في إطار علاقتنا الاجتماعية، كنا أصدقاء لأسرة تكونت من أب وأم وابنين وابنتين، استمرت هذه العلاقة لسنوات طويلة، كنا نعلم على وجه التقريب أنها أسرة ميسورة الحال، ربما ألممنا في أحيان أنها تمتلك إمكانات أكثر من تلك التي تمتلكها أسرتنا، ولأن هذه الأمور المالية لا تدخل كثيرا في حساباتنا الاجتماعية فلم نسع إلي معرفة حقيقة أوضاعها المالية، ثم حدث أن رحل الوالد تاركا بعد الأم والأولاد الأربعة، وبعد رحيله عرفنا أن المشاكل والخلافات بدأت تدب بين أفراد الأسرة وخاصة بين الأبناء بعضهم البعض، وبعد وقت قصير عرفنا أن الخلافات وقعت بسبب تقسيم الثروة التي اكتشفنا أنها طائلة.
بعد أن تم تقسيم الثروة بخلافاتها، تغير وضع الأسرة، فلم تعد تلك التي عرفناها، تغيرت أوضاع الأبناء والبنات، فلم يعودوا هؤلاء الذين عرفناهم، بدأوا يتخلفون في دراستهم الجامعية كما بدأوا يسرفون في إنفاق الثروة الموروثة بلا أدنى إحساس بالمسئولية.
بعد سنوات من التخلف الدراسي والإسراف الشديد في الإنفاق لم تعد هناك أسرة ولا ثروة، بل أصبحت بقايا أسرة وبقايا ثروة. سألنا جميعا عما حدث، وصلتنا بعض الحقائق.
علمنا أن هذه الأسرة التي عرفناها وتعاملنا معها كانت على درجة كبيرة. من الثراء، كان الأب شديد الثراء، امتلك ثروة طائلة ذات تراكمات ضخمة، وكان بطبيعته ممسكا مقترا، فتعامل مع أسرته دون أن يعكس عليها أي درجة من درجات ثرائه، كفل لها الأساسيات التي تكفل لأي أسرة متواضعة، وعندما رحل وامتلكت الأسرة الثروة بدأت تتصرف بشكل مفاجئ مع الحيثية الجديدة التي اكتشفتها، فحدث الخلل وسوء التوافق.
تغير نسقها القيمي فحدث التخلف الدراسي والإسراف المفرط.
من تطور أوضاع هذه الأسرة طرحنا عددا من الأسئلة.
في حالات الثراء الشديد، كيف يتصرف الأب أو الأم مع أي الأبناء والبنات؟ هل يمسكان ويقتران ولا يوفران إلا الأساسيات؟ أم يسرفان في العطاء ويوفران كل شيء بلا حساب وبلا ضوابط؟ أم أنه لا بد من وجود توازن عام بين ما يملك الأبوان وبين ما ينفقانه؟ وما الذي يحدد هذا التوازن؟
لا شك أن في أي مجتمع توجد المستويات المختلفة من الدخول والثروات، يضم كل مجتمع من يملك الكثير كما يضم من يملك القليل، كذلك يوجد في المجتمع من يملك ذلك القدر الذي نعرفه بالقدر الوسط بين الثراء والحاجة، تتجسد هذه المستويات من أفراد ومن أسر، في كل مكان توجد الأسر الغنية والثانية المتوسطة والثالثة الفقيرة، وفي كل الحالات يعبر الأبناء والبنات عن احتياجاتهم الأساسية، ثم تلك الأخرى التي تعتبرها أحيانا كمالية وفي أحيان أخرى متاحة أو يمكن إتاحتها.
في حالات الأسر المتوسطة والأخرى المحدودة الدخل أو الفقيرة لا يعيش الأبناء والبنات في تناقض حاد مع أوضاعهم، يصبح توفير الأساسيات لهم من الأمور الطبيعية والمتوقعة، وقد لا يطرحون على الإطلاق أي أفكار خارجة عن الإمكانات، وقد لا يفكرون على الإطلاق في شراء سيارة أو الانتقال إلى منزل كبير فسيح أو قضاء الإجازة السنوية في مصيف مكلف، لا شك أن طلباتهم عادة ما تدور في إطار الإمكانات المتاحة، قد تزيد بعض الشيء أو تقل البعض الآخر، ولكنها لن تتجاوز الظروف العامة بمسافات، وهي في حال غياب العائل أو رحيله فإن الصدمة لا تقع ولا تحدث، فالأسرة لا ترث إلا المشاكل العادية التي تظهر وتنشأ من تراجع الدخل وغياب العائل، أما المشاكل الناتجة عن انتقال الأوضاع من نقيض إلى نقيض فإنها لا توجد لعدم وجود هذين النقيضين ولأن الأمور كلها تسير في حدود الوسط.
وكم من مرات سمعنا عن أسر محدودة الدخل استطاعت تجاوز المشاكل الناتجة عن غياب العائل، من خلال اللجوء إلى تماسكها الأسري وحفاظها على الترابط وتدبير أمورها المالية بحـيث احتفظت بمسيرة أبنائها وبناتها حتى كبروا وأكملوا تعليمهم وأصبحوا مواطنين أشداء شهد لهم الجميع ويحترمهم الكل على ما أنجزوه من تفوق بجدهم وتحملهم للمصاعب، وكم من مشاهير الفنانين والكتاب والعلماء والسياسيين، تسجل قصص حياتهم صورا من كفاح الأبناء والبنات ونضالهم اليومي بعد رحيل العائل ولجوئهـم إلى الاعتماد على الدخل البسيط وعلى الذات في أحيان كثيرة. المشكلة التي نطرحها اليوم هي تلك المرتبطة بالأسرة التي تمتلك إمكانات مالية كبيرة، كيف تتصرف مع أبنائها وبناتها؟
تشير الحقائق الموضوعية في مجتمعاتنا إلى وجود أسر عربية تملك إمكانات مالية كبيرة، هذه حقيقة لا يمكن تجاهلها، وفي إطار هذه الحقيقة نطرح ثلاثة تصورات للتصرف الأسري تجاه الأبناء والبنات.
التصور الأول:
يطابق هذا التصور التصرف الذي تمسك به صديقنا عائل الأسرة الصديقة التي أوردنا قصتها في بداية المقال، لقد أمسك وقترّ على أبنائه في حياته، احتفظ لنفسه بالحقائق الخاصة بثروته، لم يظهرها لأبنائه وبناته وتعامل معهم كأنها غير موجودة، قدم لهم الأساسيات، لم يعيشوا ولم يشعروا بالتناقض في حياته، لأنهم لم يكونوا على علم بالحقائق، لذلك قبلوا الوضع.
بدأت المشاكل بعد رحيله واكتشافهم الحقائق التي بدت جديدة، اكتشفوا أنهم كانوا مخدوعين، فانقلبوا على مسلك الوالد، وتعاملوا مع الإرث على أنه نتيجة خديعة، لم يقدروا قيمة المال ولا قيمة الجهد المبذول، فانقلبوا مرة أخرى على الثروة ذاتها، فأصبحت شيئا قابلا للاستهلاك والإنفاق والتبذير، خاصة وأنهم كانوا صغارا لا يقدرون الظروف ولا يضعون حسابا للمستقبل.
فكان تصرفهم كما أوردنا.
ومع الأسف الشديد لم يعودوا يتذكرون من سيرة الوالد إلا هذه الحقيقة التعسة، وهي أنه حرمهم متعة الحياة في حياته، فلماذا يحرمون أنفسهم منها بعد رحيله!
التصور الثاني:
يقف التصور الثاني على نقيض التصور الأول، وهو تصور واقع في صفوف عديد من الأسر العربية، والذي لجأ فيه الأبوان إلى تلبية احتياجات وكماليات الأبناء والبنات بلا حساب وبلا حدود، كذلك بلا مراعاة أو تقدير للظروف العامة المحيطة، بحيث يشعر الأبناء والبنات بدرجة عالية من التمايز وسط زملائهم وأقرانهم في المدرسة والجامعة والنادي والأسرة والعمل، في أحيان يُحدث هذا المسلك خللا عاما في حياة ومستقبل الأبناء والبنات، فلماذا يجتهدون في حياتهم الدراسية والعلمية ما دامـوا قد امتلكوا المال وحصلوا على كل ما يحتاجون إليه بسهولة ويسر؟ امتلكوا ما يحتاجون وامتلكوا ما يفيض.. فلماذا ينخرطون في حياة وطنهم ومجتمعهم، لماذا يدخلون في صفوف النشطاء اقتصاديا.. لماذا يتحولون إلى منتجين؟
ألا نجد عديدا من هذه النماذج في مجتمعاتنا؟ ألا توجد هذه النماذج من الأبناء والبنات في محيط المجتمع العربي؟ في كثير من الأحيان نجد الشباب من إناث وذكور يتصرفون على أن آباءهم وأمهاتهم يملكون الكثير، لذلك يعيش كل منهم وكأنه صاحب الثروة ومالكها، ويتحول الشباب إلى مجرد عناصر استهلاكية لا تقدر قيمة المال ولا تقدر دوره في بناء الوطن.
التصور الثالث:
ثم يأتي التصور الثالث كتصور وسط بين التصورين السابقين، وهو ليس بالتصور التوفيقي بين شقين من القيم الأسرية، وإنما لأنه يحمل في مضمونه التوازن المطلوب في التعامل مع الأبناء والبنات.
فالهدف الأساسي من رعاية وتربية الأبناء والبنات هو تقديم مواطنين أشداء لأوطاننا ولمجتمعنا العربي الذي يحتاج بالفعل لهؤلاء المواطنين، في هذه الحالة وفي ضوء الهدف الأسمى لنا لا بد وأن نراعي التوازن الاجتماعي العام والتوازن التربوي الخاص. لا يمكن إلغاء حقيقة وجود ثروات في مجتمعاتنا، ولكننا لا بد أن نربي أولادنا - إناثا وذكورا- على أن هذه الثروة أداة للتطوير والتقدم وليس مادة للاستهلاك والإنفاق فحسب، بهذا المفهوم نقدم لأبنائنا ما يريدون من احتياجات أساسية ومن كماليات يمكن توفيرها في حدود عدم خلق درجات عالية من التمايز تفرق بينهم وبين أقرانهم، كذلك في حدود الإبقاء عليهم قادرين على التكوين والبناء الذاتي وفي حدود دفعهم إلى أن يصبحوا هم بذاتهم في المستقبل قادرين على العمل والكسب من جهدهم وبمجهودهم.
لا نقتر أو نمسك عليهم بحيث يقولون إننا نبخـل عليهم.. في ذات الوقت لا نغدق عليهم بلا حساب بحيث يقال عنا إننا سفهاء في الإنفاق ومشجعون على الإفساد، ولا مانع من أن نقول لأبنائنا وبناتنا إننا نملك توفير كل ما يحتاجون إليه وكل ما سيحتاجون في المستقبل، ولكننا نفضل أن نقدم ما هو ملائم لأعمارهم ولأوضاعهم التعليمية أو ما هو متناسب مع المحيط العام الذي نعيشه في هذه الأوطان العربية، بل يجب أن نؤكد لهم " باستمرار أننا نريدهم منتجين ولا نريدهم مجرد مستهلكين لمال لم يقدموا في مقابله أي جهد.
وفي كل الأحوال لابد من مراعاة بعض القواعد العامة في التعامل الأسرة الثرية مع أبنائها وبناتها:
- لا بد للأبناء والبنات من معرفة الحقيقة كاملة، لا تدعي الأسر الحاجة إذا كانت تملك ثروة، ولا تدعي الثراء إذا كانت تشعر بالحاجة، فالحقيقة الموضوعية أفضل عناصر العلاقة التي تربط الأبوين بالأبناء.
- لا بد في حالة وجود ثروة من أن نعلم الأبناء والبنات روح التضامن مع الآخرين ونبث فيهم الشعور بالمشاركة والتعاطف مع من هم دون الآخرين في الدخل والملكية، علينا أن نعلمهم أن كل الناس أبناء وطن واحد، ولكن شاءت الأقدار أن يضم الوطن شرائح وطبقات مختلفة.
- إن سعادة الأبوين في تقديم طيبات الحياة لأبنائهما وبناتهما في حياتهما، فالاستمتاع الجماعي لأسرة يربط بينها ويزيد من تضامنها ويقرب بين الإخوة والأخوات ويبعد مشاكل تقسيم الثروة بعد رحيل أصحابها.
في كل الأحوال، لا بد من تعليم الأبناء والبنات أنا الذي يشرف الإنسان هو الجهد الذي يبذله في بناء ذاته المهنية والاجتماعية، يعرف الإنسان أولا بمن هو وبما ينجزه وبعد ذلك يعرف بما يملك من مال.