ملحمة الطقوس وإعادة تفسير الوجود
لماذا لم يقدر لنا العرب أن نضيف إلى مكتبنا نصا يعكس ولو بقدر محدود من الدقة والتماسك الملحمة الهندية الشهيرة " المهابهارتا ".. وحتى في زمن توهج الحضارة العربية وانفتاحها عبر الثقافات على الحضارات الأخرى لم نستطع أن نحقق هذا الاقتراب المعرفي.
ربما كان غياب مؤثرات المهابهارتا عن كتب التراث العربية الإسلامية مرده إلى السبب نفسه الذي غابت من جرائه الملاحم والتراجيديات اليونانية عن هذا التراث ، فأتت بين يدي مجتمع تتمثل وظيفته الحضارية - بالمعنى الكفاحي الذي حدثنا عنه هيجل - في حمل مشعل رسالة التوحيد إلى آفاق الأرض ، ومن هنا فإن من المنطقي ألا ينقل إلى لغته نصوصا تعج بمجمعات الآلهة وصراعاتها وتدخلاتها في حياة البشر وتوجيهها للكون وللطبيعة وللفكر الإنساني.
مع ذلك فإن أحدا لا يستطيع أن يغلق باب الاحتمالات ، ويظل أفضل ما لدينا هو القول بأننا لا نعرف - حتى الآن - ما إذا كانت المهابهارتا قد شقت طريقها إلى لغة القرآن الكريم ، في صدر انطلاق الحضارة العربية.
وهذا التحفظ والإصرار على فتح باب الاحتمالات ، وإن بعدت ، مرده قدرة النصوص المراوغة على النقاد ، عبر جسور التثاقف ، التي تبدو في كثير من الأحيان أكثر من مذهلة في امتدادها ، فالذين فتنوا بمتابعة كتب سحري " فن الهوى " من المؤكد أنه حيرهم قيام العديد من مؤلفي هذه الكتب بالتشديد على إحالة ملتبسة ، تتمثل في كلمتي " ويقول الهندي ". وقد ظلت هذه الإحالة المرجعية لغزا غامضا بالنسبة لي ، إلى أن شاهدت بعيني رأسي على مرمى حجر من سفوح الهيمالايا مخطوطا عربيا بالغ القدم يضم ترجمة الأجزاء من "الكاما سوترا" تبدو الطبعة الدمشقية المنقولة عن الفرنسية نقلا عن السنسكريتية شيئا شديد الشحوب والضآلة بالمقارنة معه.
أما في عصرنا الحديث ، فقد امتدت محاولات الإمساك بالمهابهارتا من المقاربة العربية المدهشة التي قام بها المعلم بطرس البستاني ، وصولا إلى أحدث الأعمال الصادرة في هذا الصدد بحسب علمي _ وهو مجلد " المهابهارتا " من ترجمة وتقديم عبدالإله الملاح ، والذي يقع في 318 صفحة.
والجهود الممتدة بين هاتين المقاربتين تجعلنا - بحكم عدد صفحاتها إن لم يكن بحكم أي شيء آخر - نتساءل عما إذا كنا نتحدث عن شيء واحد ، وتجعل من المشروع أن نتساءل: ما هي المهابهارتا بالضبط ؟
إن المهابهارتا نفسها ترد على هذا السؤال ، حيث نقرأ في الكتاب الأول منها: " من هذه الملحمة السامية يصاعد إلهام الشعراء.. والمعرفة العريقة تراوح في رحابها.. وما من قصة يلقاها المرء دون أن تستند إلى هذه الملحمة.. وأفضل الشعراء جميعا يحيون عليها ".
وما لفت نظر القارئ في السطور السابقة صحيح تماما ، فالمهابهارتا ملحمة ، والإشارة إلى الكتاب الأول ليست مصادفة ، فهذه الملحمة ليست كتابا ، وإنما هي بالفعل مكتبة ، وإن شئت الدقة فقل ، على وجه الحصر ، إنها ملحمة تقع في مائة كتاب.
خمسة كتب من أصل مائة
ولكي يتاح للقارئ العربي تصور أوضح - من حيث الشكل - عما نحن حياله ، نقول إن بروفسور جي. فان بويتنين ترجم في إطار مشروع جامعة شيكاغو لنقل النص من السنسكريتية إلى الإنجليزية ترجمة دقيقة خمسة كتب من كتب المهابهارتا المائة ، قبل أن يرحل عن عالم البشر الفاني ، وصدرت الكتب الخمسة في ثلاثة مجلدات ، من القطع الموسوعي ، حيث يضم المجلد الأول " كتاب البداية " ويقع في 491 صفحة ، ويضم المجلد الثاني الكتاب الثاني بعنوان " كتاب قاعة الاجتماعات " والكتاب الثالث بعنوان " كتاب الغابة " ويقع هذا المجلد في 864 صفحة. أما المجلد الثالث فيضم الكتاب الرابع وهو بعنوان " كتاب فيراتا " والكتاب الخامس وهو بعنوان " كتاب الجهد " ويقع هذا المجلد في 572 صفحة.
أما الطبعة الكاملة للمهابهارتا ، التي اطلعت عليها ، والصادرة في بومباي ، فيمكن للقارئ تصورها إذا وضع مجلدات الموسوعة البريطانية والكتاب العالمي جنبا إلى جنب على رف واحد.
هذه الإطلالة ، من حيث الشكل ، على المهابهارتا تتيح لنا فهم الحقيقة الواضحة وهي أنه إذا أريد للعالم العربي ذات يوم أني ضع يده على طبعة عربية من المهابهارتا عبر معجزة من معجزات التثاقف ، وسواء كان ذلك نقلا عن السنسكريتية مباشرة أو عبر لغة وسيطة الإنجليزية أو الفرنسية ، فإن ذلك لن يكون إلا من خلال جهد مؤسسي ضخم.
ولكن ما القيمة الحقيقية للمهابهارتا التي قد تدفعنا إلى محاولة اجتراح هذا الجهد لنقلها إلى اللغة العربية ؟
أتمنى ألا أسقط في هوة التبسيط المخل ، إذا قلت أن المهابهارتا لا يمكن إلا أن تتكشف لعيني المتأمل عن واحد من أقدم النصوص الملحمية في العالم وأكثرها أصالة وعمقا ، وهي تصل إلى القمة في القدرة على استقطاب الاهتمام باعتمادها مفهوم الصراع محورا لتقديم " كوزموجني " كامل يتناول الوجود بأسره تصويرا وتسيرا وتبريرا.
هذا النص - المكتبة يطرح علينا عددا من الأسئلة الشديدة الأهمية ، ولكن أليس من المنطقي قبل التصدي لعلامات الاستفهام تلك أن نحاول إلقاء نظرة على الإطار العام للمهابهارتا أو قل على قصتها المحورية ؟ .
القصة المحورية للمهابهارتا تدور حول قضية شرعية توارث مملكة كورو كشيتزا الواقعة في شمالي الهند ، التي كانت أرض الأسلاف بالنسبة لقبيلة البهارتا ، وكان آخر الملوك الذين لم تدر شكوك حول توارثهم للمملكة هو الملك شامتانو ، الذي أنجب ثلاثة أبناء ، أولهم هو بهيشما الملقب بـ " الرهيب " وسوف نعرف حالا سر هذا اللقب الذي استحقه عن جدارة ، وقد أنجبته ربة النهر الجميلة جانج . هكذا كان بهيشما الوريث الشرعي للمملكة ولكن شامتانو أنجب ابنين آخرين من زواجه بساتيا فاتي ، ابنة أحد زعماء قبائل الصيادين ، وهما سيترانجادا ، وفيسترافيرايا.
هذا الزواج الثاني هو الذي أوقد النار في عالم البهارتا الهادئ ، فقبل زواج الملك شامتانو من الجميلة ساتيا فاتي التي هام بها حبا ، اشترط عليه أبوها شرطين غاية في الغرابة ، أولهما أن يتنحى بهيشما عن وراثة المملكة ، مفسحا المجال لإخوته من الزواج الجديد ، وأن بعد بهيشما فضلا عن ذلك بألا ينجب أبناء ينافسون الفرع الأصغر حث التوارث مستقبلا ، وقد استحق بهيشما لقب " الرهيب " لأنه وافق على الشرطين معا ، وفاء لأبيه وليمنحه التحقق الذي تتوق نفسه إليه.
لكن المأساة تحل بساحة الفرع الأصغر ، ذلك أن سيترانجادا مات دونما زواج ، وبالتالي دونما وريث ، أما أخوه الأصغر فيسترافيرايا فإنه يتزوج من شقيقتين هما أمبيكا وأمباليكا ، ولكنه بدوره يموت دون أن يترك وراءه ذرية ترث المملكة.
هنا تكشف ساتيا فاتي عن سر آخر من أسرارها العديدة الملتبسة ، فقد كان لها قبل زواجها من الملك شامتانو ابن يدعى كريشنا دفاييبانا ، وهي تستدعي ، بإسم القانون الذي يجيز لشقيق المتوفي دونما ذرية الزواج من أرملته لإنجاب ذرية لوارثة المملكة ، وهكذا فإن الأرملة الكبرى تلد لكريشتا ولدا هو درتا راشترا ، الذي يحق له يمقتضى حقوق الانحدلر أن يكون وريث المملكة ، وتلد له الأرملة الصغرى امباليكا ابنا آخر هو باندو ، كما أن كريشنا يعقب ولدا غير شرعي من خليلة له ، يدعى فيدورا .
المولود الأعمى
ولد درتاراشترا ضريرا ، وهكذا فإنه يستبعد من التوارث المباشر للمملكة ، ويتوج باندو ملكا على البهارتا ، وينجب خمسة أبناء ، سيعرفون على امتداد الملحمة باسم الأخوة باندافا. وأكبرهم هو يوديشترا ، الذي ولد علاوة على ذلك قبل دوريو دانا أكبر أبناء درتارا شترا. لكن المأساة تخلق ظلالا لا يريم على أرض البهارتا ، فباندو يقع طائلة لعنة رهيبة فيهجر العرش ويلوذ بإحدى الغابات ، حيث ولد أبناؤه وشبوا عن الطوق. ويتولى درتا راشترا منصب نائب الملك ، ويحل بذلك محل الورثة الشرعيين الذين اختفوا عن العيان ، وهو يقر بأن يوديشترا أكبر الأخوة باندافا له الحق الأول في وراثة المملكة ، لكنه في الوقت نفسه لا يلتزم تمام الالتزام بتأييد قضيته.
عقب وفاة باندو في الغابة يمضي نساكها مع الأخوة باندافا وأمهم كونتي إلى بلاط البهارتا في العاصمة هاستنابورو للمطالبة بعرش باندو. ولكن بينما لا توضع أحقيتهم لهذا العرش موضع الشك قانونا ، فإن دوريودانا ، أكبر أبناء درتا راشترا ، يخطط للانفراد بالعرش ويحاول اغتيال أبناء عمه الخمسة أولا ، ولدى فشل المحاولة ، يبعدهم فيما يشبه النفي إلى إحدى مدن الأقاليم ويحاول إحراقهم هناك ، لكنهم يكتشفون المؤامرة فيلوذون بالهرب مع أمهم كونتي. ويتوجه الأخوة الخمسة ، بعد مغامرات لا حصر لها إلى بلاط الملك دوربادا عاهل بانكالا الواقعة إلى الجنوب من أرض البهارتا ، ويفلح أرجونا ثالث الأخوة باندافا من الزواج من كريشنا دروبادي ، ابنة ملك بانكالا ، وهكذا يعقد الأخوة باندافا تحالفا مع مملكة بانكالا ، وينضم إلى هذا الحلف بالاديفا وكريشنا فاسوديفا ، وهما بطلا شعب مجاور يقيم إلى الغرب على ضفاف نهر يامونا.
عندما تصل الأنباء إلى هاستينابورو ، عاصمة البهارتا ، يعقد مجلس حرب في التو وتطرح الدعوة إلى شن حرب وقائية ، ولكن العم الأكبر بهيشما يؤيد حقوق الأخوة باندافا ، وفي الوقت نفسه لا يتراجع دوريودانا عن موقفه ، بعد أن دان له الملك طويلا ، ويتم التوصل إلى الحل الوسط الوحيد الممكن بديلا للحرب وهو تقسيم مملكة البهارتا ، وعلى الرغم من أن الأخوة باندافا يقبلون الحصول على إقليم خاندافا ، المليء بالغابات وغير المزروع ، والواقع إلى الجنوب الغربي من هاستيناورو لحكمه باعتبارهم فرعا أصغر للبهارتا ، إلا أن أيا من الفريقين لا يعلن التخلي عن حقه المطلق في السيادة على المملكة بكاملها.
وتزدهر أحوال الأخوة باندافا في عاصمتهم إندرا براستا ، ويصل الازدهار إلى حد أن كريشنا فاسوديفا يشير على الملك يوديشترا ، كبير الأخوة باندافا بالاحتفال بالتكريس الملكي ، الذي هو في جوهره إضفاء طقوسي للشرعية على استقلال أدرا برستا عن هاستينابورو ، وإعلان للمطالبة بالسيادة الشاملة ، التي يمكن في ظلها توحيد المملكة من جديد ، عندما يصل يوديشترا إلى قمة المجد ،ويحتفل بتكريسه ملكا وبإخضاعه لإمبراطور أرض ماجادا ، تتحداه هاستينابورو للدخول في لعبة زهر طاولة حافلة بالتحدي ، ولا يستطيع يوديشترا تجاهل هذا التحدي ، لأنه يشكل الطقس الختامي للاحتفال برسماته ملكا.
في إطار لعبة زهر الطاولة الرهبية تلك ، يصادف سوء الحظ الشبيه باللعنة يوديشترا فيخسر كل شيء أمام ابن عمه دوريودانا ، بما في ذلك حرية أبنائه وإخواته وحريته هو نفسه ، وفي تصرف جنوني أخير يقامر على زوجته دوربادي ويخسر ، فتصرخ دروبادي التي تعرضت لإهانات لا تنسى في تلك القاعة المشئومة: هل كان يوديشترا حرا في المقامرة بها في الوقت الذي كان قد فقد فيه حريته ؟ هل كان لا يزال يملكها حين قامر بها ؟. إن القضية لا تحسم. بل أن العم الضرير درتاراشترا يعلن إلغاء اللعبة وكل تبعاتها ، لكن دريودانا يتحدى الأخوة باندافا في إطار رمية أخيرة ، فأما أن يكسبوا كل شيء بما في ذلك المملكة بأسرها وإما أن يقبلوا بالنفي خارج المملكة لمدة ثلاثة عشر عاما ، منها اثنا عشر في الغابة وتحت هوية أناس آخرين ، ويلقي يوديشترا الزهر ، ومن جديد يخسر أمام ابن عمه دوريودانا.
عندما يعود الأخوة باندافا من المنفى ، بعد أعوام النفي ، ويطالبون بإرثهم ، ترفض هاستينابورو طلبهم في الحال ، وهكذا تصبح الحرب أمرا حتميا ، ويحشد كل فريق جيوشه ، ويبرم تحالفاته ، ويندفع الجميع إلى ساحة قتال وحشي يتواصل ثمانية عشر يوما ، وينتهي بالهزيمة المطلقة لهاستينابورو ، ويؤكد يوديشترا طقوسيا سيادته المطلقة على مملكة البهارتا بتقديم جواد قربانا للآلهة في طقس جليل. وفي النهاية ينطلق الأخوة باندافا ومعهم الزوجة الوفية دروبادي في رحلتهم الأخيرة إلى السماء ، ويلقى أبناؤهم حتفهم جميعا ذبحا ، ويمضي حق الوراثة إلى أبهيمانو بن أرجونا ، أصغر أبناء الباندافا المعروف بإسم كونتيا من زوجته سبهاردا ، فينتقل من أبهيمانو إلى ابنه باريكشيت ، ومن هذا الأخير إلى جانيماجانا ، الذي تروى له القصة بكاملها مجددا.
أسئلة بلا نهاية
ما أن نتفهم القصة الأساسية على هذا النحو ، حتى تتداعى علينا تلقائيا أسئلة أقرب إلى الشلال حول هذه الملحمة المكتبة المدهشة.
أول ما يخطر على البال - على الفور تقريبا - سؤال محدد: ما السر من كل هذا التعقيد المتعلق بأنساب أنساب ملوك البهارتا وحقوق توارث العرش ؟.
يقول بروفسور فان بويتنين ، في معرض الإجابة عن هذا السؤال ، أن العقدة هي بالتأكيد بالغة التركيب ، وحقوق التوارث هي كابوس بالنسبة لعالم الأنساب ، وربما كان النسب في ذلك أن القصة الرئيسية أريد بها في أحد أبعادها أن تكون لغزا ، وهذا الإطار الهائل ليس من قبيل المصادفة لا على الصعيد التاريخي ولا على المستوى الأدبي.
لكن بغض النظر عن مدى تعقيد القصة الأساسية ، لماذا يقفز نص البهارتا الأصلي من أربعة وعشرين ألف مقطوعة شعرية يضم كل منها بيتين لتغدو المهابهارتا في إطارها شبه النهائي عملا يقع في مائة ألف مقطوعة شعرية ؟
الرد على هذا السؤال يكمن في أن هذه القصة الرئيسية على الرغم من أنها نفسها أبعد ما تكون عن البساطة إلا أنها شهدت عمليات تمدد لا يكاد يكون لها حصر ، فهي إذا كانت صراعا حول التوارث فإن ذلك يقتضي بالضرورة متابعة لعلاقات معقدة عبر أجيال عديدة حيث البداية ثم التشابك واحتدام الصراع والاحتكام إلى الصراع المسلح وأخيرا حسم الصراع.
وإذا شئنا أن نضرب مثالا للبداية ، فإننا نجد أن التاريخ القديم لملوك البهارتا يتضخم ليتحول إلى " كتاب الأصول " ويمتد نص القصة الأصلية من الملك شامتانو وولده بهيشما ليعود في الزمن إلى شاكونتالا أم البهارتا ولا تتوقف لعبة التمدد هنا ، وإنما تواصل الابتعاد من أصول البهارتا إلى انحدار القبيلة بكاملها من أصلاب البوراما ، وهكذا نجد أنفسنا أمام قصة بورو ، وكيف نال الملك وأسس مملكة بورافا ، وهكذا تتواصل لعبة التمدد بلا انتهاء.
والأمر نفسه - أي لعبة التمدد - يمكن رصده في النهاية أيضا ، فقد يتصور المرء انتهاء الملحمة بالهزيمة الكاملة للطرف المعارض. ولكن هل الأمور بهذه البساطة حقا ؟ الإجابة هي بالنفي على وجه القطع ، حقا أن راية النصر تنعقد للأخوة باندافا ، ولكن الموتى يجب أن تقام لهم طقوس الحداد علة النحو المناسب ، وهكذا نجد لدينا نصا هائلا بكامله يغطي هذه النقطة وحدها هو " كتاب النساء " ولا بد لأرواح هؤلاء الموتى من الانتقال إلى مقرها على جسر الطقوس وهكذا نجد لدينا " كتاب القربان الجنائزي " وغيره. وهنا من حقنا أن نتوقف ، نتساءل عن آليات ما أسميناه بعملية تمدد النصوص في المهابهارتا . فهل نحن أمام عمليات دائبة لإلحاق مواد ثانوية بالقصة الرئيسية ؟
دعنا نلاحظ ، في مواجهة علامة الاستفهام تلك ، أنه ليس من اليسير أن تحدد تيارات السرد في الملحمة ، لنقول ها هنا يمتد النص الأساسي ، وهناك تمتد المواد الملحقة ، وذلك لأنه على مر الزمن تم تجاوز الاختلافات في الأساليب وإعادة أحكام الصياغة الشعرية ، وأي وضع لحدود فاصلة بين القصة الأساسية والمواد الملحقة سيظل قائما على التخمين والافتراض ويأتي انعكاسا مباشرا لتصوراتنا نحن عن جوهر العالم الخلفي للمهابهارتا.
ومع ذلك ، فمن المؤكد أن هناك ثغرات في هذا النص الهائل المتطاول الامتداد جرى ملء جزيئاتها على مر الأجيال بدأب شديد.
دعنا نضرب هنا أمثلة محددة ، فالكتاب الثالث في المهابهارتا وهو " كتاب الغابة " يقدم نموذجا واضحا على ما نطرحه هنا ، ففي القصة الرئيسية يرحل الإخوة باندافا ، بعد خسارتهم في لعبة النرد ، إلى منفاهم في الغابة ، ليقضوا هناك اثنى عشر عاما ، ومن المؤكد أن الملحمة الأساسية لم تقف عند هذا الحد ، وإنما أوردت بعضا من المغامرات التي جرت في الغابة ، التي هي مجال مفتوح للشياطين ، ولكن الغابة أيضا هي ساحة الحكماء البراهمة ، وهكذا فإن الاصطدام بالشياطين يتجاور مع الحوار مع البراهمة ، فيتحول " كتاب الغابة " ليصبح " كتاب تعالم الغابة " وليعج بقصص طويلة من قصص البراهمة.
وحدث له أهميته في القصة الأساسية ، وهو احتضار الحكيم بهيشما على فراش من سهام يتحول إلى أفق مفتوح بألوان التعاليم المقدسة التي تأخذ صورة وصية الحكيم الموشك على الغياب عن عالم البشر وهكذا نجد أنفسنا أمام نصين هائلي الطول هما " كتاب السلام " و" كتاب التعاليم ".
ويشير بروفسور فان بوتنين إلى أنه يمكن تصور مرور المهابهارتا من هذا المنظور بأربع مراحل على التوالي ففي المرحلة الأولى تعرضت الملحمة للتوسيع من داخلها ، وفي المرحلة الثانية تم إضفاء الطابع الميثولوجي عليها ، وفي المرحلة الثالثة أعيدت صياغتها في إطار تعاليم البراهمة ، وأخيرا في المرحلة الرابعة تحولت من مجموعة مخطوطات إلى مكتبة هي من المرونة بحيث يمكن بسهولة أن تستوعب كتبا جديدة. ومن هنا فليس غريبا أن نقرأ في الكتاب الأول من الملحمة هذا النص الدال: " إن ما هو موجود هنا قد يوجد في مكان آخر ، ولكن ليس موجودا هنا لا وجود له في أي موضع آخر " .
هذه النقطة على وجه التحديد تفتح الباب واسعا على مجموعة من الأسئلة الملحة والشديدة الأهمية ، وربما كان في مقدمتها: إلى من يمكننا أن ننسب تأليف المهابهارتا ؟ متى أكمل لأول مرة تأليف البهارتا العتيقة ؟ ومتى شقت المهابهارتا طريقها إلى التكامل في الصيغة التي نعرفها بها اليوم ؟
ثلاثة أجيال من المنشدين
دعنا نبادر إلى القول بأن هذه النوعية من الأسئلة على وجه التحديد يكاد يكون من المستحيل صياغة ردود قاطعة وواضحة المعالم عليها ، فالتقاليد والأعراف الفكرية الهندية ترد صياغة الملحمة إلى كريشنا دفاييانا نفسه ، الذي أنجب من فيسترا فيرايا أبناءها ، وهو أحد البراهمة الخالدين الذين يظهرون في حفل قربان الثعبان ، الذي أقامه الملك جانيماجايا ، حفيده الأصغر ، الذي تروى الملحمة على مسامعه. ولكن من الواضح أن هذا قصد به نسبة النص إلى مؤلف على نحو رمز فحسب.
ومع ذلك فإننا يمكنا أن نستخلص - وكأنما بسحر ساحر - من نص الملحمة نفسه مفتاح الإجابة عن السؤال ، الذي يدور حول نسبتها إلى مؤلف بعينه ، فالنص في شكله الحالي ينشده أوجرا شرافاس محتذيا في ذلك حذو فابشامبيانا ، أحد تلاميذ كريشنا دفايبيانا.
ما الذي يعنيه هذا ؟
إنه يعني ببساطة أننا أمام ثلاثة أجيال من المنشدين انتقل النص عبرها ، وهذا النقل - بالطبع - بعيد عن الدقة والانضباط الصارمين ، اللذين نقلت بهما الفيدا ، فشهرة المنشد تقوم على مهارته في بعث الحياة من جديد في نصوص القصص العتيقة ، ومن شأن الأجيال المتتابعة أن تضيف وتزخرف وتستطرد في القول.
ويشير فان بويتنين إلى أن من المحتم أن شاعرا أو مجموعة من الشعراء قد تحملوا مسئولية صياغة القصة الأساسية للمهابهارتا بصورة واهية ومقصودة ، ومن البداية المتواضعة شرعت المهابهارتا في خوض غمار مسيرتها الهائلة.
وهو يؤكد أن من المحقق أن البهارتا العتيقة قد اكتمل تأليفها في مرحلة جد مبكرة من المسار الزمني للفيدا ، ومع ذلك فهناك اتفاق عام على أن أقدم الأجزاء التي بقيت لنا لا تعود إلى أبعد من 400 سنة قبل الميلاد وأقوى دليل على وجود البهارتا كنص لا يعود تقريبا إلى ما قبل هذه الفترة.مع ملاحظة أن الأجزاء التعليمية مما دعي بشبه الملحمة قد أضيف في وقت متأخر للغاية ، ربما يعود للقرن الرابع الميلادي.
لكن فان بويتنين نفسه في مقدمته الشهيرة للمهابهارتا ما يلبث أن يستدرك قائلا: " إن مثل هذا التأريخ ، أي المتراوح بين القرن الرابع قبل الميلاد والقرن الرابع الميلادي ، هو بالطبع أمر عبثي من منظور عمل أدبي واحد ، لكنه يكتسب معناه حينما ننظر إلى النص لا باعتباره قطعة واحدة فقط وإنما باعتباره مكتبة للأوبرات ، وعندئذ فإن بقدورنا القول بأن عام 400 ق. م. كان تاريخ تأسيس تلك المكتبة وأن عام 400 م. كان التاريخ التقريبي الذي لم تتم بعده إضافات يعتد بها للنص ".
وفي ضوء المسيرة الهائلة ، التي قطعتها المهابهارتا لتشق طريقها إلى ثقافات العالم شرقا وغربا ، قد يحق لنا طرح سؤال أخير: هل من حقنا أن نتفاءل بأن الوقت قد اقترب لتحقيق لقاء القارئ العربي وبين المهابهارتا بحسب هذا التصور أي بحسبانها مكتبة ملحمية متكاملة ؟
وفي معرض التصدي لعلامة الاستفهام هذه ، يمكن القول إن الإجابة من خلال مقولتي التفاؤل والتشاؤم هي لعبة لا تنقصها القسوة ، فمعطيات عملية التثاقف بين عالمنا العربي والشرق بكامله ، ثقافة وفلسفة وأدبا وفنا وتقنية ، تمر بوضعية لا يمكن وصفها إلا بأنها مروعة وسلبية على نحو لا يصدق.
ومع ذلك.. أليست كتابتي لهذا المقال وقراءتك أن له - أيها القارئ - هي في جوهرها الصحيح إعلانا بالتفاؤل حول ما يمكن أن يأتي به الغد من تطورات ؟! .