يواجه العالم نوعاً جديداً من مرض إنفلونزا البشر غير مسبوق في انتشاره وتبعاته الاقتصادية والاجتماعية، تطور في أقل من شهر ليصبح أقرب ما يمكن للوباء العالمي. فمنذ يوم الجمعة 24 / 4 /2009، سجلت حالات مؤكدة لهذه الإنفلونزا في 40 دولة، شملت دولا وبلدانا في معظم قارات العالم، كانت أولها المكسيك، حيث بدأ المرض بالانتشار، وسجل فيها أكبر أعداد حالات الإصابة المؤكدة والوفيات، وثانيها الولايات المتحدة الأمريكية, التي تأتي بعد المكسيك من حيث عدد الحالات المؤكده لهذا المرض.
يؤكد رفع منظمة الصحة العالمية درجة الوباء بتاريخ 29/4/2009 إلى المرحلة الخامسة، بعد أن كانت في 27/4/2009 قد رفعته إلى المرحلة الرابعة إلى خطورة الوضع، وإلى أن مرحلة الوباء العالمي كانت على الأبواب وهذا ما أعلنته منظمة الصحة العالمية اخيراً.
وتأتي هذه المقالة لإيضاح بعض الحقائق والمستجدات، حول الوباء والفيروس المسبب، وبعض الأمور الواجب الالتفات إليها، لأن فهمها وأخذها بعين الاعتبار يمكن أن يساعد كثيراً عند العمل على السيطرة على انتشار المرض، دون حدوث إرباكات أو خسائر مادية وتبعات اجتماعية غير مرغوب فيها.
مراحل الإنذار
قسمت منظمة الصحة العالمية مراحل الإنذار التي يمكن أن يمر بها وباء عالمي للإنفلونزا إلى ست مراحل «انظر الشكل1»، وقد تم في هذا العام مراجعة وصف هذه المراحل. والهدف الرئيس من تحديدها ووصفها هو مساعدة الدول في السيطرة على الوباء، من خلال الوصف الواقعي والدقيق للمرحلة التي يمر بها الوباء، عن طريق بيان الإصابات بفيروس المرض في الحيوانات والإنسان، ومدى انتشاره وشدته، الأمر الذي يساعد في وضع إجراءات السيطرة الوقائية والعلاجية.
ولا يتم في المرحلة الأولى الإبلاغ عن أيّ فيروسات قادرة على إحداث إصابات بين البشر من ضمن الفيروسات التي تنتقل بين الحيوانات.
وتُحدّد المرحلة الثانية عندما يتبيّن أنّ أحد فيروسات الإنفلونزا الحيوانية التي تنتقل بين الحيوانات الداجنة أو البرية، تتسبّب في وقوع إصابات بين البشر، وبات يشكّل بالتالي خطراً قد يؤدي إلى وقوع وباء عالمي.
وتُحدّد المرحلة الثالثة عندما يتبيّن أنّ أحد فيروسات الإنفلونزا معدلة التركيب من الحيوانية أو البشرية - الحيوانية تسبّب في حدوث حالات متفرّقة أو مجموعات صغيرة من الحالات المرضية بين الناس، دون أن تؤدي إلى انتقال العدوى بين البشر بشكل كاف لاستمرار الاوبئة على الصعيد المجتمعي. وقد يسري الفيروس بين البشر بشكل محدود في بعض الظروف المعيّنة منها، مثلاً، عندما تحدث مخالطة عن كثب بين شخص مصاب بالعدوى وأحد مقدمي خدمات الرعاية الذين لا يلتزمون مبادئ الوقاية الشخصية. بيد أنّ الانتقال المحدود في ظلّ ظروف محدّدة لا يدلّ على أنّ الفيروس اكتسب القدرة على الانتقال بين البشر بشكل يمكّنه من إحداث جائحة.
وتتسم المرحلة الرابعة بثبوت انتقال أحد الفيروسات معدلة التركيب من فيروسات الإنفلونزا الحيوانية أو البشرية - الحيوانية القادرة على «إحداث أوبئة على الصعيد المجتمعي» بين البشر. وتشير القدرة على إحداث أوبئة مستمرة على الصعيد المجتمعي إلى زيادة كبيرة في قدرة الفيروس على إحداث وباء عالمي. وينبغي لكل بلد يشتبه في وقوع حدث من هذا القبيل أو تأكّد من حدوثه استشارة منظمة الصحة العالمية بشكل عاجل، حتى يتسنى تقييم الوضع على نحو مشترك، واتخاذ قرار من قبل البلد المتضرّر إذا ما تعيّن الاضطلاع بعملية سريعة من أجل احتواء الجائحة. وتشير المرحلة 4 إلى زيادة كبيرة في مخاطر حدوث وباء عالمي، ولكنّها لا تعني بالضرورة أنّ الوباء العالمي سيحدث لامحالة.
وتمتاز المرحلة الخامسة للوباء بانتشار فيروس الإنفلونزا من شخص إلى شخص في دولتين على الأقل، في أحد أقاليم منظمة الصحة العالمية الستة: «الإفريقي، الأوربي، شرق المتوسط، الأمريكتين، جنوب شرق آسيا وغرب المحيط الهادي». وقد لا تكون معظم دول العالم متأثرة في هذه المرحلة فإن إعلان المرحلة الخامسة هو إشارة قوية إلى أن الوباء العالمي أصبح قريب الحدوث، وأن الوقت أصبح محدوداً لإنجاز التنظيم والتواصل وفي تطبيق إجراءات تخفيف وقع الوباء.
وتمتاز المرحلة السادسة، وهي مرحلة الوباء العالمي، بحدوث أوبئة على مستوى مجتمعات محلية في دولة واحدة أخرى على الأقل، في إقليم آخر من أقاليم منظمة الصحة العالمية، بالإضافة إلى المعايير المحددة في المرحلة الخامسة. وتعني تسمية المرحلة بهذه التسمية أن الوباء العالمي جاري الحدوث.
الوباء
هناك إجماع علمي عالمي على أننا أمام مرض تنفسي يصيب البشر، يسببه فيروس إنفلونزا من سلالة «ايه ايتش1إن1» ذو تركيبة مناعية جديدة، لم يتم رصدها مسبقاً في أية دوله من دول العالم «انظر الجزء الخاص بفيروسات الإنفلونزا». وتشبه أعراض المرض أعراض الإنفلونزا البشرية الموسمية المعتادة التي تشمل ارتفاعاً ملحوظاً في درجة الحرارة والسعال والأوجاع والتعب مع الشعور بالبرد. ويمكن أن يكون المرض من الشدة بحيث يؤدي إلى الوفاة. وكون التركيبية المناعية للفيروس جديدة تماماً بالنسبة للبشر، فإنه لا يوجد مناعة كافية ضد هذا الفيروس وكذلك فإن الطعومات المتوافرة حالياً غير فعالة للوقاية منه.
ينتشر مرض الإنفلونزا البشرية الموسمية المعتادة عن طريق انتقال الفيروس المسبب من شخص إلى آخر مباشرة عن طريق الرذاذ المصاحب للسعال والعطاس، أو بطريقة غير مباشرة عن طريق لمس أجسام أو أشياء كان عليها الفيروس ثم لمس الفم أو الأنف أو العينين. ويرجح أن تكون هذه هي طريقة انتقال العدوى في حالة المرض الحالي.
وكما هو الحال في الإنفلونزا البشرية الموسمية المعتادة فإن فيروس الإنفلونزا الحالية لا ينتقل عن طريق الغذاء بما في ذلك لحوم الخنازير ومنتجاتها، خاصة تلك المحضرة تحـت ظروف صحية والمطـبوخة جيداً «تم تعريض جميـع أجـزائها لحـرارة فوق 72 درجة سلسيوس». وقد بينت الفحوصات على الفيروس المسبب للوباء أنه من نوع «ايه اتش1ان1» وأنه ذو تركيبة مناعية، لم تكن معروفة قبل الوباء الحالي. ولوحظ كذلك أن معظم الحالات المؤكدة في هذا المرض كانت في أشخاص بالغين، وليست في صغار السن أو كباره «الفئات العمرية التي يكون وقع الإنفلونزا الموسمية المعتادة عليها شديداً».
تستعمل حالياً بعض الأدوية المضادة للفيروسات المخصصة لعلاج حالات الإنفلونزا وأشهرها الامانتادين والريمانتادين والاوسيلتاميفير والزاناميفير. ويلاحظ أن معظم فيروسات إنفلونزا الخنازير حساسة لكل الادوية الأربعة، إلا إنه وجد أن فيروسات إنفلونزا الوباء الحالي مقاومة لكل من الامانتادين والريمانتادين وحساسة للاوسيلتاميفير «المعروف تجارياً بالتاميفلو»، والذي يوصى باستعماله حالياً. وقد دفعت هذه الملاحظات إلى الاستنتاج أن العالم يواجه إنفلونزا يسببها نوع جديد لم يكن معروفا من قبل.
ومازالت بعض الأمور المهمة جداً حول الوباء الحالي غير معروفة تماماً والعمل جار على كشف ملابساتها، مثل:
- مصدر الفيروس المسبب للمرض وكيف تطور، والاعتقاد السائد أنه قد نشأ بداية في الخنازير في المكسيك.
- طريقة عمل الفيروس وكيفية انتقاله بين البشر.
- مدى خطورة المرض وكم هي الإصابات الخطيرة أو الطفيفة. وهنا تختلف الآراء، فبعض العلماء يعتقد أن المرض محدود الخطورة وأن آثاره لا تتعدى آثار الإنفلونزا الموسمية المعتادة، بينما يعتقد الآخرون عكس ذلك وسيكون الحكم على هذا الأمر للتطورات في الوباء فيما يتعلق بقوة الانتشار وأعداد الوفيات.
ومع ذلك فإن هناك بعض التفاؤل البسيط في هذا الوباء، لأن الإنسان ومنذ 1978 قد تعرض لفيروسات من سلالة اتش1إن1، ولذا فإنه يتوقع أن يكون لدى جسم الإنسان بعض المناعة ضد هذا الفيروس «خلافاً للفيروس اتش5إن1 الذي يسبب انفلونزا الطيور ».
فيروسات الإنفلونزا
هناك ثلاثة أجناس رئيسة من فيروسات الإنفلونزا تجمعها عائلة تدعى الاورثوميكسوميريدي، وهذه الأجناس هي فيروس الإنفلونزا إيه، وفيروس الإنفلونزا بي، وفيروس الإنفلونزا سي، والحمض النووي لهذه الفيروسات هو الرنا وهي جميعاً ذات أغلفة، وتسبب فيروسات الإنفلونزا إيه المرض في الإنسان والطيور والحيوان. ويتركب الجينوم في كل فيروس من فيروسات الإنفلونزا إيه من ثماني قطع من الرنا، وهذه الجينات الثمانية هي المسئوله عن تكوين10 أو 11 بروتيناً فيروسياً. ويتم تقسيم فيروسات الإنفلونزا إلى الأنواع إيه وبي وسي اعتماداً على خواص الجينات والبروتينات النووية والمادة إم1. ويبين الشكل 2 تركيب فيروس الانفلونزا وأجزائه المختلفة.
ويبرز من غلاف كل فيروس بروتينات جليجولية توجد في هيئتين، الأولى الهيمااجليوتينات ويبلغ عددها 500 تقريباً في كل فيروس، والثانية النيورامينيدازات، التي يصل عددها في كل فيروس إلى 100. ولهذه البروتينات الجليجولية خواص مناعية، وتتابع نيكوليدات مميز يستفاد منها في تصنيف فيروسات الإنفلونزا في مجاميع فرعية: 16 نوعاً «1-16» للهيمااجلوتينات، وتسعة أنواع «1-9» لنيورامينيدازات.
وتسمى فيروسات الإنفلونزا ايه وفق أنواع الهيمااجلوتينات «اتش» والنيورامينيدازات «ان» الموجودة، ويضاف للتسمية عادة اسم العائل « البشري،الطيور أو الخنازير». وعلى سبيل المثال فإن فيروس إنفلونزا الطيور الذي بعث قلقاً عالمياً على مدى السنين القليلة الماضية يدعي اتش5ان1، بينما تتبع فيروسات إنفلونزا الخنازير الانواع اتش1ان1 و اتش3ان2 و اتش1ان2. إلا ان معظم فيروسات الإنفلونزا التي تم عزلها من الخنازير أخيراً كانت فيروسات اتش1ان1، الذي تم أول عزل له في 1930 والذي يعتبر الفيروس التقليدي المسبب للإنفلونزا عند الخنازير. وكما هو الحال في كل فيروسات الإنفلونزا، فإن فيروسات إنفلونزا الخنازير تتغير باستمرار من حيث تركيبها الوراثي والمناعي، وبالتالي فإن قدرة هذه الفيروسات على إحداث المرض في الإنسان والحيوانات ومدى انتشاره وشدته هي كذلك في تغير مستمر.
إن وظيفة الهيمااجلوتينات هي لصق فيروس الإنفلونزا على الخلايا الحساسة في العائل, بينما تعمل النيورامينيدازات على إكمال دورة حياة الفيروس داخل الخلية حيث تساعد على انفصال الفيروس من داخل الخلية المصابة. وللهيمااجلوتينات والنيورامينيدازات قابلية تحفيز خلايا العائل لإنتاج اجسام مضادة للدفاع. إن تركيب بروتينات الهيمااجلوتينات والنيورامينيدازات في تغير مستمر، عن طريق حدوث طفرات في الجينات التي تضبط إنتاجها عند تكاثر الفيروس في خلايا العائل، أو عن طريق تغيير في الجينات يتم فيه تبادل بين فيروسات من أكثر من عائل «فيروس بشري وفيروس الطيور أو الخنازير». «انظر الشكل3» ويتيح هذا الأمر لفيروسات الإنفلونزا مجالات كبيرة في التنوع والبقاء. ونظراً للانواع الكثيرة لهذه البروتينات فإن إمكانات التوافيق فيما بينها كبيرة جداً.
ويتم بالآلية الثانية ظهور فيروسات إنفلونزا جديدة تماماً لم تكن معروفة من قبل. وخطورة مثل هذه الفيروسات إذا كانت قادرة على إصابة الإنسان، فإن مناعة الجسم ضدها تكون محدودة جداً، وذلك لعدم التعرض المسبق لها. وتعتبر الخنازير «بوتقة المزج»، فهذه الحيوانات يمكن أن تصاب بفيروسات إنفلونزا البشر وفيروسات إنفلونزا الطيور، بالإضافة إلى إصابتها بفيروسات الإنفلونزا الخاصة بها، حيث يمكن أن يحصل في أجسامها تبادل في الجينات بين فيروسات الإنفلونزا من عوائل مختلفة، خاصة تلك الجينات التي تضبط تركيب الهيمااجلوتينات.
ويفسر هذا الأمر الخطورة الكبيرة التي يمكن أن تنشأ من وضع الطيور والخنازير «وحيوانات أخرى» في تجمعات حميمة يكون الإنسان جزءا منها. ويرجح العلماء أن مثل هذا الوضع هو الذي أدى إلى ظهور فيروس الإنفلونزا الحالي، فقد بينت الفحوصات أن هذا الفيروس هو تركيبة فريدة من أربعة فيروسات، اثنين من الخنازير وواحد من الطيور وواحد من البشر.
يستنتج مما سبق ذكره أن الخنازير تلعب الدور الرئيس في ظهور الفيروسات الجديدة، إلا أنه لا دور لها في انتشارها بين أفراد العوائل الجديدة ومجتمعاتها التي تنتقل إليها مثل هذه الفيروسات، كما هو الحال في الوباء العالمي الحالي الذي ينتقل فيه الفيروس من شخص إلى آخر.
ويفسر هذا التوجه الحالي إلى تغيير مسمى الفيروس المسبب للوباء و/أو تغيير اسم الوباء بحيث لا يصار الاشارة إلى الخنازير، فمنذ 30 / 4 / 2009 أصبحت منظمة الصحة العالمية والجهات الدولية الأخرى تدعو الوباء بـ«إنفلونزا إيه اتش1 ان1».
مواجهة الوباء
تختلف الإجراءات التي تتبعها الدول في مواجهة الوباء وفقاً لوجود المرض ومدى انتشاره في كل دولة. ففي الدول التي سجلت فيها حالة مؤكده يكون التركيز على احتواء المرض ومنع انتشاره عن طريق عزل المصابين والمحيطين بهم ومعالجتهم وبقائهم تحت المراقبة حتى يتم التأكد انهم قد أصبحوا غير قادرين على عدوى أناس آخرين. ويتم كذلك متابعة حالات المرض ومدى انتشاره والتواصل مع الجمهور أولاً بأول حول الوباء وطرق الوقاية من الإصابة بالمرض ويعمل بالتوازي مع ذلك كله الدراسات والفحوصات وعلى الفيروس مسبب المرض للتعرف على تركيبه الدقيق وعلى ملابسات ظهوره والمصدر الرئيس له. يضاف إلى ذلك أن الدول المصابة بالفيروس الجديد، خاصة تلك التي تملك الإمكانات العلمية والمادية، تسعى إلى تطوير لقاح ليستعمل في الوقاية من المرض.
وفي الدول التي لم تسجل فيها حالات مرضية بفيروس الوباء العالمي الحالي «مثل كل الدول العربية» فإن الأولوية الرئيسة هي الحيلولة دون دخول الفيروس إليها ويتم ذلك عن طريق المراقبة الحثيثة للقادمين من الخارج، خاصة من الدول التي سجلت فيها حالات مؤكدة، وعزل المشكوك فيهم ومراقبة وضعهم. وكذلك النصح بعدم السفر إلى هذه الدول للحيلولة دون إمكان تعرض المواطنين للفيروس. ويشمل هذا الأمر كذلك متابعة الحالات المحلية التي تظهر فيها أعراض توحي بالإصابة بالإنفلونزا الجديدة ووضعها تحت المراقبة. وينبغي أن يعمل بالتوازي مع هذا الأمر على توفير الأدوات والمعدات اللازمة للفحص والأشخاص المدربين على ذلك. وكذلك إلى توفير كميات كافية من الادوية المضادة للفيروس المسبب للمرض لإستعمالها عند الحاجة. ويكمل هذا الموضوع التوعية الصحيحة للناس حول المرض وتبعاته وطرق انتشاره والوقاية منه والتعامل معه في حال حصوله، مع الاستعداد المتواصل لأن ما يواجههه العالم ليس آخر وباء بفيروس الإنفلونزا، «فدرهم وقاية خير من قنطار علاج».