إنه علم يبحث في الظواهر الطبيعية الخارقة, ويحاول أن يجد تفسيرا ً علمياً لها, فهل هو علم الخرافات?! أم أنه مجرد علم غير مألوف?
تعني الباراسيكولوجيا حرفياً (علم ما وراء النفس), فلقد تنبّه الإنسان منذ القدم لوجود ملكات خفية لديه مثل التخاطر والجلاء البصري والسمعي والقدرة على تحريك الأشياء بالفكر, واختراق الماضي والمستقبل, والتعرّف على مكامن الماء أو المعادن في الأرض, والوجود في مكانين في وقت واحد, والطرح النجمي أو الخروج من الجسد, ولقد تنازع هذه الملكات جماعتان, جماعة ادّعت ملكيتها وهم المشعوذون والدجالون والسحرة فبغضها الناس, واستبعدوا حقيقة وجودها ولحق العار بمن مارسها مادام هؤلاء رجالها.
أما الجماعة الأخرى فهم المتصوّفة والأولياء وأصحاب البصيرة المشاهير الذين دربوها فعلاً فانتعشت لديهم هذه الملكات وتبوأوا بها مراكز عالية على مر التاريخ, إلا أنها بقيت تجارب ذات طابع فردي لا هيئة لها, حتى عام 1882م حيث أسست (جماعة كمبردج) البريطانية, (جمعية بحث الخوارق) في فبراير من عام 1882م, وكان أول رئيس لهذه الجمعية أحد الأسماء المشهورة في المجتمع الأكاديمي (هنري سيد غويك Henry Sidgwick) أستاذ الفلسفة في جامعة كمبردج, وكان هدف الجمعية - كما جاء في التقرير الذي نشرته في عام تأسيسها - هو دراسة الظواهر الخارقة والروحانية المختلفة من غير أي أحكام مسبقة, وبالروحية الحيادية نفسها التي مكّنت العلم من دراسة مختلف الظواهر الطبيعية بشكل دقيق (1882, SPR).
وكان من نتائج هذا الاهتمام تأسيس (الجمعية الأمريكية لبحث الخوارق) في ولاية بوسطن في عام 1885 التي استقطبت أسماء لامعة في دنيا العلم من بينها عالم النفس المشهور (وليم جيمس).
إن تأسيس الجمعية البريطانية والأمريكية كان بمنزلة الدفع الرئيسي للاهتمام بظواهر الباراسيكولوجيا, ولكن هذه الظواهر لم تخضع لدراسات علمية مستمرة ومكثفة إلا بعد حوالي أربعة عقود, ففي عام 1927م انتقل عالم النفس الاجتماعي (وليم مكدوغل) إلى جامعة ديوك الأمريكية في ولاية كارولينا الشمالية ليصبح رئيساً لقسم علم النفس فيها, وانتقل إلى القسم نفسه عالم بيولوجيا النبات المعروف (جوزيف راين) ويعدّ المؤسس الحقيقي لعلم دراسة الخوارق المعروف (الباراسيكولوجيا) Parapsychology, وانتقلت معه زوجته أيضاً, وقام الزوجان (راين) والأستاذ مكدوغل بدراسة الظواهر الباراسيكولوجية بشكل مكثف, وفي المحصلة أدّت جهودهم إلى إنشاء أول مركز بحث تجريبي للدراسات الباراسيكولوجية في العالم, وهو مختبر الباراسيكولوجيا في جامعة ديوك عام 1934, ومنذ ذلك الحين استمرت وتكثفت الدراسات حول الباراسيكولوجيا على المستويين النظري والتجريبي حتى إن هناك الآن عشرات الجمعيات العلمية والأكاديمية التي تهتم بدراسة مختلف الظواهر الباراسيكولوجية, وفي ربيع عام 1968, ومن على تخوم روسيا وسيبريا البعيدة تداعى ما قرب من مائة باحث وعالم للالتقاء بزملائهم الذين جاءوا من أقصى مناطق العالم يحملون معهم أرقى ما توصلت إليه أبحاثهم وأجهزتهم المتطورة لحضور المؤتمر الموسّع (الباراسيكولوجيا) في موسكو.
إن الظواهر الخارقة هي ظواهر استثنائية تختلف عن الظواهر الطبيعية, على الأقل لكونها ظواهر نادرة وغير مألوفة, إلا أن هذا المظهر بالذات هو الذي يجعل منها ظواهر ذات قيمة استثنائية للعلوم المختلفة, إذ إن من يتتبع تاريخ العلوم ومراحل تطورها يلاحظ أن المعارف العلمية المختلفة كثيراً ما تطورت نتيجة لدراسة ظواهر نادرة وغير مألوفة لاحظها العلماء مصادفة خلال دراستهم لظواهر أخرى مألوفة.
فيمكن أن تكون الحوادث الخارقة متمثلة بشعور داخلي ينتاب شخصاً ما حول أمر ما ثم تحققه بعد ذلك بساعات, أو أن يتذكر أحدهم شخصاً لم يسبق أن تذكره منذ سنين ثم دهشته وهو يربت على كتفه بعد دقائق ليسلّم عليه, أو أن يحلم أحدهم ثم يتحقق ذلك الحلم وكأنه كان على علم بما جرى... وغيرها من الحوادث الغريبة والتي يقف الإنسان أمامها مشـدوهاً.
ويقول كولن ولسون عن (الباراسيكولوجيا) بأنها توحد بين نصفي عقل الإنسان (الوعي واللاوعي) ويسمّيها جونسون حاسّة كامنة مستترة, ويسمّيها ج - و - دان (الأنا الثانية) القادمة على أن ننظر إلى الأمام والوراء في الزمان, ويتخذ مفهومه هذا من أن هناك (عقلاً كونياً تكون العقول جوانب صغيرة منه), ودعاها الفيلسوف برنارد لونرجان (البصيرة) في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه, ودعاها رونالد هابارد مؤسس علم (فلسفة العلوم), كعنصر ثالث يضاف إلى الجسم والعقل, وهذا العنصر في اعتقاده يبقى محصوراً داخل الجسم لكنه عندما يكون طليقاً يعطينا ظواهر خارجية يسهل تمييزها بسبب امتلاكه مجالاً مغناطيسياً عجيباً, ودعاها البروفيسور سوبارسكي, حاسّة سادسة لايزال العلم يجهلها..
الملكات الباراسيكولوجية
ويصنّف العلماء الظواهر الخارقة إلى صنفين رئيسيين هما: التحريك الخارق, والادراك الحسّي الفائق.
- التحريك الخارق: ويستخدم مصطلح (التحريك الخارق) للإشارة إلى القدرة الخارقة لبعض الأشخاص على التأثير على جسم ما عن بعد دون استخدام أي جهد عضلي أو نشاط للجهاز الحركي في الجسم. ولقد عرف الإنسان ظاهرة التحريك الخارق منذ القدم حيث وردت إشارات إليها في بعض الكتابات القديمة, والواقع أن بعض المؤرخين في الزمن القديم أشاروا إلى أن قطع أحجار الأهرام الضخمة نقلت ووضعت فوق بعضها بوساطة أشخاص كانت لهم قدرات التحريك الخارق. فالعلماء مازالوا غير متأكدين من أن الكيفية التي تم بها نقل قطع الحجارة الضخمة تلك من مناطق بعيدة, ومن ثم رفعها لبناء الأهرام في زمن لم تكن فيه وسائط نقل ولا آلات رفع أثقال مثل تلك التي نعرفها في يومنا الراهن.
لقد قام العلماء باختيار عدد من الأشخاص الذين لهم قدرة (التحريك الخارق) - السكوكينيزيا - للتأكد من صحة امتلاكهم لهذه القدرة الغريبة, ولعل أشهر موهوبي قدرة التحريك الخارق الذين شاركوا في تجارب علمية هي الروسية نينا كولا غينا, وتم اختيار قدرات نينا كولا غينا من قبل عدد من العلماء - في الاتحاد السوفييتي السابق خلال السبعينيات والثمانينيات - منهم عالم فيزياء الأعصاب غينادي سيرجييف من معهد الفسيولوجيا في أوتومسكي في (سان بطرسبرغ) وفي إحدى تجارب سيرجييف كسرت بيضة ووضعت في محلول ملحي موضوع في إناء خاص, ثم طلب من كولا غينا أن تقوم بمحاولة فصل صفار الييضة عن بياضها عن بعد دون أن تلمس اليبضة أو الحاوية, جرت هذه التجربة تحت مراقبة كاميرات كانت تسجل بشكل متواصل ودقيق كل تفاصيل التجربة لدراسة الفيلم لاحقاً, والتأكد من عدم قيام كولا غينا بأي تلاعب أو استخدام أي حيلة من الحيل التي تتضمن خفة يد, وخلال التجربة, كان جسم كولا غينا مربوطاً بأجهزة طبية تسجّل أي تغيرات تطرأ على نشاطات أجهزتها, وفي أثناء محاولة كولا غينا فصل صفار البيضة عن بياضها سجّل تخطيط القلب ارتفاع معدّلات نبضات قلبها إلى 240 نبضة في الدقيقة أي ما يعادل حوالي أربعة أضعاف معدّل النبض الطبيعي, ورافق هذا التغير ارتفاع مفاجئ في مستوى السكر في الدم دلالة على حصول نوع من الاجهاد, وبالفعل نجحت كولا غينا بعد نصف ساعة من بدء التجربة في فصل الصفار عن البياض!
الإدراك الحسّي الفائق
تم استخدام هذا المصطلح لأول مرة في منتصف العشرينيات, ولكن استخدامه الواسع بدأ بعد أن نشر جوزف راين في عام 1934 كتابه المشهور الذي أسماه باسم هذه الظواهر أي (الإدراك الحسّي الفائق) (Rhin, 4391) الذي تضمن حصيلة سنين من تجاربه العلمية على هذه الظواهر في جامعة ديوك, وكان لكتابه أثر واسع في استخدام الأساليب والبحوث العلمية لدراسة هذه الظاهرة, ويمكن تقسيم ظواهر الإدراك الحسّي الفائق إلى ثلاثة أنواع:
1- توارد الأفكار: وهي ظاهرة انتقال الأفكار والصور العقلية بين شخصين من دون الاستعانة بأي حاسّة من الحواس الخمس, ويلاحظ العلماء من خلال تجاربهم أن هذه الظاهرة تحدث بشكل أكبر بين الأفراد الذين تربط بينهم علاقات عاطفية قوية كالأم وطفلها, والزوج وزوجته, والأخ وشقيقه. ومن حوادث توارد الأفكار يمكن الإشارة إلى تجارب الطبيب النفسي (نافل ناوموف) المشهورة في مستشفى التوليد, حيث كانت الأمهات تفصل في جناح بعيداً عن جناح الأطفال, ولوحظ أن الأم كانت تصاب بالعصبية والألم عندما كان وليدها يعاني الألم أو الجوع, وأن الطفل بالمقابل كان يبكي في اللحظات التي كانت أمه تتوجّع.
ويروي الطبيب المعروف لاري دوسي هذه القصة, كانت أم تكتب لابنتها رسالة, وكانت البنت تدرس في كلية في مدينة أخرى, وفجأة بدأت الأم تشعر بألم احتراق في يدها اليمنى, وكان الألم شديداً إلى الحد الذي جعلها تترك القلم وتتوقف عن الكتابة, وبعد أقل من ساعة تلقت الأم مكالمة من الكلية لإبلاغها بأن اليد اليمنى لابنتها قد تعرضت لاحتراق شديد بسبب سقوط حامض على يدها في أثناء عملها في المختبر, وكان وقت إصابة ابنتها هو الوقت نفسه الذي عانت هي فيه من ألم الاحتراق في يدها.
ويروي الكاتب مصطفى أمين أنه عندما كان هو وشقيقه التوأم في المدرسة أيام الطفولة حين يتعرّض أحدهما للضرب من قبل المدرس, فإن الآخر في الغرفة الأخرى يبكي من تلقاء نفسه.
وفي محاولة لتفسير التخاطر يفترض (جون كاوبر بويز) في كتابه أن (الأثر النفسي) يحمل الاهتزازات العقلية مثلما يفترض إن الأثير الضوئي يحمل مويجات الضوء, بينما يقول (دافيد فوستر) إن الكون بصورة كلية بناء متكامل من الموجات والذبذبات مضمونها المعنى, ولكن أدواتنا لاتزال غليظة لحل شفرة المعاني, بينما يفترض شيرمان (الأثير العقلي) حيث تسافر فيه أمواج الفكر مثل أمواج الراديو, وإن كان كل فرد منّا يمثل جهاز إرسال واستقبال.
2- الإدراك المسبق, وهو القدرة على توقع أحداث مستقبلية قبل وقوعها, وهنالك قدرة شبيهة بالإدراك المسبق تعرف بالإدراك الاسترجاعي Retrogression ويقصد به القدرة على معرفة أحداث الماضي من دون الاستعانة بأي من الحواس أو وسائل اكتساب المعلومات التقليدية, ويمكن أن نضرب مثلاً واقعياً على توقع أحداث مستقبلية قبل وقوعها وهي حادثة وقعت - لكاتب السطور - (وغيرها من الحوادث قد تكون سبباً في كتابة هذا المقال) قبل حوالي عامين - بداية الشهر العاشر من 1994م, كنت في حالة نفسية سيئة بسبب أزمة مادية خانقة عصفت بي فجأة في ذلك العام - رأيت في الحلم قطعة بلاستيكية اسطوانية تتحرك في الغرفة المجاورة لغرفة النوم استغربت ذلك وقلت إنها جماد, فلماذا تتحرك, سارعت لإزالتها وتملكني شعور بالخوف إلى حد ما - وفي اليوم التالي مساء وبعد أقل من 24 ساعة من رؤيتي للحلم, وعلى أثر البحث عن غرض ما في الصندوق الخشبي للمنزل, فوجئت بعد رفع غطاء الصندوق أن ثعباناً قد التف على نفسه على شكل حلقة وكأنه قد جمد في مكانه, سارعت فوراً لإخبار زوجتي وقمنا بالقضاء على الثعبان, وتملكنا خوف إلى حد ما - إذن ما الذي ربط بين القطعة البلاستيكية الاسطوانية الجامدة التي كانت تتحرك في الحلم وبين الثعبان الذي جمد في الصندوق ولم يكن وجوده هناك متوقعاً?! هنالك رابط خفي بين المشهدين.
3- الاستشعار: وهو القدرة على اكتساب معلومات عن حادثة بعيدة أو جسم بعيد من غير تدخل أي حاسّة من الحواس, وكما يعد الباحثون ظواهر الإدراك المسبق تجاوزاً لحاجز الزمن, فإنهم يرون في الاستشعار تجاوزاً لحاجز المكان - وهذه الظاهرة تم إخضاعها - هي الأخرى لبحوث علمية مكثفة, ومن أشهر التجارب على هذه الظواهر تلك التي قام بها عالما الفيزياء هارولد بتهوف ورسل تارغ في مختبرات معهد بحث ستاتفورد, حيث تم اختبار قابليات أحد الأشخاص الموهوبين, فكان يطلب منه وصف تفاصيل مكان ما بعد أن يعطي موقع المكان بدلالة خطي الطول والعرض, كان هذان الباحثان يختاران أماكن تحتوي على معالم لا توضع عادة على الخرائط لضمان ألا يكون الشخص الذي تحت الاختبار قد شاهدها على الخارطة, وفعلاً كان هذا الشخص قادراً على وصف الكثير من هذه الأماكن بدقة فائقة أكّدت امتلاكه لقدرات خارقة.
العين الثالثة
هناك فرضية أخرى ترى أن هذه الطاقة تنبعث من الغدّة الصنوبرية التي تقع في مخ الإنسان, وهي التي سمّاها الهنود القدماء (العين الثالثة) لأنها تقابل في الجبهة منتصف ما بين العينين, وفي بعض الفرضيات الإسلامية أنها تنشط بكثرة السجود وهو ما يفسّر خوارق الأولياء وكراماتهم, كذلك يسود اعتقاد بأنها متوافرة لكل طفل إلى سن البلوغ, حيث تبدأ الغدة المذكورة في الضمور, لكنها في حالات استثنائية تظل عاملة نشطة إلى سن متأخرة.
ويمكننا التساؤل إزاء ظاهرة (الخوارق) أو (الباراسيكولوجيا) لماذا نستثني أن تكون قدرات الإنسان الكامنة كفيلة بأن تحافظ على بقائه في ظروف التقدم العلمي المقبلة, وعلى سبيل المثال لماذا ننكر أن يتمكن الإنسان بفضل هذه الطاقة من أن يتلاءم مع الأحوال التي ستئول إليها الأرض بعد ألف عام أو بضعة آلاف من السنين? أو أن توفر له العيش والاتصال مع غيره من كائنات ومخلوقات إذا ما انتقل لسكن الكواكب الأخرى بعيداً في مجرتنا التي تنتمي إليها مجموعتنا الشمسية, وأخيراً يمكن القول بأن هناك مؤشرات كثيرة على أن علم الباراسيكولوجيا يمكن أن يكون العلم الواعد الذي ستقوم على أسسه الحضارة الإنسانية الجديدة.