تقع الكاتبة العربية في وضع صعب وسط قيود المجتمع ومتطلبات الإبداع، فهي باختصار النصف سيئ الحظ.
في البداية فإن أميّة النساء تتـراوح بين 80 و98% بحسب تطور التعليم في الأقطار العربية. أي أن النساء اللواتي يتابعن التعليم إلى الشهادة الثانوية لا يصلن إلى درجة 5% على وجه الإجمال - وقد اعتبرنا التحصيل الثانوي مقياساً لأنه الأساس الذي تبنى عليه في المستقبل كل ثقافة أخرى، سواء أكانت ذاتية أو جامعية. بالاختصار، اللواتي يحترفن الكتابة، على أنواعها، في الصحف وأجهزة الإعلام ثم يبرعن في الكتابة الأدبية لا يتجاوزن نسبة 1/ 000،100 أي عشرة في المليون. فمن 150 مليون امرأة عربية قد يكون لدينا ألف وخمسمائة أديبة ذوات نتاج يلبي شروط النقد، واعتبار النص أدباً.
فما الشروط الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية والنفسية التي يتم من خلالها إنتاج الأدب النسائي العربي، من جهة قدرة المرأة على التعبير عن عالمها المعيش أو المتخيّل، واستعداد المجتمع لقبول شخصية المرأة الكاتبة وتقبل أدبها والاعتراف به، ثم من جهة توفير وسائل العيش والأمان والراحة اللازمة للمرأة كي تتثقف وتفكر فتبحث وتبدع.
ما الامتيازات والضمانات التي يقدّمها المجتمع العربي للمرأة المثقفة وللكاتبة المبدعة وما العوائق التي يضعها في طريقها? وهل ثمة عوائق جديدة تضاف إلى العوائق القديمة? لقد دخلت المرأة العربية معترك العمل بعد معترك الثقافة، فهل حرّرها العمل من القيود الـقديمة على الكتـابة أم أنه أضـاف مـوانع جـديدة تجعـل أمر الكتـابة عند المـرأة أشق وأعسر؟
الأدب النسائي قديماً
من الناحية التاريخية، يفترض أن المجتمع العربي يألف موضوع الأدب النسائي والنساء الكاتبات. فقد كان فيه شاعرات منذ الجاهلية إلى أواسط العصر العباسي من فارس إلى الأندلس، ومع ذلك لم يصلنا من أدب النساء إلا النزر اليسير لعدم اهتمام الرواة بروايته وتدوينه، ثم إن معظم ما دُوّن قد ضاع، مما يدل على انصراف المجتمع عن الاهتمام بالأدب النسائي وتدوينه وتداوله عبر الأجيال. فمثلاً لدينا خبر عن كتاب( أشعار النساء) في سبعة أجزاء لم يصلنا منه سوى نصف الجزء الأول. وهذا يدل على وجود إرادة لتغييب أدب المرأة من مجال الإبداع الأدبي، وفرضية التغييب هذه تساعدنا على فهم ظاهرة اختفاء أدب المرأة بعيد القرن الرابع الهجري - أي إبان ظهور شخصية شهرزاد في الأدب الشعبي. إن شخصية شهرزاد الأسطورية هي رمز لاستمرار الإبداع عند المرأة العربية، لكنه إبداع لا يحظى باعتراف الأوساط الثقافية، أي أن المرأة ظلت تكتب وتبدع، فلم تغب عن الكتابة، لكن الذي غاب هو الاعتراف بهذا النوع من الأدب وتداوله ينتقل من جيل إلى جيل. الدليل على استمرار وجود كاتبات أن كتب التراجم حفظت لنا أسماء نساء زاهدات أو راويات للحديث. فإن لم تنقل لنا أسماء شاعرات وأديبات، فهذا يعني أنه تغييب مقصود يعكس رفض الأوساط الثقافية أن تضم النساء إلى صفوفها. وظهر هذا جليّاً في غياب النقد الذي يصنّف الأدب النسائي على أنه جزء من التيار الأدبي. إن أدب المرأة موجود، ولكن علينا أن نعمل على اكتشافه ولو من خلال ما وصل إلينا تشكيكا في نسبته. فحين تظهر مقطوعة جيدة يتلوها تساؤل إن كانت تلك المرأة هي التي كتبتها فعلاً أم نحلت لها أو انتحلتها.
الكتابة وسلطة الأهل
من خلال المقابلات مع الأديبات في أجهزة الإعلام، ما أظن مناهج القمع قد تغيّرت كثيراً عبر العصور. فمن المعلوم أن طفرة المراهقة وبُعيدئذ تتفجّر من خلالها موهبة التعبير عن المشاعر.
ومنذ ذلك الوقت المبكر، تبدأ سلطة الأهل بالمعارضة على أساس أن قراءة الأدب أو كتابته ضرب من العبث وضياع الوقت أو مفسدة للأخلاق. وتكون الطامة الكبرى إذا حاولت البنت أن تنشر، فهنا يشهر الأب العصا الغليظة لأنه مسئول عن (سمعة) العائلة، كما أن الأم تخاف أيضاً على سمعة ابنتها إن كتبت مقطعات عاطفية تردد غالباً مخزونها اللاشعوري مما قرأت وحفظت ووعت - دون أن يكون لما يكتبه المراهق رصيد من تجربة شخصية أو علاقة بأي واقع.
يستمر الحال بالبنت الموهوبة بين منع ومقاومة أو قمع ، وتردد بين استسلام وتمرّد حتى يأتي الخاطب ثم الزوج، فهنا تجد المساومة التاريخية مجالها الأرحب: إما الكتابة وإما الزواج، وبعد سنوات من الزواج: إما الكتابة وإما البيت والأولاد. فإذا دُفعت الأمور باتجاه هذا المأزق، فما من امرأة تفرّط بأولادها وبيتها. وهذا يفسّر اختفاء أسماء كثيرات من زميلاتها الجامعيات اللواتي كنّ يبشّرن بموهبة معطاء ثم طواهن النسيان.
وقد حدّثني بعض مَن التقيتهن صدفة بعد سنوات أو مَن ظلت بيني وبينهن صلة بدواعي عمل أو قرابة، أن الرسيس القديم مازال يدفعهن إلى الكتابة في الحين بعد الحين، فيكتبن مذكرات أو مقطوعات أو تعليقات، لكنهن جميعاً رفضن فكرة النشر بدعوى أن الأوان قد فات، وأن كتابتهن (موضة قديمة) أو أنها تخص حياتهن ولا علاقة لها بالشأن العام.
وإذن، فحين توضع المرأة أمام الخيار الصعب بين أدبها أو بيتها وأولادها، فإنها لا تفرّط بأسرتها على الإطلاق. لأن طبيعة المرأة كأمومة وأسرة تندمج في هذا المجتمع الصغير، خاصة أن هموم البيت ومسئولية الأولاد لا تترك لها وقت فراغ كي تفكّر في إبداعها الخاص. ثم إن إبداعها الذي تكتبه لنفسها لا يرتقي ولا يتطور، لأن المرأة - في هذا الوضع - تعيش معزولة عن التيارات الفكرية والتاريخية الكبرى التي تفعل فعلها في المجتمع وتجعل من الأفكار قوة مادية تحرّك الجماهير، فيما تغرق المرأة في عالمها الصغير بعيدة عن نبض الحس.
البيت أو الكتابة
السؤال الذي لابد من الإجابة عنه هو:
- لماذا يمنع الرجل المرأة من الكتابة? ولماذا يخيّرها بين البيت والكتابة كأنهما ضدّان لا يجتمعان?
وماذا في الكتابة من شيء يخيف الرجل - الأب - الزوج? أبرز الأجوبة التي سمعتها تعمّقاً، وإن لم يكن أكثرها صحة قدمته لي أديبة سورية مخضرمة ضحّت بالكثير في سبيل استمرار حياتها الأدبية. قالت:
- (لماذا يمنع السيد عبده من التعلم ثم الكتابة والإبداع?
لماذا غُيّب أدب الزنوج? لأن الإبداع يعني استقلال الشخصية. عندما يبدع إنسان، فقد استقل عنك. لأنه كوّن لنفسه شخصية وآراء وطريقة في التعبير خاصة به، ولا علاقة لك بها، كذلك المرأة المبدعة، إذا استقلت عنك فقدت سيطرتك عليها، وحين تفقد السيطرة على المرأة، لا يعود باستطاعتك تسخيرها ولا استغلالها. إن المرأة تعيش منظومة خدماتية للرجل مستمرة منذ عصور سحيقة. وإذا كان ثمة إنسان يعيش كل حياته ليخدمني، فعليه أن يتقيّد بأوامري في شئونه الإنسانية والمعرفية. وإذا كانت امرأتي في موقع خدمتي الدائمة، فعليّ أن أحدّ من كل تطلعاتها، لكي تبقى حبيسة في إطار خدمتي).
هذا التحليل المتعمّق يلحظ أمثولة هيجل في جدل السيد والعبد. فالسيد يقهر العبدبقوته ويجبره على خدمته، لكن العبدمن خلال العمل يتفوّق في إنسانيته وعقله على سيده ويتحرر منه. وتحليل السيدة الكاتبة يلاحظ عملية واقعية في وضع المرأة: فالمطبخ وشغل البيت وتربية الأولاد - أي المهام البيولوجية للمرأة والتي تسند إليها عملاً غير مثمن وبلا أجر - تستهلك كامل طاقاتها، ويستغل إمكاناتها الجسمية والفكرية، خاصة إذا أضفت إليه الوظيفة، وهي القيد الجديد للمرأة المدينية، بحيث تكون موظفة في النهار وربة منزل في المساء وزوجة وسيدة مجتمع في الليل!
الشمال واليمين
الحقيقة أن المرأة لكي تأخذ مساحتها الإبداعية وتستطيع أن تحقق إمكاناتها وتفرغ الشحنات الموجودة لديها، فهي بحاجة إلى وقت وإلى راحة وإلى آلية عمل تمكّنها من تحقيق ذاتها. إن الحضارة الحديثة لم تحل مشكلة المرأة العاملة لا في الشرق ولا في الغرب، فبالجمع بين الوظيفة وشغل البيت أصبحت المرأة أكثر تعباً وشقاء.
وقد كتبت الباحثة السورية الدكتورة بثينة شعبان عن المرأة العربية دراسة بالإنجليزية تحت عنوان: ( اليمين والشمال)، قالت فيها إن المرأة العربية بدل أن تعمل بيمينها فقط، أصبحت تعمل بيمينها وشمالها، أي في البيت وخارج البيت، كما كتبت باحثة أمريكية في الموضوع نفسه كتاباً بعنوان (The second period) - الوردية الثانية - وكأن للمرأة دورتين تعمل فيهما، دورية للوظيفة ودورية للبيت، فهي تعمل بالمناوبة.
فالنساء متمزّقات بين العمل اليومي المزدوج والإبداع. غير أن للإبداع شروطاً لابد من توافرها. فثمة شروط فردية كالموهبة والثقافة والتربية الملائمة، غير أن هناك شروطاً أساسية للمجتمع أيضاً، كأن يبلغ مرحلة من الوعي والتقدم يسمح فيها بالإبداع ويعطي للمبدع حق التعبير والمبادرة والاتصال بثقافات أخرى وتقبل أشكال فنية وآراء غير تقليدية. وبالنسبة للمرأة، على المجتمع أن يعترف أولاً بفرديتها ثم بكتابتها بحيث يتعامل النقاد مع الأدب النسائي بجديّة ودون مجاملة. ويجهدون بإدراجه في التراث الأدبي العربي والعالمي.
للمرأة فقط
وقد ذكرت لي الكاتبة ليلى العثمان أنها شاهدت في المكتبات الألمانية أقساماً مخصصة لعرض الكتب النسائية فقط، وعلّقت بأن (هذا لم يتم إلا بعد الاعتراف بوجود أدب نسائي وقضية للمرأة داخل المجتمع).
ولكن قد سبق ذلك حركات تحرّر متعددة ومتنوعة سعت إلى تحرر المرأة - ولا أقول تحريرها. فالتحرر يأتي من الذات، بينما التحرير يأتي من الخارج. وهذا الاستعداد للتحرر تشترك فيه العادات والتقاليد والتراث، فكلها جهدت على صياغة شخصية حضارية مستقلة، ثم يضاف إلى ذلك ما يكتسب من الثقافة الحديثة وتجارب المجتمعات التي كفلت للمرأة حق الإبداع وحريته.