من نافلة القول أن الأسرة من أهم عوامل التربية، فالخبرة الأسرية هي أول وأهم الخبرات التي يمر بها الإنسان في حياته، وربما يكون الدور الحاسم للأسرة في تشكيل سلوك الإنسان وفي بناء شخصيته من القضايا القليلة التي لا يختلف بشأنها الاختصاصيون في الأوساط الاجتماعية والنفسية والتربوية. والأسرة لا تشكل سلوك الفرد في مرحلة الطفولة المبكرة فحسب وإنما في مراحل النمو كلها.
إذا كانت الخبرة الأسرية ترسم ملامح نمو الإنسان وقدراته وتكيفه في مرحلة الطفولة فهي تحدد مدى استقلاليته ومفهومه لذاته في مرحلة المراهقة، وتحدد مستوى شعوره بالطمأنينة ومدى تحقيقه لذاته ووضوح أهدافه في مرحلة الرشد. وكما تقول د. سناء الخولي في كتابها "الأسرة والحياة العائلية" فالأسرة هي نظام اجتماعي رئيسي يشكل أساس وجود المجتمع ومصدر الأخلاق فيه. ويؤكد جليك وكسلر ذلك فيشير إلى أن مؤسسة الأسرة هي الوحدة الأساس في كل المجتمعات البشرية بصرف النظر عن الفروق الثقافية. فالأسرة لا تعمل على تلبية الحاجات الأولية للفرد من طعام ومأوى وملبس فحسب ولكنها تلبي حاجاته الإنسانية الأخرى كالحاجة إلى الحب والانتماء وتنقل من جيل إلى جيل التقاليد والقيم الثقافية والروحية والأخلاقية.
وليس من شك في أن الأسرة احتلت مكانة مهمةٌ لم تحتلها أية مؤسسة اجتماعية أخرى في الحقب الزمنية المختلفة من تاريخ التطور الإنساني فيما يتعلق بالتنشئة، فقد كانت الأسرة في المجتمعات الإنسانية القديمة المؤسسة الاجتماعية الوحيدة التي تعلم الأطفال وتعدهم للمستقبل. ولما كانت الحياة في تلك المجتمعات بسيطة نسبيا فإن التنشئة لم تكن معقدةٌ بل كانت أقرب ما تكون من عملية التربية غير المقصودة وكانت تتضمن استخدام الإيضاح والتعلم بالمحاكاة والممارسة.
الأسرة في مفترق الطرق
مع تطور الحياة البشرية تغيرت الأدوار التربوية للأسرة حيث إن المجتمعات الحديثة سلبت الأسرة وظائفها تدريجيا. وقد عبر الدكتور على وافي في كتابه "عوامل التربية" خير تعبير عن هذه الحقيقة إذ كتب يقول أن وظائف الأسرة تطورت : "من الأوسع إلى الواسع ثم إلى الضيق فالأضيق، فوظائف الأسرة في الإنسانية في أقدم عهودها كانت واسعة كل السعة شاملة لمعظم شئون الحياة الاجتماعية، ولكن المجتمع العام أخذ ينتقص هذه الوظائف من أطرافها شيئًا فشيئًا، وينتزعها من الأسرة واحدة بعد أخرى، ويعهد بكل منها إلى أجهزة خاصة تسير تحت إشرافه، حتى كاد يجردها منها جميعًا".
وفي الوقت الراهن، فثمة من يعتقد بأن الأسرة في المجتمعات الغربية في حالة انحدار وذلك بفعل التناقضات الناجمة عن التوجهات الثقافية والقيمية المتغيرة سريعًا والمتباينة كثيرًا. وقد حاولت" بين" تقديم الأدلة الإحصائية التي تشير إلى تزايد نسب الطلاق وتناقص معدلات الإنجاب وتزايد أعداد الأمهات اللواتي يتركن المنازل للعمل، وتلاشي الأسرة الممتدة. ويضم "نوردهايمر" صوته إلى صوت "بين" فينذر بأن هذا العصر هو عصر الأسرة الهشة وأن الحياة الأسرية أصبحت على مفترق طريقٌ خطيرٌ، ويقدم من جانبه أدلة إضافية من أهمها:
(أ) إن اثنين من بين كل خمسة أطفال ينجبون في الولايات المتحدة الأمريكية حاليا سيعيشون في منزل ليس فيه إلا أحد الوالدين لجزء غير قصير من حياة شبابهم.
(ب) إن عدد الأسر التي تقوم على رعايتها أمهات فقط قد ازداد بشكل ملحوظ في العقدين الماضيين.
(ج) إن دور الحضانة ورياض الأطفال ذات النوعية الضعيفة أصبحت تنوب عن الآباء والأمهات في تنشئة عدد كبير من الأطفال الذين ينتمون إلى أسر عاملة، فثمة تزايد ملحوظ في عدد الأطفال الذين يقضون جزءًا من يومهم دون إشراف من آبائهم وأمهاتهم خاصة في الأوقات ما بين انتهاء الدوام المدرسي وعودة الوالدين للمنزل بعد انتهاء العمل
وبالرغم من هذا فإن "بين" تؤكد أن الأدلة الإحصائية لا تعني بالضرورة أن الحياة الأسرية لم تعد جزءًا مهما من حياة المجتمعات الغربية ولكن ما تعنيه هو أن أدوار أفراد الأسرة قد تغيرت، فالدور سلوك متعلم تعلمه الأسرة لأفرادها في ضوء هويتها الثقافية. ويفسر البعض هذا التغير بالإشارة إلى أن الأسرة أصبحت تعني نظامًا متكاملًا يشمل أدوارًا تبادلية، وبذلك فان مستوي نجاح أو إخفاق النظام الأسري في تأدية وظائفه يتحدد تبعًا لمدى إدراك الدور والتفاعلات ما بين أدوار جميع أفراد الأسرة. ومهما يكن الأمر، فالأسرة لا تزال من أهم عوامل التربية. وكما يقول وافي (1958) فإن كفة المنزل بين عوامل التربية ترجح كفة العوامل الأخرى مجتمعة منضما بعضها إلى بعض، فآثار هذه العوامل جميعًا تتوقف على المنزل إذ بصلاحه تصلح آثارها وبفساده وانحرافه تنحرف كلها عن جادة القصد ويجانبها التوفيق.
ولكي يتسنى لنا فهم الأدوار التي تقوم بها الأسرة ينبغي التذكر بأن الأسرة نظام ديناميكي، فالعلاقة ما بين الفرد وأسرته علاقة تبادلية، فهو يتأثر بها ويؤثر فيها، ولا أحد من أفراد الأسرة يعمل بمعزل عن أفراد الأسرة الآخرين. فالإطار المفهومي لنظام الأسرة يشتمل على أربعة مكونات رئيسية هي:
(1) المصادر الأسرية وتمثل الوسائل المتاحة للأسرة لإشباع الحاجات الفردية والجماعية لأعضائها.
(2) التفاعل الأسري ويشير إلى العلاقات بين أفراد الأسرة والمجتمعات المتفرعة عنها.
(3) الوظائف الأسرية وتمثل جملة الحاجات المختلفة التي تتحمل الأسرة مسئولية تلبيتها.
(4) مجرى حياة الأسرة ويمثل سلسة التغيرات التي تطرأ على الأسرة في المراحل والأوقات المختلفة.
فالأسرة نظام اجتماعي يشترك كل فرد فيه في نظم فرعية متعددة، ويتضح أيضًا أن المصادر الأسرية تشكل القاعدة التي تنبثق عنها التفاعلات داخل الأسرة وتفاعلاتها مع الأفراد الآخرين في المجتمع. وتتمثل المصادر الأسرية بخصائص الأسرة (عدد أفرادها، خلفيتها الثقافية، وضعها الاجتماعي - الاقتصادي) وخصائص أفرادها (وضعهم الصحي، قدراتهم العقلية، الخ..). ويمثل مجرى حياة الأسرة سلسلة التغيرات التي تؤثر عليها في المراحل المختلفة (المواليد الجدد، توقف أحد الوالدين عن العمل، المرض، الخ).
أما التفاعلات الأسرية فهي تعني أشكال العلاقات القائمة بين أفراد الأسرة. وأخيرًا، فإن الوظائف الأسرية تشكل مجموعة حاجات الأفراد التي على الأسرة إشباعها.
الترابط الأسري هو مرآة تعكس الطرق التي تتفاعل فيها النظم الأسرية الفرعية مع بعضها البعض. وعلى وجه التحديد، يعرف الترابط الأسري على أنه الرباط العاطفي الذي يشد أفراد الأسرة نحو بعضهم البعض من جهة واستقلالية الفرد في النظام الأسري من جهة أخرى. وعليه فمن الممكن تصور الترابط بأنه مدرج متصل أحد طرفيه التداخل وطرفه الآخر الانفصال. في حالة التداخل الكبير تكون حدود كل نظام في الحياة الأسرية غير واضحة أو ضعيفة. والتفاعلات الأسرية التي يسودها التداخل الكبير غالبًا ما تتسم بالتدخل المبالغ فيه والحماية المفرطة، وهذا الجو الأسري لا يسمح إلا بقليل من الخصوصية وكل القرارات والأنشطة ليست موجهةٌ نحو الأفراد ولكنها تتمركز حول الأسرة كلها. أما الحياة الأسرية التي تتصف بانفصال أفرادها عن بعضهم البعض فهي تتسم بحدود صارمة تفصل النظم الفرعية المكونة للنظام الأسري عن بعضها البعض، ومثل هذه الحياة الأسرية قد تترك تأثيرات سلبيةً على أفرادها مثلها في ذلك مثل الحياة الأسرية المتصفة بالتداخل الكبير.
والتوازن بين طرفي الترابط (الانفصال والتداخل) هو من خصائص الأسر التي تقوم بوظائفها بشكل جيد. فالحدود بين النظم واضحة وأفراد الأسرة يشعرون بالارتباط العاطفي القوي من جهة وبالاستقلالية والخصوصية من جهة أخرى.
الإفراط والتفريط
ومن المعروف أن تبني الآباء لمواقف متطرفة في تعاملهم مع الأبناء كالإفراط في الحماية من جهة والرفض والإهمال من جهة ثانية غالبًا ما يقود إلى عدم النضج وافتقار الشخصية إلى التكامل. فحماية الطفل بشكل مفرط بصرف النظر عن مبرراتها إنما هي في الواقع حرمان له من فرص ضرورية للنمو والتكيف والقدرة على مواجهة تحديات الحياة اليومية مثلها في ذلك مثل الحرمان والرفض والإهمال. فإذا كان من المسلمات أن الأطفال بحاجة إلى الحب والحنان والرعاية فذلك قطعا لا يعني فرض قيود غير واقعية على سلوكهم ومحاولاتهم للاستكشاف والنمو.
إن للخلافات بين الوالدين تأثيرات كبيرةً على نمو الأبناء، ففي إحدى الدراسات، وجد "جتمان وكاتز" أن الأطفال الذي يعيشون مع والدين يتشاجران وعلاقتهما الزوجية غير مرضية يشعرون بالتوتر ويكونون أقل قدرةً على التعامل مع مشاعرهم ويلعبون بنشاط مع أقرانهم. وتعتقد "بروكس" أن مثل هذه التأثيرات الواسعة تحدث لأن الوالدين يصبحان أقل فاعليةً عندما تكون علاقتهما الزوجية غير سعيدة.
كذلك فإن الجو الأسري السلبي يقود إلى مشكلات سلوكية لدى الأبناء، فالأبناء يصبحون أكثر تهورًا وعصيانًا ويشعرون بمستويات عالية من الضيق النفسي. ويتبين أيضًا أن الخلافات الزوجية في مرحلة ما قبل المدرسة تترك تأثيرات طويلة المدى تستمر إلى مرحلة المراهقة حيث يكون الأبناء أقل قدرةً من غيرهم على بناء علاقات اجتماعية إيجابية مع الآخرين وأقل قدرةً على ممارسة الضبط الذاتي.
ومن أوجه عدم الترابط الأسري الصراعات والمشاجرات بين الزوجين وبين أعضاء الأسرة الراشدين. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الصراعات عملية طبيعية في الحياة الأسرية مادامت في حدود معينة ويشير "محمود حسن" إلى أن الصراع قد يكون بناءً إذا دار حول الموضوعات والمشكلات وكان الهدف منه مواجهة المشكلات وإيجاد الحلول لها وهو قد يكون هدامًا ومدمرًا إذا كان موجها نحو تجريح ذات الطرف الآخر وانتهى بالتوترات. وعلى أي حال، فالصراعات المستمرة والمتصاعدة خاصة الصراعات التي تحدث على مرأى ومسمع جميع أعضاء الأسرة قد يكون لها انعكاسات سلبية على الأبناء، فهذه الصراعات لا تبدد الجهود الموجهة نحو رعاية الأبناء فقط ولكنها قد تدفع بالأبناء إلى التشاجر مع الآخرين وهي قد تفقدهم احترامهم لأبنائهم وتحد ارتباطهم بهم.
من ناحية أخرى، فإن الصراعات الثقافية بين الزوجين قد تنعكس سلبيا على نمو الأطفال خاصة إذا كانت هذه الصراعات ذات طابع غير بسيط. وهذه الصراعات قد تحدث بفعل الاختلافات الدينية، والزواج بين الأجناس المختلفة، والزواج بين الطبقات الاجتماعية المتباينة، كذلك فمن المشكلات الأسرية ما ينتج عن ضغوط خارجية تتعرض لها الأسرة وهذه الضغوط قد تتمثل في المسكن، والعوامل الاقتصادية، والمركز الاجتماعي للأسرة، وتغيير محل الإقامة، ومدى توافر الوقت والطاقة لرعاية الأبناء.
وهناك أدلةٌ علميةٌ وافرةٌ على أن الخلافات الزوجية غالبًا ما تقود إلى استخدام الوالدين للعقاب البدني، وعدم استخدام الأساليب العقلانية، ونواتج سلبية على الأطفال. وتشير نتائج الدراسات العلمية أيضًا إلى أن اتفاق الأب والأم على أساليب تنشئة الأبناء ينبثق عنه بيت أكثر تجانسًا وأبناء أكثر كفاية من النواحي العقلية والاجتماعية.
ومن الواضح أيضًا أن عدم الاستقرار الاقتصادي والصعوبات الحياتية الأخرى تترك تأثيرات مهمةً على نوعية العلاقات بين الآباء والأبناء. فقد وجد "مكلويد" أن الأسرة الأقل حظا من الناحية الاقتصادية أكثر استخدامًا لأساليب الضبط المنفرة وأقل دعمًا لأفرادها من الأسر الأوفر حظا، ونتيجة ذلك قد يجنح الأبناء وتتكون لديهم مشاعر الاكتئاب والعزلة.
فجنوح الأحداث كان دائمًا يفسر من منظور قصور الرعاية الوالدية، فالباحثون يعتقدون أن الأطفال يتعلمون السلوك غير الاجتماعي في البيت كنتاج مباشر لممارسات التنشئة الوالدية. فالأطفال الذين ينتمون إلى أسر تستخدم أساليب ضبط عنيفة ومنفرة يتعلمون استخدام السلوك العدواني والتخريبي لتحقيق أهدافهم. من ناحية أخرى، فقد وجد "هس وكامارا" أن هناك علاقةً بين توافق الوالدين ومستوى الضغوط النفسية التي يواجهها الأطفال، فالمستوى العالي من التوافق بين الوالدين يقابله مستوى منخفض من الضغوط. ووجد هذان الباحثان أيضًا أن ثمة علاقة قوية بين طبيعة العلاقة بين الآباء والأبناء ومستوى عدوانية الأبناء وعلاقاتهم الاجتماعية وفاعليتهم في عالم العمل.
ووجد "جويدوبالدي" ورفاقه أن النزاعات بين الوالدين ترتبط بانخفاض مستوى التكيف خاصة لدى الذكور، وأن تلك العلاقة الارتباطية تصبح أقوى مع تقدم عمر الأبناء. وعلل هؤلاء الباحثون هذه الظاهرة بالقول أن النزاع بين الوالدين يدخل الأبناء في صراع إقبال وإحجام ثنائي يصبح فيه الاقتراب من أحد الوالدين مولدًا لخطر المواجهة بالرفض من الآخر. ومن جهتهما، أكد بيترسون وزيل أن الطفل الذي يحرم من إمكان الاختيار بين والديه هو طفل معرض للاضطراب.
والروابط الأسرية إنما هي نتاج تفاعلات معقدة بين جملة من العوامل البيولوجية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية. ويتحدد ترابط الأسرة واستقرار حياتها في ضوء العديد من العوامل الخارجية والداخلية. فالبيئة الاجتماعية لها تأثير كبير على الأسرة، فإذا كانت الأسرة هي اللبنة الأولى في المجتمع، وأساس وجوده، فالمجتمع هو الذي يشكل وينظم نمط الأسرة ووظائفها، أما العوامل الداخلية والتي تشمل طرق استجابة أفراد الأسرة لبعضهم البعض ومدى إشباعهم لحاجاتهم بشكل تبادلي ومستوى الانسجام والتجانس فيما بينهم، فإنها لا تقل أهميةً عن العوامل الخارجية على صعيد تحقيق الترابط والانتماء.
والحياة الأسرية بما تتضمنه من تفاعلات مستمرة بين عدة أطراف ومستويات متفاوتة من الاعتماد المتبادل قد تنطوي على صعوبات مختلفة مثلما تنطوي على الشعور بالأمن والانتماء. والنتائج المحتملة لتلك التفاعلات كوحدة وظيفية متكاملة أصبحت أكثر وضوحًا من ذي قبل بفضل الزخم الهائل من البحوث والدراسات العلمية التي أجريت في هذا الصدد. وقد يمكن تلخيص ما تمخضت عنها الدراسات من نتائج بالقول إنه عندما تكون للمعتقدات والتوقعات الخاصة بالعلاقات والروابط الأسرية صفة الاستقرار النسبي، تستطيع الأسرة أن تمارس وظائفها، وتحرر البيئة الأسرية من التوترات.
أما إذا حدث تباين وتنافرٌ بين توقعات أفراد الأسرة فقد تكون التأثيرات على وحدة الأسرة كبيرة وعلى علاقاتها بالتالي مع المجتمع الخارجي. ويأخذ عدم الترابط الأسري عدة أشكال منها الانفصال أو الهجر. والطلاق أكثر هذه الأشكال خطورة، فكما تشير الدكتورة سناء الخولي فإن الطلاق غالبًا ما يعامل بوصفه كارثةً أو مأساة تحل بالنظام الأسري.
فإذا كان الطلاق حلا للمشكلات من وجهة نظر الزوجين فهو سبب كل المشكلات من وجهة نظر الأبناء. والحقيقة أن الطلاق حدث مولدٌ للضغوط النفسية لدى كل من الآباء والأبناء. وهو كذلك عملية إعادة تنظيم للحياة الأسرية، وبالتالي فهو يقود إلى ضغوط إضافية متنوعة قد تشمل الضغوط المالية والتعايش مع جيران جدد والالتحاق بمدارس جديدة وغير ذلك. وبالنسبة للضغوط النفسية الناجمة عن العلاقة على مستوى الأبناء، فهي تشمل الحزن والخوف والقلق والاكتئاب والإحساس لدى البعض بأنهم قد يكونون سبب الطلاق.
بالإضافة إلى ذلك، فقد بينت نتائج العديد من الدراسات أن الطلاق يرتبط بمشكلات أكاديمية وسلوكية وجسمية لدى الأبناء.
وتبين الدراسات قوة شعور الأبناء بحاجتهم إلى آبائهم. وفي هذا الصدد يشير البعض إلى أن أكثر العوامل الخارجية أهمية في تشجيع أو تثبيط المراهق في إنجاز المهام النمائية لمرحلة المراهقة هما الوالدان. فالسؤال الحقيقي المطروح ليس إذا كانت النماذج الوالدية مهمة أم لا في هذه المرحلة بل هل النماذج الوالدية فعالة ومناسبة لإعداد المراهق لعالم الغد؟.
وفي دراسة مثيرة للاهتمام، طلب "ياماموتو" ورفاقه من مجموعات من الأطفال تتراوح أعمارهم بين التاسعة والحادية عشرةً من الولايات المتحدة الأمريكية، ومصر، وكندا، والفلبين، واليابان، وأستراليا تقدير ردود أفعالهم لعشرين حدثًا حياتيا. تبين من هذه الدراسة أن الحدث الأكثر صعوبةً من وجهة نظر الأطفال هو فقدان أحد الوالدين. كذلك اتفق الأطفال من الخلفيات الثقافية جميعها أن تشاجر الوالدين يشكل حدثًا مزعجًا جدا بالنسبة لهم.
على أن نتائج البحوث العلمية المتصلة بالعلاقات الأسرية تشير إلى أن تأثير الوالدين على أطفالهما ليس بالقضية البسيطة والمباشرة حيث إن الأطفال المضطربين مثلًا يؤثرون على آبائهم بقدر ما يؤثر آباؤهم عليهم.
وثمة أدلة متزايدة على أن التأثيرات الأسرية تبادلية بطبيعتها وعليه فقد لا يكون صحيحًا تمامًا أن تعزى مشكلات الأبناء بشكل أساسي لآبائهم.
أفعال وردود أفعال
الأسرة نظام اجتماعي ذو خصائص مميزة وحاجات فريدة تربط أفراده علاقات قوية ومؤثرةً بحيث إن أي خبرة تؤثر في أحدهم يصل أثرها إلى الآخرين جميعًا. ومثل هذا القول يستند إلى افتراض مفاده أن الحياة الأسرية الناجحة تعني تفهم حاجات كل الأعضاء وتلبيتها، فكل أسرة تتكون من أفراد لكل منهم خصائص شخصية معنية ومواطن قوة ومواطن ضعف محددة، وعليه فإن خصائص الأسرة تحدد طبيعة استجاباتها وردود أفعالها لمشكلات الفرد تمامًا كما تحدد خصائص الفرد طبيعة استجاباته وردود أفعاله لمشكلات الأسرة.
والمقصود بالخصائص الأسرية حجمها (عدد أفرادها) ونمطها وخلفيتها الثقافية ووضعها الاقتصادي - الاجتماعي ومكانها الجغرافي. أما خصائص الأفراد فهي تتمثل بالعمر، والصحة النفسية والسمات الشخصية، وغير ذلك.
والحياة الأسرية الناجحة تتطلب التكيف مع التغيرات الداخلية والخارجية، والتكيف ليس من خصائص الأسر المتصلبة (الأسر التي تعمل وفقًا لنظم وقواعد صارمة جدا) أو الأسر الفوضوية (الأسر التي لا تعمل وفقًا لقواعد ونظم محددة ). وغالبًا ما ينطوي التطرف في القواعد التي تحكم العلاقات بين أفراد الأسرة على صعوبات مختلفة ذلك أن النظام الأسري إنما هو أولا وقبل أي شيء نظام تفاعلي.