ربما كانت مصر من أكثر بلاد العالم التي شهدت حكم الملكات على مدى تاريخها الطويل ومنهن من تركن أثرا كبيرا لم يمحه التقادم، ومع ذلك فإن هناك من يحاول أن يمحو هذا التاريخ ويعيد المرأة إلى سجن البيت.
اجتماع خطير دعت إليه الملكة تي أم الملك اخناتون، كانت تجلس إلى جوارها الملكة نفرتيتي زوجته وحبيبته وشريكته في حكم مصر. قررت الملكة الأم أن تستدعي من التاريخ كل ملكات مصر اللاتي جلسن على عرشها وحكمن شعبها وحققن لها الرخاء والنمو والاستقرار، الأسس الثلاثة التي دعمت بناء حضارة مصر القديمة وخلدت اسم مصر على مر العصور.
كانت أولى الحاضرات الملكة حتشبسوت التي حكمت مصر لمدة عشرين عاما، وسُطر تاريخها بأحرف من نور بهرت عيون المؤرخين من الغرب والشرق فأطلقوا عليها داعية السلام والحضارة.
كانت حتشبسوت تسير وسط حشد من أعوانها الرجال الذين دانوا لها بالولاء والعرفان بعد أن نجحت بحكمتها وفراستها في وقف غزوات الاجانب على مصر، وشيدت أول اسطول تجارى فى التاريخ ليجوب البحار ويعرض نتاج الحضارة المصرية على العالم القديم.
وما إن جلست حتشبسوت فوق العرش الكبير الذي أعد خصيصا لها، ليناسب مكانتها في التاريخ، حتى حدثت جلبة. استدار الجميع إلى مدخل البهو الكبير ليشاهدوا ملكة أخرى ذات جمال أخاذ وقامة عملاقة، تدخل وسط حاشية ضخمة من الرجال. كان بين الرجال ابنها أحمس الذي ربته على الوطنية وحب الفداء ولقنته دروسا خالدة في حب مصر ووقفت الى جانبه حتى كون جيشا عظيما وطرد الهكسوس من مصر..
لقد اختفى هؤلاء الهكسوس من التاريخ تماما ولم يعد أي ذكر بعد أن طاردهم أحمس وجيشه حتى طهرت منهم أرض مصر.
وشاهد الجمع ملكة أخرى شابة رائعة الجمال تسير إلى جانب أحمس، وقد رفعت هامتها في كبرياء.. لقد كانت زوجته الجميلة نفرتيتي التي لبت الدعوة التاريخية، وامتطت فرس الزمن الذى عبر بها زوجها وأعوانها السنوات والقرون. جاءوا جميعا على عجل والدهشة تكسو وجوههم والفضول يطل من عيونهم وراحوا يتأملون بعضهم بعضا في استغراب كيف يمكن لهذا الجمع الحاشد من الملكات المصريات اللاتي حكمن مصر في عصور مختلفة وأزمنة متعاقبة أن يجتمعن معا في مكان وزمان واحد.. !
وكانت الملكات جميعا، وعددهن يفوق الحصر يتجاذبن النظرات والاحاديث وكل واحدة منهن تحاول أن تخمن السبب المهم الذي استدعيت بسببه من أعماق التاريخ إلى أواخر القرن العشرين من أجل ان تشهد شهادتها
كلهن كن يرتدين أبهى الحلل.. أزياء من كل نوع.. كل زى يناسب العصر الذي فيه الملكة ويناسب شخصيتها ويكاد ينطق بعظمتها والأسباب التي خلدها التاريخ من أجلها..
ملكات مصريات من كل الأعمار تميزن بالحكمة التي سقتها التجربة ورعاها الحب والاحترام اللذان كانت تتمتع بهما المرأة المصرية فى تلك العهود السحيقة. لم يكن المصريون يفرقون بين البنت والولد، وكانت البنت ترث عرش أبيها وتتولى الحكم دون أن يخطر ببال أحد أن يعترض أو يسوق الحجج الواهية او يختلق الاكاذيب ليدلل على ان شقيقها أفضل منها لمجر أنه ذكر..
وإذ هم جميعا غارقون في لجة من الحيرة يضربون الأسداس في الأخماس، قرعت الطبول وانتبهت الآذان للحن رائع، تجاوبت القلوب مع دقاته.. والتفتت العيون لتشهد ركبا من الفتيات الجميلات اللاتي رحن يدفعن الحضور ليشققن طريقا لمليكتهن كليوباترا..
زادت الهمهمة وعلا الهمس وتساءل البعض هل هذه هي الملكة التي حيرت يوليوس. قيصر وانطونيو وهددت روما بالغزو وطيرت النوم من عيون قادة الجيش الروماني؟! نعم هي.. لا بل هي كليوباترا أخرى ممن يزدحم بهن تاريخ مصر، وقد حكمن لعهود متتالية.. لا بل هى كليوباترا.. وذاك ابنها الذي أنجبته من القيصر الروماني يسير وراءها مختالا بسيرة أمه واسمها الذي يتردد في كل زمان ومكان..
الأمر خطير إذن.. كل هذا الحشد من الملكات المصريات استدعهن الملكة تي أم اخناتون.. لم يبق إلا الملكة إيزيس التي رفعها المصريون القدامى الى مرتبة الآلهة وقدسوها وراحوا يحكون حكايتها مع إلههم أوزوريس الذي أعيد الى الحياة، بعد أن جمعت أشلاؤه من كل بقاع مصر. لولا حكمة إيزيس وفاؤها ومثابرتها لما عاد الملك الذي كان المصريون يدينون له بالولاء والعرفان، لأنه كان أول من وضع اللبنة الأولى لحضارتهم التيازدهرت بعد ذلك وأصبحت أعظم حضارة في التارخ..
سدود وعراقيل
تصفيق حاد، صمت الجميع بعده.. لقد تربوا على أخلاقيات القصور، يعرفون متى يتكلمون ومتى ينصتون باهتمام. وارتفعت منصة تحمل الملكة " تي" التي كانت - برغم شيخوختها- مازالت تتمتع بصوت قوي أسكتهم على الفور.
قالت الملكة تي : "مليكاتي العزيزات.. جمعتكن اليوم لنتدارس ونتباحث في أمر عجيب.. تصورن ! بعد أن حكمنا نحن وقدنا الجيوش وحققنا الانتصارات وشيدنا الاساطيل.. اليوم - وبعد مرور أكثر من خمسة عشر قرنا من الزمان - نسمع من يقول إن المرأة ليست مؤهلة للمشاركة في الحكم.. !
صاحت الملكات في استنكار.. لكنهن عدن الى الصمت ثانية.. كن في شوق لسماع المزيد.
استطردت الملكة تي: نحن اليوم في السنوات الأخيرة من القرن العشرين.. لم يبق على بزوغ فجر القرن الواحد والعشرين سوى خمس سنوات فقط، وقد استطاعت نساء كثيرات ان يصلن الى قمة الهرم السياسي في بلادهن.. نساء في الغرب والشرق، في بلاد مسيحية وأخرى مسلمة وثالثة بوذية.. وقد أثبتت تلك النساء جدارة واضحة، ووصل أغلبهن الى مكانتهن السامقة عن طريق انتخابات حرة نزيهة، لا شبهة فيها.
ومع ذلك هناك سدود وعراقيل توضع في طريق حفيداتنا المصريات..!! ارتفع صوت أنثوي من القاعة : أعطوني الأذن، وسأشيد جيشا أطرد به أولئك الذين يخاصمون المرأة ويتسببون فى غيابها عن ساحة الحكم.
التفتت الأعناق الى مصدر الصوت، كانت الملكة امح حتب التي طردت الهكسوس بواسطة ابنها أحمس.
قالت زوجة ابنها الملكة نفرتيتي: دعي لي هذه المهمة يا أماه.. لقد حكمت إلى جانب أحمس لمدة اثنين وعشرين عاما، تمرست خلالها على اسلوب الحرب وتدربت على فنونها..
لكن صوتا قويا اتى من أطراف القاعة، صوت الملكة حتشبسوت التي قالت: مثل هذه الأمور لا تتم بالقتال والمعارك الدموية.. انها تحتاج الى كياسة ولباقة وحكمة ملكة حكمت طويلا وأثبتت أنها جديرة بشرف القيادة مثلي.
ولكن الملكة تي عادت لتتحدث، واحتراما لأقدميتها ومكانتها في التاريخ، ولأنها صاحبة الدعوة سكتت الملكات ليسمعنها. قالت: نحن لا نريد أن نعيد عجلة التاريخ إلى الوراء.