مختارات من:

رصاصة واحدة تكفي..

محمد خالد القطمة

.. مع الفجر تعوّد أن يرى والدته تصلي, الغطاء الأبيض يلفها من رأسها إلى الوسط, وجهها الوردي يطل من فتحة الغطاء كما تطل البسملة من فمها. الله أكبر. ما أحلى هذا النداء, صلاة عيد الأضحى لاتزال تهزّه. والحمد لله كثيراً, كيف يمكن أن يكون ملحداً, مستحيل, الله أكبر فوق كيد المعتدي جعلته يحمل المسدس في الخمسينيات. ليس هذا لغزاً, إنه اختلاف. عندما كبر كان يعود إلى البيت مع الفجر, كانت أمه لاتزال تصلي. لايزال النداء يهزّه بعنف. أزعجه مواء قطة الجيران, تمنى لو يقطع لسانها, يريد أن يسمع صوت الدعاء فقط. اليوم كبر كثيراً ولايزال الدعاء ينفجر في أعماقه, بينه وبين ما يقرأ شقاق, بينه وبين المتحدثين افتراق إلا حين يكبرون. عندها تسكن نفسه وتهدأ روحه. لماذا لا تصلي? تذكر أن أباه مات بعد رحلة التوبة. وعندما أخذت شقيقته تحضر الدروس, مرضت ثم ماتت. إنه الخوف, لا بأس, تذكره الصلاة بالموت, في الكنيسة يتزوجون, يفرحون, يرشون العرسان بالأرز. لماذا لا يتزوج هو في الجامع, هل حرام أن يتم الزواج هناك? ليس في الحرم أو في الصحن. طيب, في قاعة خارجه تخصص للفرح. ربما عندها سوف يستذكر الدعاء مع بهجة الذكرى, دعك من التساؤلات. ربما اعتبروك خارجاً عن الدين, ربما وصفوك بالزندقة, كل شيء صار ممكناً, ليس من الضروري أن تحكم رأيك بالحوار.

الحكم جاهز عند القاضي ومساعده. أحياناً حتى حاجب المحكمة يغافل القاضي ويلبس رداءه. يكاد يدوخ من كثرة التفسيرات. يتصوّر أن الأمور أبسط من ذلك لكنه مخطئ, كل عقل يعرف الحق من الباطل. إذن لكل عقل حكم. ما أصعب أن تفهم, فكيف أن تحكم! لم يعد يعنيه أن يعرف. هناك جدار يتشقق في داخله. يخشى أن يسقط مع الجدار. فم الهوة دائماً واسع. يارب خذ بيدي. داخلته الطمأنينة لوهلة عندما ذكر اسم الرب. إذن لاتزال أمه هناك. لايزال غطاؤها الأبيض يغطي رأسها وقلبه. يكاد يسمعها من جديد. قلبه يدق بعنف. تصوّر أنها تخاطبه. صباح الخير يا بني. متى عدت? من زمان بعيد عاد. تذكر وقـوفه خـلف أبيه في جامع السلطان. لم يعد يحفظ من الكتاب كثيراً. قال الفاتحة تكفي اليوم. تذكر. لو أن كوهين حفظها لما شنقوه. ما الذي جاء بكوهين إليه. هناك مليون مثله. تختلف الأسماء وتتشابه السحن. إنه يعرف الكثيرين تباهوا بنسبهم معه. تغيّرت الدنيا. الحي أحسن من الميت, كذب, الأموات ظلوا أحسن حتى مات أحياء العرب, لاتجوز على الميت غير الرحمة, هكذا سمع أمه, سامحيني, ما عدت قادراً على الترحّم.

أصبحت بحاجة لمن يترحّم عليّ. أغلق الكتاب وعينيه ونام. هكذا أراد ولكنه سقط في الامتحان, مثله لا يأتيه النوم في الفجر, لا يأتيه في أي وقت يريده. نومه مثل موته لا يملك أمره, يحب أن يصحو على صوت جميل, صوت المؤذن البنغالي, ليس ما يشتهيه. أين هو من صوت محمد رفعت? يعود من السهرة في القاهرة مثقل العينين والبطن والساقين لكنه لا ينام. ينتظر صوت المؤذن, يحس أنه دافئ في قلبه. تبرّده صفحة النيل, يصفو أكثر ويطرب هو أكثر, في القاهرة ينام, ادخلوها بسلام آمنين, ولكن السلام لم يأت بالأمان. الحرب أرحم. كثيرون ماتوا من الحرب. هو يموت من السلام, يموت لأن السلام يهزمه. ألم تفعل الحرب ذلك? لكن الحرب قتال. يا قاتل يا مقتول. الله أكبر تصحو الصرخة المقدّسة في قلبه. يمسك بمسدسه القديم. دون رغبة منه تنطلق رصاصة واحدة.

محمد خالد القطمة مجلة العربي مايو 2001

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016