مختارات من:

جمال العربية

محمد مستجاب

ماذا تقول شجرة لأختها ؟
شعر : حمزة شحاتة


من العاطفة المشبوبة والخيال المحلق لشعراء جماعة أبولو، ومن التأمل الرصين والوجدان العميق لشعراء جماعة الديوان، تشكلت قصيدة الشاعر السعودي حمزة شحاتة، الذي قدر له أن يعيش السنوات الأخيرة الخصبة من حياته في مصر، وأن يجاور عن كثب مجتمع القاهرة الأدبي والشعري ، وأن يبدع قصائده الناطقة بشاعريته المتميزة، وخروجه على المألوف الساكن، وجرأته في مواجهة كل ما يراه زائفا ومعيبا وغير حقيقي، من غير أن تفقده هذه المواجهة ماء شعره ولا كيمياء إبداعه .

ولأسباب كثيرة ظل شعر حمزة شحاتة غير منشور أو مجموع، ولم يتح له ذلك إلا بعد رحيل صاحبه ، وظل اسم صاحبه يتردد على ألسنة عارضيه- وهم القلة الواعية- حتى كانت الدراسة النقدية الضافية للناقد السعودي الدكتور عبدالله الغذامي بعنوان"الخطيئة والتكفير" عن حمزة شحاتة وشعره، بداية لمعرفته على نطاق واسع، واكتشاف جدته وأصالته واختلافه عن النسق المألوف في شعر معاصريه من الشعراء: موقفاً وتجربة ورؤية ولغة واتجاها ، وعكوفا على كل ما هو جوهري في رسالة الشاعر، الذي يضيء توهج شعره مصابيح الوعي الكاشف والرؤية الطازجة والتنوير البعيد .وفي كثير من كتابات الدارسين للشعر الحديث في المملكة العربية السعودية اتفاق على منزلة حمزة شحاتة باعتباره واحدا من عمد المدرسة الحديثة، وعلى أنه، ومعه محمد حسن عواد ، فرسا رهان في ميدان الإبداع الشعري المتميز، كل منهما مدرسة في التجديد الشعري والأدبي، فضلا عن أن شعر حمزة شحاتة يتسم بالرصانة والجزالة .والطريف أن ارتباط الشاعر- في السنوات الأخيرة من حياته- بمصر، وتشابه اسمه مع الأسماء المصرية جعل الكثيرين يعدونه من شعراء التجديد في مصر، وقد غاب عنهم وجهه الحجازي الأصيل، الذي تذكرنا ملامحه- فكرا وشعرا- بفلسفة "نيتشه" في كراهيته للضعف ودعوته إلى القوة، كما يذكرنا في نسيجه وأسلوبه برهافة شاعر الحجاز القديم - النابغة الذبياني- ووثبات المتنبي في قمة تألقه وانطلاقه .

ولقد عاش حمزة شحاتة حياة اغتراب وعزلة وكأنه في منفى، فهو بين الناس غريب الروح والعقل والنفس، ترفعه سخريته عن الواقع درجات، وتقيه حدة مزاجه من الوقوع في شرك الاهتمامات الصغرى لسائر الناس، الذين تغريهم مباهج الحياة وتجذبهم متعها العابرة .

وفي قصيدته "ماذا تقول شجرة لأختها؟" نموذج رائع لفكره وفلسفته وفنه، وطريقة تعامله- شعريا- مع عناصر تجربته المغموسة في الألم والمعاناة، وكشف التفاوت في الأقدار والحظوظ، والانشغال الدائم بفكرة العدل، وحرية المصير، والقدرة على اتخاذ القرار، وتغيير المسار ..يقول حمزة شحاتة:


أكذا نحن- حيث نحن- مقيمان على الخسف ليس نرجو فكاكا؟
كأسيرين، لا نريم ولا نملك سعيا، والكون قاض حراكا
ترسل الشمس حرها فوق رأسينا سياطا والريح طعنا دراكا
وتعيث الطيور فينا- على ضعف قواها- ضراوة وانتهاكا
لا الأديم المبسوط فيه لنا فسحة خطو ولا بلغنا السماكا
وأرانا- وعمرنا نهبة العجز- سنقضي كما جينا رِكاكا
أفهذا، لأننا ننكر العيش غلابا، ونحتويه عراكا؟

***

يا أخت نؤثر الصبر، والصبر- على ما ترين- قيد المساعي
ما لنا من ثمارنا- وهي من صنع قوانا- إلا نصيب الجياع
ما أرانا للحارثين سوى نهب، وللآكلين غير متاع
فتعالي نداو بالقول قلبينا، ونعزم به على الأسماع
علنا بالغان بالقول ما لم يبلغ الصمت في مجال الصراع
رب قول هز العزائم أو أحيا الأماني أو استحث الدواعي

***

أي عيش هذا الذي نحن صالوه هوانا وفاقة وشنارا؟
أخرست فيه دعوة الحق والعز فعادا ضراعة وصغارا
وغدا راجح النهى فيه منقوضا وحر الضمير يكدي عثارا
قد ظمئنا والماء ملء السواقي واهتدى غيرنا وعشنا حيارى
أفلا تحزنين للشجر الباذخ جفت جذوره فانهارا
وكأن القلوب في محبس الضيم حيارى، وكم نظل أسارى
فلنثر ولنمت، فما أكرم الموت مصيرا إن لم نعش أحرارا

***

أفلا تحزنين للواقع البخس ألفناه ذلة وخمولا؟
أفلا تحزنين للنور، للفرحة تفشي الكيان عرضاً وطولا؟
ولنهر الحياة أضفى على شطيه ضوء الجمال عبئا ذليلا؟
وهذا اللألاء فاض على الدنيا وأحيائها سنى مطلولا
ولحرية النفوس خيالا وانطلاقا ومأملاً وقبولاً
يا نصيبي؟ وما نصيبك من ذاك؟ أليس الحرمان والتعليلا؟
فانفضي عنك غمرة الحزن والخوف، وشقي للتاعسين السبيلا

***

ما لنا أوهن الخنوع قوانا فغدونا مُطلّحين رزاحا
أولسنا سلالة الشجر الشامخ أصلا وعزة وطماحا
والعديد الذي يضيق به الغاب، أليس النخيل والأدواحا؟
أفلسنا به، وبالغمر اليائس أقوى بأساً وأمضى سلاحا
إيه أختاه برح الصبر بالعانين، سالت به القلوب جراحا
ما أرانا في قلة، أطلقي الصرخة في الغاب تلهبي الأرواحا
قد كرهنا الحياة أسرا وصبرا، فلنرمها حرية وكفاحا

***

آن يا أخت أن نثور، فقد عشنا طويلاً على الرجاء المضاع
نتأسى باسم العدالة والرحمة حلمين في ظلام الخداع
إن حق للحي يا أختاه وهم للواهن المتداعي
وسبيل الحياة منذ كانت الدنيا وأحياؤها سبيل الصراع
لا تقولي: ما نحن في كفة الحرب! فلا ضاقت الحياة بساع
نحن بالحق والعزيمة والإيمان في خير أهبة واضطلاع
فهلمي بنا إلى ساحة الموت نزلزل بها قوى الأطماع

***

ما أرى الكون منذ كنا سوى سجن كبير أعد للضعفاء
يشرع القادرون فيه القوانين قيودا للرق والإفناء
فإذا أنّ مثقل قيل قد ثار! وجنت شريعة الأقوياء
إيه أختاه فلنثر ولنحطم كل قيد! ولنستبق للفداء
ليس في سنة الطبيعة أن يحرز حقا إلا دم الشهداء
وهبينا متنا ولم نبلغ القصد، أليست حيائنا كالفناء
قد فقدنا يا أخت في الأرض عدلا فدعينا نلذ بعدل السماء

***

إن ما تحمله القصيدة من فكرة رمزية، وصورة شعرية موحية، تجعل لها قيمة رفيعة في مجال الإبداع المرتبط بقيم العدل والحرية والتنوير، وهو إبداع تتجلى ثوريته في منطقه وأصالته، وفنيته العالية في قدرته على الإيحاء والتأثير، والأخذ بمجامع النفس في أبهاء هذا الحوار- الذي نستمع إليه طيلة الوقت من طرف واحد - لكنه طرف الحياة في مواجهة العدم، والعزة والتمرد في مواجهة اليأس والخضوع، والقدرة على المواجهة والتمرد في وجه الإلف والعادة والاستسلام .والذين يقرأون شعر حمزة شحاتة، تستوقفهم دوما هذه القصيدة، باعتبارها جزءا يشير إلى الكل، وفرعا في دوحته الشعرية الباسقة يحمل كل سمات الشجرة وقسماتها الأصيلة .

محمد مستجاب مجلة العربي سبتمبر 1995

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016