مختارات من:

فصل من رواية «حيوان القلب» لـ هيرتا مولر

سمير جريس

«إذا صمتنا نَفَرَ الآخرون منا، وإذا تكلمنا ضحكوا علينا.» بهذه الكلمات تبدأ رواية «حيوان القلب» وتنتهي. وطيلة الرواية يشعر القارئ بالصمت ثقيل الوطأة الذي يستبدل الكلام والمصارحة والبوح. أما عندما يتكلم أبطال الرواية فإنهم لا يثيرون الضحك أبداً.

نشرت هرتا مولر هذه الرواية عام 1994 بعد حوالي سبعة أعوام من استقرارها في برلين، ومع ذلك كان كابوس القمع والقهر الذي عاشته في رومانيا، ما زال يطاردها ويلح عليها لتكتبه بلغة شعرية مكثفة مفعمة بالصور البلاغية، وخالية من الثرثرة العاطفية. تصف هرتا مولر في هذه الرواية حقبة الثمانينيات كما عاشتها في رومانيا، حيث كان النظام هناك، مثل أي نظام شمولي، ينظر إلى مواطنيه نظرة ريبة وشك. المواطن - لا سيما المعارض المنتقد هو عدو لابد من مراقبته ليلاً ونهاراً.

مثل بطلة الرواية كانت هرتا مولر تعمل مترجمة في أحد المصانع الرومانية، تكتب في أوقات فراغها قصائد وقصصاً قصيرة، وتتناقش مع أصدقائها الكتّاب في شئون البلد التي يحكمها ديكتاتور مريض. تُعتقل بطلة الرواية ويتم التحقيق معها، ثم يُفرج عنها، ولكن تتواصل الرقابة عليها. اثنان من أصدقائها ينتحران، أو يُقتلان، لا أحد يدري على وجه الدقة، وتتمكن هي وصديق آخر من الهرب إلى ألمانيا. ولكن يبقى الخوف رفيقها الدائم.

وتعتبر رواية «حيوان القلب» من أشهر أعمال هرتا مولر، وقد ترجمت إلى لغات عدة، وحازت جائزة دبلين الأدبية (إمباك) التي تعد من الناحية المادية أرفع الجوائز الأدبية عالمياً التي تُمنح لعمل مفرد. هنا ترجمة لبعض مقاطع الرواية التي تتجلى فيها السمات الأسلوبية للكاتبة التي قالت عنها لجنة نوبل إنها «استطاعت عبر التكثيف في الشعر والموضوعية في النثر أن تصور مناطقَ الحرمان من الوطن».

إذا صمتنا نَفَرَ الآخرون منا، وإذا تكلمنا ضحكوا علينا. كنا نجلس على الأرض أمام الصور منذ فترة طويلة، فأحسست بتنميل في قدميّ من طول الجلوس.

بالكلمات التي نمضغها في الفم ندهس أشياء عديدة، مثلما تدهس أقدامنا الحشائش. الصمت أيضاً ثقيل الوطأة.

صمتَ إدغار. لا أستطيع أن أتخيل اليوم قبراً. ما زلت لا أستطيع أن أتخيل اليوم قبراً. لا أستطيع إلا أن أتخيل حزاماً ونافذة وحبة جوز وحبلاً. كل موت يشبه - في رأيي - الكيس. إذا سمع أحدهم ذلك، قال إدغار، سيعتبرك مجنونة.

وعندما أقول ذلك فإنني أتخيل أن كل ميت يترك وارءه كيساً تتكدس فيه الكلمات. أفكر عندئذ دائماً في الحلاّق ومقص الأظافر، لأن الموتى لا يعودون يحتاجون إليه. وأفكر في أن الموتى لا يفقدون زراً أبداً.

ربما يشعرون على نحو مخالف لنا بأن الديكتاتور ما هو إلا خطأ، قال إدغار.

هم يملكون الدليل لأننا كنا مخطئين في حق أنفسنا. لأننا مجبرون في هذا البلد على أن نمشي ونأكل وننام ونحب إنساناً في خوف، إلى أن نحتاج إلى الحلاق ومقص الأظافر من جديد.

إذا قام إنسان بتهيئة المدافن فقط لأنه يمشي ويأكل وينام ويحب إنسانا، قال إدغار، فهو خطأ أعظم منا. خطأ بالنسبة للجميع، خطأ سائد هو.

في الرأس تنمو الحشائش، وعندما نتكلم تُحَش. غير أنها تُحش أيضاً عندما نصمت. ثم تنمو مرة ثانية وثالثة، كما يحلو لها. رغم ذلك، نحن محظوظون.

لم نكن نريد أن نهجر البلد. لم نكن نريد أن نركب سفينة على نهر الدانوب أو طائرة أو قطار بضائع. ذهبنا إلى الحديقة الشعثاء. قال إدغار: لو ذهب الشخص الصحيح، لكان بمقدور الجميع أن يبقوا في البلد. هو نفسه لم يصدق ذلك. لا أحد يصدق أن على الشخص الصحيح أن يذهب. في كل يوم كنا نسمع شائعات عن أمراض الديكتاتور، قديمها وحديثها. ولكن لم يكن أحد يصدقها كذلك. رغم ذلك كان كل شخص يهمس في أذن التالي. نحن أيضاً تناقلنا الشائعات، وكأنها تحتوي على فيروس الموت الزاحف الذي سيصل في النهاية حتماً إلى الديكتاتور: سرطان الرئة، سرطان الحلق، هكذا كنا نهمس، سرطان الأمعاء، ضمور المخ، شلل، سرطان الدم. كان عليه أن يسافر مرة أخرى، يهمس الناس: فرنسا أو الصين، بلجيكا أو إنجلترا أو كوريا، ليبيا أو سوريا، ألمانيا أو كوبا. كان الهمس يرافق كل رحلة من رحلاته، ومعه الأمنية بأن يتمكن المرء نفسه من الهرب. كل هروب هو عرض مقدم إلى الموت. ولهذا كان للهمس ذلك العنفوان. نصف محاولات الهروب كانت تنتهي بالفشل أمام الكلاب ورصاص الحراس.

الماء الجاري وقطارات البضائع السائرة، والحقول المقفرة كانت كلها مناطق موت. في حقل الذرة عثر الفلاحون أثناء الحصاد على جثث يابسة مقوسة، وأخرى قد انفجرت أحشاؤها التي التقطتها كلها الغربان. كسّر الفلاحون عيدان الذرة تاركين الجثث مكانها. كان من الأفضل ألا يروها. قرب نهاية الخريف راحت الجرارات تحرث الأرض. الخوف من الهرب جعل من كل رحلة يقوم بها الديكتاتور رحلة طارئة إلى الطبيب: هواء الشرق الأقصى لعلاج سرطان الرئة، الجذور البرية لعلاج سرطان الأمعاء، الإبر الصينية لعلاج ضمور المخ، منتجعات لعلاج الشلل. لعلاج مرض واحد فحسب، هكذا يقولون، لم يكن بحاجة إلى السفر: لعلاج سرطان الدم كان يحصل محلياً على دم الأطفال في مستشفيات الولادة حيث يسحبون الدماء من جبين المولودين حديثاً بواسطة إبر يابانية ماصة.

تتشابه الشائعات التي تسري حول أمراض الديكتاتور مع الرسائل التي كانت تصل إدغار وكورت وغيورغ وتصلني من أمهاتنا. الهمس كان يحذرنا ويدعونا إلى التريث في الهرب. كل واحد كانت وجنتاه تحمر من بهجة التشفي، دون أن يحدث ما يستدعي التشفي. كانت جثة الديكتاتور تتسلل عبر جبين كل منا كما تتسلل حياتنا المتعفنة. الجميع كان يصبو إلى أن تمتد حياته بعد موت الديكتاتور. كنتُ ممدة تحت الغطاء أبحلق في الملاءات الكتانية البيضاء فوق الأسرة. كيف ينبغي على الإنسان أن يعيش، قلت لنفسي، حتى يتناسب مع ما يفكر فيه لتوه. كيف تفعل ذلك الأشياء الملقاة في الشارع دون أن تلفت انتباه أحد عند المرور عليها، بالرغم من أن شخصاً ما فقدها.

حكيت لتريزا عن التحقيقات. شرعت في الكلام من دون سبب، وكأنني أتحدث مع نفسي بصوت عال. بأصبعين تشبثت تريزا بسلسلتها الذهبية. لم تصدر عنها أية حركة حتى لا تمحو الدقة المظلمة.

1 جاكيت، 1 بلوزة، 1 سروال، 1 جوارب، 1 سروال تحتاني، 1 زوج أحذية، 1 زوج حلقان، 1 ساعة. كنت كما ولدتني أمي، قلت.

1 دفتر عناوين، 1 زهرة زيزفون مجففة، 1 زهرة برسيم مجففة، 1 قلم جاف، 1 منديل، 1 فرشاة جفون، 1 قلم أحمر شفاه، 1 علبة بودرة، 1 مشط، 4 مفاتيح، 2 طابع بريد، 5 تذاكر للترام.

1 شنطة يد. كان كل شيء مسجلاً في خانات على صفحة واحدة. أما اسمي أنا فلم يسجله النقيب بيله. سيحبسني. لن يكون مكتوباً على أي قائمة أنه عند مجيئي إلى هنا كان عندي: 1 جبين، 2 عين، 2 أذن، 1 أنف، 2 شفة، 1 عنق. أعرف من إدغار وكورت وغيورغ، قلتُ، إن بالأسفل، في القبو، زنازين. أردت أن أستبدل في رأسي هذه القائمة بقائمته هو. وصلت إلى عنقي فحسب. سيلاحظ النقيب بيله أن شَعري لم يكن موجوداً. وسيسأل: أين شَعرك؟

سرت رعدة في بدني لأن تريزا ستسألني بالتأكيد الآن عما أقصده بشعري. ولكنني لم أستطع أن أحذف شيئاً. إذا صمت الإنسان فترة طويلة، كما فعلت أنا مع تريزا، فإنه يبوح بكل شيء. لم تسأل تريزا عن الشَعر.

وقفتُ عارية تماماً في زاوية الغرفة، قلتُ. كنت مجبرة على أن أغني الأغنية. غنيت غناء منساباً كالماء، لم يعد شيء يثير ضيقي. نَمَت لي فجأة بشرة سميكة للغاية. سألت تريزا: أي أغنية؟ حكيت لها عن الكتب الموجودة في البيت الصيفي، عن إدغار وكورت وغيورغ. وعن تعارفنا بعد وفاة لولا، وعن السبب الذي دفعنا إلى أن نقول للنقيب بيله بأن القصيدة أغنية شعبية.

ارتدي ملابسك، قال النقيب بيله.

وكأنني كنت أرتدي ما هو مسجل على القائمة، وكأن الورقة ستصبح عارية عندما أرتدي كل شيء. تناولت الساعة من المائدة، ثم الحَلَق. وضعت الساعة على معصمي وربطتها، ووجدت الثقبين في أذنيّ من دون مرآة. راح النقيب بيله يمشي أمام النافذة ذهاباً وجيئة. كنت أريد أن أكون عارية لفترة أخرى. أعتقد أنه لم يكن يتطلع إليّ. كان ينظر إلى الشارع. في السماء بين الأشجار كان بإمكانه أن يتخيل على نحو أفضل كيف سأبدو عندما أموت.

بينما كنت أرتدي ملابسي وضع النقيب بيله دفتر العناوين الخاص بي في أحد أدراجه. عنوانك أنت أيضاً معه الآن، قلت لتريزا.

عندما وقفت منحنية أربط حذائي، قال النقيب بيله: مَن يرتدي ملابس نظيفة، لا يمكن أن يكون قذراً عندما يصل إلى السماء، هذا أكيد.

تراخت أصابع تريزا عن سلسلتها الذهبية. تساءلت: ماذا يريد منكم إذاً؟

الخوف، أجبتُ.

الأيام معلقة على حبل الصُدف. منذ أن أُفرج عني وهي تتأرجح وتطرحني أرضاً.

(كتبت الأم تقول:) الشوارع هنا جيدة، ولكن كل شيء بعيد للغاية. أنا غير معتادة السير على الأسفلت، أشعر بألم في قدميّ وفي مخي. في أثناء يوم واحد أشعر هنا بالتعب الذي أشعر به في بيتي ربما خلال عام. ليس هذا بيتنا، آخرون يسكنون الآن هناك، كتبت للأم. بيتك حيثما أنت.

كتبت الأم رداً على ذلك: أنت لا تعرفين ما هو بيتي. حيث يعتني الساعاتي توني بالقبور، فهناك بالتأكيد بيتي. كنا نجلس على الأرض أمام الصور. تناولت صورة الجد. تطلعت إلى الطفل من قريب جداً. ثم اللفة البيضاء التي يحملها الجد.

ما زلنا نقول «حلاقنا» و«مقص أظافري»، رغم أن الآخرين لا يفقدون طيلة حياتهم زراً واحداً.

أحسست بتنميل في قدميّ من طول الجلوس.

إذا صمتنا نَفَرَ الآخرون منا، وإذا تكلمنا ضحكوا علينا.

سمير جريس مجلة العربي يناير 2010

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016