بين الخصام والصفح بون شاسع، وبين أنواع الصفح مسافات ومساحات ينبغي إدراكها.
يعتقد كثيرون من الناس، إن لم نقل معظمهم، أن الصفح والعفو هما عطية أو هبة يمكن أن ينالهما المذنب من شخص يملك بالدرجة الأولى سلطة وقدرة على العقاب والقصاص. والسائد أن المذنب إنما ينال العفو والمغفرة بعد أن يبدي الضعف والندم والتوبة عما اقترفه من ذنب.
لقد ترعرع معظمنا وتربى في طفولته على أن يشعر بالذنب حين يخرج عن طاعة والديه، حتى قبل أن يتعلم كيفية مواجهة مشاعر الأذى والظلم. يتعلم الأطفال منذ نعومة أظفارهم، شاءوا أم أبوا، الطقوس السائدة في أسرتهم للحصول على المغفرة والسماح. يتعلمون أن الحصول على عفو أبويهم أو مربيهم إنما يكون ممكناً حين يعترفون بالذنب ويعدون بعدم العودة إليه ثانية ويعتذرون بحرارة. إن الحصول على العفو غالباً ما ينهي إذن موقفاً غير سار بالنسبة للطفل، ويسمح له بالتحرر من آلام مشاعر الذنب ومن مخاوفه إزاء استمرار غضب والديه ومقاطعتهم له. يشكل الاعتذار على العموم في هذه الحالة مظهراً من مظاهر انصياع الطفل وخضوعه لقوة وهيمنة أبويه.
من المرجح أن معظم الناس يتعرضون خلال طفولتهم لمثل هذا (التمرين) على طأطأة الرأس، مما يخلق لديهم نزوعا لكي يدركوا المسامحة والصفح في سياق مؤلف من الخطأ والمعصية والعقاب.
للصفح حدود
في معظم الحالات، وخاصة فيما يتعلق بالأطفال الصغار، فإن الذي يسامح ويغفر غالباً ما يكون أحد الأبوين أو كلاهما، وهما اللذان يندر أن يصابا بأذى حقيقي وجدّي من طرف صغارهما. ولا يعدو الأمر في مثل هذه الحالة أن يكون (تكتيكاً) تربوياً، ومظهراً من مظاهر سعي الآباء إلى إثارة مشاعر الذنب والندم عند أبنائهم، دون ارتباط فعلي بأذى واقعي ألحقه الطفل بوالديه. تدفع هذه المواقف والخبرات الناس إلى أن يروا في عملية الصفح والمغفرة تفاعلاً، أو عملية تجري بين شخص ارتكب إثماً أو خطأ، وبين شخص آخر يمتلك السلطة والحق في المغفرة. إن معنى أن نسامح مذنباً هو أن نقول له أو نوحي إليه بتصرفاتنا تجاهه بأننا لم نعد ناقمين عليه، وبأننا لن نمضي في مقاطعته أو في أي ضرب آخر من ضروب معاقبته. ومن هنا فإن المغفرة تبدو كنوع من العطاء للمذنب، عطاء له قيمته عنده وينبغي أن يستأهله أو تؤهله أفعاله له (اعتذاره وخضوعه واعترافه) أو أن يكون قد نال عن ذنبه ولو عقاباً جزئياً. إن لدى معظمنا تداعيات شبيهة بشكل أو بآخر بما تقدم، وهذه التداعيات يمكن أن تزيد من تعقيد الموقف النفسي للأشخاص الذين سبق لهم أن تعرضوا في طفولتهم لسوء المعاملة وللأذى، وخاصة أولئك الذين لم يتمكنوا برغم مرور السنين من أن يتحرروا من آثار الخبرات المؤذية. إن معظم الدراسات الأسرية تركز الاهتمام على طبيعة الخطأ أو السلوك المؤذي من جهة الوالدين، ولكن قلما تركز الانتباه على الأمر من وجهة نظر الضحية. إن من الضروري في رأيي أثناء التفكير في موضوع المسامحة والعفو أن ننظر إليه كذلك من وجهة نظر الشخص الذي أصيب بالأذى، والذي ينبغي له أن يحاول التخلص من آثار الخبرة الماضية الراضة. نستطيع أن ندرك مدى خطورة وأهمية هذا الأمر حين نتذكر مدى انتشار حوادث العنف التي يسلك فيها بعض الأهالي سلوكاً متطرفاً في شدته ودرجة أذاه على أطفالهم، والعواقب النفسية المؤلفة التي يعانيها هؤلاء الأطفال بعد انقضاء سنوات طويلة على الخبرة الأساسية. في مثل هذه الحالات يبدو من الجلي والواضح أن جوهر عملية المسامحة ليس مجرد أداء بعض الطقوس الروتينية بين شخص مسيء وآخر مساء إليه، بل هي تلك التغيرات والتفاعلات الداخلية التي تجري في نفس الشخص الذي تعرض في السابق للأذى. إن الغفران في هذه الحالة يشكل قبل كل شيءإعادة تشكيل أو صياغة للنظام الداخلي في شخصية الغافر، واستعادة للتناغم والانسجام ما بين العواطف التي سبق أن أصيبت بكثير من الهياج والتناقض عند من تعرض للأذى. إن المسامحة الحقيقية هي تلك التي تسمح لفاعلها بأن يتخلص من مشاعر الحقد الدفينة، متيحة له في الوقت نفسه أن يتحرر أخيراً من الأثر الهدام والعبء الثقيل للخبرات الماضية.
من هنا فإننا حين نصفح حقاً فإن النفع الأكبر إنما يعود علينا نحن.. حتى وإن كان الحافز إلى هذا الصفح حافزاً أخلاقياً أو دينياً.. إلا أن معظمنا مع الأسف لا يرى الأمر على هذا النحو، وذلك لأننا تربينا على أن نرى الصفح في ضوء آخر كما سبق أن أشرت. يعاني كثير من الناس من صعوبات خاصة في المواقف التي تتطلب منهم الاعتذار عن أخطائهم، ولكني أعتقد أن عدداً أكبر يعاني من صعوبة في أن يغفروا ويصفحوا.
عفو المقدرة
من الصعب علينا أن نسامح هؤلاء الذين ندركهم على أنهم أقوى منا.. فإذا علمنا أن كثيراً من الإساءات التي تلحق الطفل إنما تأتي عن طريق الوالدين، اللذين يتفوقان عليه تفوقاً واضحاً وجلياً، فإن من المنطقي والحال كذلك أن الطفل الذي يحمل معه إلى سن الرشد مشاعر الظلم والأذى بفعل من والديه فإن من الصعب عليه أن يغفر لهما ما اقترفاه في حقه، فإذا تمكن من دفع هذه المشاعر إلى لا شعوره فإن هذا لا يعني أبداً أنه ليس في حاجة ماسة إلى أن يتخلص من آثار الظلم النفسية، وخاصة التخلص من المشاعر السلبية غير المفهومة تجاه والديه أو غيرهما من الأشخاص الذين يشبهونهما بشكل أو بآخر. أما إذا بقيت مشاعر الظلم والأذى شعورية فإن الحالة النفسية لهذا الشخص كثيراً ما تتسم بالحقد الواضح والقطيعة مع أبويه، مع ما لهما من أهمية كبيرة في حياته النفسية والاجتماعية. وكثيراً ما يسهل على هؤلاء عملية الصفح كون والديه أو المسيء إليه منهما قد وصل إلى سن متقدمة بحيث تنتفي عنه تماماً صورة القوة والتفوق اللتين كانا يميزانه في السابق.
من الصعب علينا كذلك أن نصفح ونسامح دون أن يكون لدينا إمكان العقوبة وإلحاق الأذى بذلك الشخص الذي نسامحه، ومصداق ذلك مديح العرب خصوصاً لهذا النوع من العفو الذي هو (عفو عند مقدرة). لكن علينا أن نتذكر أن كثيرين ممن أساءوا إلينا من الناس قد يكونون خارج إمكان إلحاق الأذى بهم، ومن هنا فإذا كان الشخص محل الأذى قد تربى على أن يعفو عمن أساءوا إليه فقط في مواقف القدرة والتفوق فإنه لن يجد في مسامحة مؤذيه البعيد أو القوي أي رضا أو معنى، متجاهلاً المعنى الداخلي للصفح ومستمراً في مشاعر الحقد ومعايشة فعل الأذى الذي لحق به بشكل يستنزف طاقته النفسية بشكل واضح. نجد أحياناً تجليات لمثل هذه المواقف عند بعض الناس الذين يعتقدون أن عدم الصفح عن المسيء إليهم ـ حتى وإن لم يعلم هو أي شيء عن ذلك ـ هو نوع من الانتقام منه أو العقوبة الواقعة عليه، تسمع من هؤلاء كلمات من نوع (لن أسامحه حتى آخر يوم من عمري) أو أبداً.. لن أغفر له ما فعل بي أبداً. على أن مثل هذا الموقف من القضايا لا يحمل معه للمظلوم الراحة والنسيان، بل يجعله يسترجع الذكرى المؤلمة أو (يمسكها) في نفسه، يتثبت عند الخبرة ولا يتجاوزها، وخاصة إذا كان هذا الشخص من الأشخاص ذوي المكانة في حياته الخاصة كالأقارب وأفراد الأسرة المقربين.
ليس من السهل الصفح، وخاصة بالنسبة لهؤلاء الذين يرون في الصفح جائزة أو هبة تقدم للمسيء المذنب ليرتاح أخيراً من مشاعر الإثم والذنب. من الصعب أن تتكرر في حياة الراشدين سيناريوهات الطفولة المتعلقة بالمسيء المسكين الذي يتعذب ويتألم منتظرا الصفح من والديه، فكثيرا ما لا يشعر المسيئون الراشدون بأنهم مذنبون، وبالتالي لا يبدو في سلوكهم أي مظهر من مظاهر استجداء العفو أو الاعتذار، وفي هذه الحالات سيكون على من ينتظر مثل هذا السلوك أن ينتظر طويلاً برفقة مشاعر الحقد والغضب والترقب.
انعتاق
إن الصفح يتيح للمرء أن ينعتق من أسر الماضي، أن يتخلص منه كي يتمكن من التوجه بطاقاته نحو الحاضر، لكن الماضي بالنسبة لبعض الناس، برغم كونه مترعاً بالألم والمعاناة، فإنه يظل مركزاً للاهتمام، يجذبهم إليه بقوة رغم شدة المعاناة التي عرفوها فيه.. بل إن استمرار التمسك بالألم واجترار المعاناة يساعدهم على عدم مغادرة الماضي. إن الأحقاد القديمة والمظالم التي تمر عليها سنوات طويلة يمكن أن تتحول إذن إلى نوع من مرساة نفسية تمنع سفينة حياة البعض منا من الإقلاع بعيداً عن موقع المرساة.
ومن الناحية النفسية يمكن تفسير تثبت المظلوم على الماضي وعجزه عن التوجه نحو الحاضر والمستقبل بأنه ناجم أحياناً عن صعوبة التخلي عن الرغبات غير المشبعة. بعض الناس لا يريدون أن يسامحوا، لأنهم لا يستطيعون ببساطة أن يتخلوا عن القناعة اللامنطقية بأن الشخص الذي أساء إليهم سيمنحهم بعد فترة شيئا من الدفء والعطف وتقدير المعاناة والمواساة لما عانوه وكابدوه. إنهم ينتظرون لا شعورياً أن يقدم من أساء إليهم هذه الهبات كتعويض لما لحق بهم من أذى بسببه. هذا الانتظار يكون مفيداً بل وضرورياً في الفترة الأولى بعد حدوث الأذى، وكثيرا ما يؤدي بالفعل إلى التخفيف من التوتر الناجم عن الأذى، لكن دوام هذا الانتظار بعد زوال الصدمة وآثارها المباشرة أو القريبة سيمنع التوتر المرتبط بالمشكلة من الزوال نهائياً.
بالنسبة للبعض، ليس من السهل الصفح والغفران، لأن هذا سيعني بداية طريق جديدة في حياتهم. فالصعوبة قد لا تكمن فقط في الخشية من التخلي عن رغبات الماضي المحبطة، بل وكذلك في أن توديع الماضي يعني ضرورة مواجهة الحاضر والالتفات للمستقبل، وهو ما يتطلب جهوداً إضافية وقدرات جديدة. إن استمرار العيش في الماضي، أو مواجهة الحاضر وتفسيره انطلاقا من إساءات الآخرين في الماضي يساعد في تبرير تأخير اتخاذ القرارات في الحاضر، وفي الإحساس بالمسئولية عن المستقبل.. ومن هنا فإن تقديم العون لمثل هؤلاء الناس على اتخاذ قرار الصفح يحمل معه إمكان فتح الباب واسعاً أمامهم لتحقيق النضج والتوزان النفسي والتطور الشخصي البناء.