذي اعتبرناه بمنزلة «بيان» مشترك، شرحنا فيه هواجسنا، كما تعرضنا فيه لقضايا الاستلاب، ومعرفة الذات والآخر.

هذا ما خلق لدينا أفكارا جديدة، وتناولات لم تكن مألوفة، عن الأيديولوجيات بشكل عام، وعن قضايا الساعة: مشكلة العمران، والبيئة، والقضايا الإسكانية، والعلاقات الإنسانية. طرحنا في أصيلة قضية حوار الثقافات قبل 30 سنة، في الوقت الذي كان فيه الحديث عن حوار الحضارات، وحوار الثقافات منعدما. كما كانت لدينا الجرأة لاستقطاب كبار الشخصيات الفكرية والأدبية والفنية. زارتنا الدكتورة نوال السعداوي في أصيلة، فانبهرت بمستوى تفكير المرأة المغربية، كما زارنا جورجي أمادو، وألبرتو مورافيا، وهيتوري سكولا، وبابلو تابياني، وغيرهم من مثقفي اليسار في العالم آنذاك. وزار موسم أصيلة، أيضا، عمالقة الفكر الإفريقي، من بينهم الشاعر السنغالي الراحل ليوبولد سيدار سنجور، وكيزيرجو، من بوركينافاسو، وهو من كبار المؤرخين الأفارقة، والذي أنجز تاريخ إفريقيا في أربعة مجلدات، رعتها اليونسكو، والشاعر والمسرحي الكونغولي تشيكايا أوتامسي، وإدوار مونيك من جزر الموريس، وغيرهم من المفكرين والشعراء ورجال السياسة والأدب، في مقدمتهم سمو الأمير الحسن بن طلال، رئيس منتدى الفكر العربي، وإميل حبيبي، والطيب صالح، ومحمود أمين العالم، ولطفي الخولي، ورجاء النقاش، وإدوار الخراط، وإلياس خوري، وعبد الله العروي، والطاهر بن جلون، ومحمد الرميحي، وعبد الله الشايجي، ومديرو اليونسكو، والأمين العام للأمم المتحدة الأسبق ديكويلار، وكوفي عنان، فضلاً عن كبار المسئولين في أمريكا اللاتينية والوزراء والسفراء، وغيرهم كثير، ممن لايتسع المقام لذكرهم جميعًا، وأرجو أن يقبلوا مني الاعتذار عن عدم ذكر أسمائهم العزيزة هنا.

* لقد ارتبط اسمكم وقدركم ونشاطكم الثقافي بمدينة «أصيلة»، إلى حد الافتتان والتماهي والعشق والوله والجنون. ماذا لو فكرتم في كتابة محطات من «سيرتكم الذاتية» من خلال «سيرة أصيلة» و«سيرة موسمها الثقافي الدولي».
هل ستبدأون حديثكم باستعادة مرحلة طفولتكم بأصيلة، أم بزمن مغادرتكم للمدينة، في اتجاه جغرافيات مختلفة، أم بفترة عودتكم إلى أصيلة عام 1976، وقد وجدتموها مدينة مهملة ومهمشة، أم بعام 1978، تاريخ تأسيسكم لـ «جمعية المحيط الثقافية»، أم بأزمنة ومحطات أخرى؟

طبعا، سيأتي يوم، لا أدري متى، لكتابة مذكرات عن هذه التجربة، ولو أنني في الواقع، وقد مرت الآن ثلاثة عقود، لا أدري من حيث سأبدأ، ولا أين سأنتهي...

فتجربة أصيلة، ليست تجربة شخص، كما سبق أن قلت، بل هي تجربة مسار، يؤرخ لمرحلة أو لمراحل؛ هي أيضا جزء من التاريخ الثقافي المغربي المعاصر، بل هي جزء من التاريخ العربي والإفريقي، وتاريخ عالم الجنوب عموما. والكتاب والمناضلون كانت لهم قواسم مشتركة في كل مكان من عالم الجنوب، تختلف بعض ملامحها، ولكن لا تختلف في مطالبها، وفي إنجازاتها. هو في الحقيقة تاريخ لتنمية الإنسان، والتنمية هنا بمعناها الشامل، أي تلك القائمة على حق الفرد في الحرية، وفي المساواة، وفي العيش بكرامة واحترام.

* سبق لكم أن قلتم، في كلمتكم الافتتاحية لموسم أصيلة الثقافي الأول، إنكم تتمنون أن تعيشوا لتروا موسم أصيلة في الخامس والعشرين من عمره. هاهو موسم أصيلة يحتفي هذا الصيف بالذكرى الثلاثين لتأسيسه، وقد تحققت الأماني، وكبر الموسم، فهل تفكرون في «استراتيجية ثقافية جديدة»، من شأنها أن تعطي نفسًا جديدًا للموسم، بعد أن اتسعت منتدياته، وذاع صيته عالميا، وأصبح محجًا سنويًا لساسة العالم ومفكريه وفنانيه وأدبائه، كما أضحى برلمانًا دوليًا حرا للحوار والسجال الثقافي والفكري، ومرسمًا كبيرًا، ومعرضًا مفتوحًا؟

- لدي دائما حساسية تجاه كلمة «استراتيجية»، أنا لا أستعملها أبدا، وأعتقد أن هناك استباحة كبيرة لهذه الكلمة. أنا أعتقد أن ما تريد قوله، هو هل هناك رؤية جديدة لتطوير هذه الممارسة، والانتقال بها من مشروع إلى مؤسسة مستمرة، حتى لا أقول دائمة. هذا الهاجس كان يخامرني منذ أكثر من عشر سنوات، وتحدثت عنه في كثير من كلماتي، حتى أنني أذكر أنه في افتتاح مواسم أصيلة، كنت أقول هذا العام سيعرف الموسم قفزة جديدة، في انتقاله من الموسمية إلى العمل خلال السنة كلها. الآن، ونحن نحتفي بالذكرى الثلاثين لتأسيس الموسم، نفكر برغبة وإصرار على مأسسته، حتى لا يبقى قائما على شخص واحد أو اثنين، مهما كان شأنهما، ومهما كانت إسهاماتهما في هذا الموسم من قبل.

إذا كنت تسألني ماذا تريد أصيلة أن تصبح؟ أقول لك هذا ما سيقوم به مجلس الأمناء في المؤسسة الجديدة. وأنا أطمح هذه السنة أن نعلن عن توجه مؤسساتي لمشروع أصيلة، بريع، وببرنامج سنوي يضمن لأصيلة استثمار البنية التحتية، التي تأسست خلال هذه السنوات الثلاثين، من «قصر الثقافة»، إلى «مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية»، إلى «مكتبة الأمير بندر بن سلطان»، إلى مشروع «معهد الشيخ زايد للدراسات الإنسانية»، المزمع إقامته في أصيلة، إلى مشروع «متحف أصيلة»، إلى غير ذلك من البنيات المركزية التي تؤهل المدينة، لتكون مستضيفة للعمل الثقافي الوطني والدولي، على امتداد السنة.

ربما سيطرح علينا إدخال تعديل ما في القانون الأساسي، لأننا نريد أن يكون للمؤسسة مجلس أمناء من المغاربة وغيرهم، ممن يعطفون على أصيلة، ويريدون دعم هذا المشروع، ويتمنون له التطور والازدهار.

هذه هي حقيقة الرؤية التي لدي. أكيد أنني أريد في كل الأحوال أن نبقى على البعد الإبداعي التشكيلي، وأن نبقي على «جامعة المعتمد بن عباد الصيفية»، وكذلك على صباغة الجداريات. أعتقد أن ثلاثين سنة من الإبداع يجب ألا تمحى هكذا. وأتمنى من الجيل الذي سيأتي بعدنا، ممن سيتولون الأمور، حتى ولو كانوا خارج أصيلة، أن يفكروا في مدينتهم، التي هي مدينة المغرب ومدينة العالم، لأن هذا النوع من المشاريع، هو الذي يتم تناوله (بعناية مفعمة بالحب)؛ كما يقول الإنجليز، الحب لا يأتي إلا ممن هو منتم للإنسان وللمكان، وللذاكرة، وللمنظومة القيمية (ابن البلد)، هذا أمر ليس فيه خلاف، وليست فيه شوفينية.

لا يمكن لمكان أن ينهض بشخص، أو بأشخاص يعيشون خارجه، لا بد أن تكون واحدا من الناس، هؤلاء يكونون جزءًا منك، ويقدرون أو يرفضون ما تقوم به، ولكنهم معك. يجب أن تحس بأحاسيسهم ومتطلباتهم، يجب أن تساعدهم.. كل هذه الأشياء تدخل في مشروع أصيلة الثقافي.

* تحتفل مجلة العربي الكويتية بالذكرى الخمسين لتأسيسها، وتحتفل مؤسسة منتدى أصيلة، هذا العام أيضًا، بالذكرى الثلاثين لتأسيس موسم أصيلة الثقافي الدولي. وقد كان لأصيلة حظ لافت مع هذه المجلة الثقافية العربية الرائدة، التي تستضيفكم اليوم على صفحاتها، كما استضافت أصيلة في بعض مقالاتها واستطلاعاتها المصورة. فماذا يعني لكم ذلك؟

- سبق لي أن كتبت عن مجلة العربي، وقلت حينها إن هذه المجلة كانت السفير الورقي الأول الذي دخل إلى كل بيت عربي، وحمل رسائل المعرفة إلى كل عربي، وكان لي شرف التعرف على رؤساء تحريرها: أحمد بهاء الدين رحمه الله، والدكتور محمد الرميحي، والدكتور سليمان إبراهيم العسكري؛ هؤلاء تبصروا الرسالة، وساهموا، من خلال مجلة العربي، في تقريب هذه المعرفة، فيما بين النخب العربية، وفيما بين القراء العرب.

كنت، ومازلت أتطلع إلى اليوم الذي ستصدر فيه مجلة العربي بلغات أخرى، لأننا إذا كنا نريد أن نتخاطب مع العالم الآخر، فنحن مجبرون على أن نتخاطب معهم بلغاتهم، فهم هناك لا يقرؤون للكتاب العرب المعاصرين، وبالتالي لا يدركون التطور الذي يعرفه الفكر والإبداع العربي المعاصر، ولا يطلعون على الكتابات والأبحاث التراثية التي كتبها العرب، ومن ثم تتجمع لديهم كثير من الأحكام الخاطئة، تغذيها دعايات مغرضة من لدن خصوم العرب، شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوبًا.

كان أحد الكتاب العرب يقول إن أصيلة نجحت في ترسيخ جسور التواصل والتفاهم من المحيط إلى الخليج، فيما فشل السياسيون في ذلك، وأعتقد أن مجلة العربي كان لها دور رائد أيضا في تقريب هذه الفجوة، وفي خلق جو من التآلف والتعاطف فيما بين المثقفين والقراء العرب.

وبهذه المناسبة، لا بد أن أحيي كل الأشقاء في كل الدول العربية، وخاصة في دول الخليج العربي، على دعمهم ومساندتهم لمشروع أصيلة الثقافي التنموي، حيث ساهمت كل دول الخليج في دعم البنية التحتية للمدينة، وخاصة دولة الكويت الشقيقة، والإمارات العربية المتحدة، وقطر، حيث دعموا المؤسسات الثقافية والاجتماعية والصحية والتربوية، وبناء مساكن اقتصادية. من جانب آخر، أشكر كذلك المملكة العربية السعودية، على توليها البنية التربوية والثقافية في أصيلة، وخاصة «مكتبة الأمير بندر بن سلطان»، وكذلك دولة البحرين الشقيقة على مساعدتها الموصولة التي يقدمها عاهلها لمواسم أصيلة، وسلطنة عمان التي يرجع إليها الفضل في بناء «مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية». وكل ذلك يؤهل أصيلة لتبقى محطة عربية، إفريقية، متوسطية، لتلاقي العرب مع بعضهم البعض، ومع الآخرين من القارات الأخرى. من هنا، فنحن نفتخر بمختلف أوجه الدعم الذي نتلقاه من إخواننا في دول الخليج العربي.

المحرر مجلة العربي اغسطس 2008

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016