مختارات من:

جمال العربية

فاروق شوشة

نفس عالية
للقاضي الجرجاني


القاضي الجرجاني لقب أطلق على الأديب والشاعر والقاضي علي بن عبدالعزيز الجرجاني الذي ولد ومات بجرجان، بعد أن أكثر من الأطواف فزار العراق والشام والحجاز، ودرس الفقه والأدب والتاريخ. من آثاره ديوان شعر ومجموعة رسائل وكتابه الشهير: "الوساطة بين المتنبي وخصومه " الذي يكشف عن عدالته وتثبته ونفوره من التعميم واتخاذه من مبدأ قياس الأشباه والنظائر أساسا للنقد. ويحدثنا التاريخ الأدبي أن القاضي الجرجاني كان ذا نفس عالية غالية. وقد ترك لنا في شعره صورة لهذه النفس الأبية المتمنعة، التي حرمت عليه طيبات الحياة إيثارا للعزة والأنفة والكرامة وصونا للعرض من الدنس، وإبعادا للمروءة عن مواطن الابتذال. وقد عزت نفس الجرجاني وأسرفت في التصون والاعتزاز، وما زالت به تصده عن مواطن الشبهات ومظان الريب والظنون، حتى زينت له العزلة والانفراد. وشعره في هذا المقام مثال من الأمثلة العليا التي تعتز بمحاكاتها كبار النفوس، فضلا عن صوره البيانية الرفيعة، ولغته القوية الآسرة، في وضوح وشفافية ونقاء: يقول القاضي الجرجاني


يقولون لي: فيك انقباضٌ وإنما
رأوا رجلا عن موقف الذلّ أحجما

أرى الناس من داناهمو هان عندهم
ومن أكرمته عزّة النفس أكرما

وما زلت منحازا بعرضي جانبا
من الذمِّ، أعتدُّ الصّيانة مغنما

إذا قيل: هذا مشربٌ، قلت: قد أرى
ولكن نفس الحرِّ تحتملُ الظما

وما كل برق لاح لي يستفزّني
ولا كلُّ أهل الأرض أرضاهُ منعما

ولم أقض حقّ العلم، إن كان كلما
بدا مطمعٌ صيرتُهُ لي سُلّما

ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي
لأخدم من لاقيتُ لكن لأُخدما

أأشقى به غرساً، وأجنيه ذلّةً
إذن فاتباع الجهل قد كان أحزَما

ولو أنَ أهل العلم صانوه صانهم
ولو عظّموه في النفوس لعظما

ولكن أهانوه، فهانوا، ودنّسوا
مُحّياهُ بالأطماع حتى تجهما


هذا المعنى نفسه، معنى الاعتزاز بالنفس، والترفع عن الدنايا والصغائر، وإعطاء العلم ما يستحقه من رفعة وتكريم،

يؤكده القاضي الجرجاني في قصيدة ثانية، يقول فيها:


على مهجتي تجني الحوادث والدهر
فأما اصطباري فهو ممتنعٌ وعرُ

كأني أُلاقي كلّ يومٍ ينوبني
بذنبٍ، وما ذنبي سوى أنني حُرٌّ

فإن لم يكن عند الزمان سوى الذي
أضيق به ذرعا، فعندي له الصبرُ

وقالوا: توصلْ بالخضوع إلى الغنى
وما علموا أنّ الخضوع هو الفقرُ

وبيني وبين المال بابان حرّما
عليّ الغنى، نفسي الأبيةُ والدهرُ

إذا قيل: هذا اليسرُ، عاينتُ دونه
مواقفَ خيرٌ من وقوفي بها العُسرُ

إذا قُدّموا بالخير قُدّمت دونهم
بنفسِ فقيرٍ، كلُ أخلاقه وفرُ


وتمضي على هذا الشعر وقائله قرون وقرون، وما تزال في السمع والقلب أصداء هذه النفس الأبية المترفعة وهذا التصوير الرائع للتعفف وإيثار النبل والكرامة، والحرص على أخلاق العلماء الجديرين بشرف العلم ومكانته. ومن جديد يتردد في أسماعنا صوت القاضي الجرجاني في شعره الجميل وهو يقول:


إذا قيل: هذا مشربٌ قلت: قد أرى
ولكنّ نفس الحرِّ تحتملُ الظما

وعندما يقول:
وبيني وبين المالِ بابانِ حرّما

عليّ الغنى: نفسي الأبيةُ والدهر

فاروق شوشة مجلة العربي يونيو 1994

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016