نلوم أبنائنا إن جنحوا، وننسى أن جنوحهم قد يكون نتاج جنوحنا نحن. الآباء والأمهات. بالدرجة الأولى.
إذا كانت الأم، في مرحلة الحمل، المسئولة الوحيدة في المحافظة على "البيت الأول" للطفل: الرحم، عبر العناية به وتوفير المناخ الصحي المعافى الذي سيتشكل الجنين داخله.. فإن "البيت الثاني" الحاضن للطفل بعد ولادته: المنزل، هو مسئولية مشتركة، على قدم المساواة بين الأب والأم، معاً.
ومن غيرالمجدي زعمنا ـ نحن الرجال ـ بأن تربية الأبناء والسوية الأخلاقية لهم وسلوكهم الاجتماعي، طوال حياتهم داخل أسرهم، هي مسئولية الأم وحدها، تحت ذريعة أننا "الآباء" مشغولون في أعمالنا، خارج منازلنا، وفي تحصيل رزق عائلاتنا.. في حين أن زوجاتنا "وغير العاملات منهن خصوصا" يعشن مع أبنائنا منذ تكونهم في أرحامهن وحتى زواجهم وخروجهم من المنزل، واستقلالهم!.
الذريعة منطقية في ظاهرها.. لكنها مخاتلة، في باطنها، وذات طابع ذكوري إذا ما أردنا الصراحة! لأن الرجال يتنصلون، عبرها، من مسئولياتهم.. أو بتعبير أدق، من دورهم وتأثير أخلاقهم وسلوكهم على حيوات ونفسيات الأم والأبناء معاً.. على المناخ العام الذي ستتنفس الأسرة من هوائه، وتعيش في كنفه.
لنتفق أن لنشأة الأسرة، وتماسكها واستمرار سلامتها، حجري أساس "وليس حجراً واحداً" هما الأب والأم. الأب والأم لا في اقتسام المسئولية والدور بينهما بالحجم ذاته "على طريقة العقد المدون في ملكية ومسئولية متجر أو معمل بين شريكين" بل، قبل ذلك وأهم منه، في التفاعل الحي بينهما.. في نوعية العلاقة الجامعة لهما.. في الرؤية المشتركة التي يحملانها.. ومن ثم، في التعاون ـ لا التقاسم ـ الخصب المثمر بينهما، على غرار ذراعين في جسد واحد.
وما قد يبدو كتحصيل حاصل في الكلام السابق عن أهمية العلاقة بين الوالدين وتأثيرها على الأبناء ليس كذلك في الواقع الميداني العملي للعلاقات الزوجية التي جنح أبناؤها فعلياً، أو لتلك المهددة بجنوح أبنائها!.
فمعظم ـ إن لم يكن كل ـ العلاقات الزوجية بين آباء وأمهات الأحداث الجانحين كانت مخربة على نحو أو آخر. وهذا يشير إلى سبب من الأسباب الرئيسية والعميقة في حالات الجنوح، ولأقل، هنا، إنني لم أصادف ـ طوال سنوات من العمل مع الأحداث الجانحين ومعايشة أوساطهم الاجتماعية ـ فتى أو طفلاً جانحاً بسبب من طباع مغروزة فيه، أو بدافع من شذوذ وليد معه، أو عدوانية متأصلة في بنيته النفسية، وهذه واحدة من الاستخلاصات الكبرى التي جنيتها من التجربة.
طبعاً، يمكن أن تجد ميلاً للجنوح لدى هذا الحدث، أو شقاوة تؤهل ذاك.. وكذا يمكنك أن تقع على أحداث جانحين برغم كونهم أبناء علاقات زوجية معافاة وجو أسري غير ملوث.. بيد أن مثل هؤلاء هم الأندر الأقل ممن لا يشكلون العدد الأعظم من فئة الأحداث الجانحين من جهة، ولا تشتق منهم الاستخلاصات العامة من جهة ثانية.
وإذا كانت الاختلافات والمجادلات والمشاحنات المختلفة، بل وحتى حالات "الزعل" التي يمكن أن تصيب الزوج أو الزوجة.. هي مفردات الحياة اليومية في أي أسرة كانت، يعتاد عليها الأبناء ويتقبلونها على أنها ملح العيش المشترك.. فإن الضربة القاصمة لحياة الأسرة والتي تهدّها هّداً هي: الطلاق!.
السؤال النافل
لعل السؤال الذي كدت أقلع عن توجيهه لمن قابلتهم من الأحداث لمعرفتي المسبقة بجوابه: هل وقع الطلاق بين أبيك وأمك؟ فالطلاق بين الزوجين يكاد يكون وشماً ثابتاً في حياة أسر الجانحين الأحداث. الطلاق الذي يأتي نتيجة، شبه حتمية، لمعطيات لا حصر لها، منها: الفقر والعوز المادي "أس البلاء" الزواج المبكر المحكوم بالأهواء التي سرعان ما تتغير، طريقة "المراسلة" في عقد الزواج من غير معرفة مسبقة وتفاهم، وتفاوت الوعي الاجتماعي والثقافي بين الزوجين، التزويج بالإكراه لقرابة بين الأسرتين، زواج المصلحة، والهروب من العنوسة نحو أي زواج متوفر.. إلخ.
والطلاق الذي كان نتيجة لطرائق الزواج السابقة، سنجده هنا، قد تحول إلى أحد الأسباب القوية المباشرة، في نشوء الاضطرابات النفسية لدى أبنائنا، وحالات القلق الدائم، ونزعات التطرف في سلوكهم ومسالكهم.. ومن ثم، محاولات التعويض عن ـ أو الرد على ـ تمزق أواصر الأسرة بانتماء إلى جماعة أو فئة من الناس تشكل ـ على نحو من الأنحاء ـ أسرة بديلة، وتكون في الغالب، ممن أصابت حيواتهم أمراض اجتماعية، فراحوا ينزعون نحو "الانتقام" بطرائق ملتوية، تأتي حالات الجنوح في مقدمتها.
وإذا ما اتفقنا على أن لعنة الطلاق لا تحل بين ليلة وضحاها، بل يسبقها كره متبادل ومكائد وفخاخ وتشويهات يمارسها الزوجان "من بينها الضرب".. أدركنا أي مناخ يعيش فيه الأبناء، وأية آثار نفسية "وسلوكية بالتالي" ستحل فيهم وتنتج عنهم!.
وأيا كانت موجبات الانفصال بين الزوجين "وهي سلبية على الدوام عند الأبناء إذ تفقدهم إحدى ركيزتين ضروريتين في حياتهم" ومهما اختلفت قيمة الأسباب.. فإن ما يعنينا، هنا هو كون الطلاق إحدى أكبر الآفات الأسرية المؤدية، أو المساهمة على الأصح، في جنوح الأبناء!.
ولكم عرفت، وعاينت بالمحسوس، من نتائج الطلاق وخراباته لدى الأحداث الجانحين، وكلها كانت قصصا ووقائع مروعة من التشرد، واللواطة، والسرقة، والاغتصاب، والاعتداء، بل والقتل في مرات ليست قليلة!.
قاتل في التاسعة من عمره
في التاسعة من عمره، وقاتل!! كيف عرف معنى القتل؟! وكيف توصل إليه ـ؟! وما كان سبيله إلى ذلك؟!.
موجز قصة ذلك الحدث "وهي عينة ليس إلا" أن أباه طلق أمه بعد سنوات من الخلافات الحادة بينهما، أنجبا خلالها صبيين، تزوج، بعد ذلك، من أمرأة ثانية، أنجبت له بنتاً واحدة "بلغت الخامسة من العمر عند وقوع حادث القتل، فيما بلغ ولداه الثامنة والتاسعة من العمر" ولم تكن علاقتهما الجديدة بأفضل من سابقتها، إذ عادت المشاجرات والخلافات الحادة "وقد أضيف إليها تفضيل الزوجة الثانية لابنتها على ولدي زوجها" بحيث انتهت العلاقة إلى مرساها المعروف: الطلاق.
الأب يعمل منذ الصباح حتى المساء، الأمر الذي عنى بقاء الأولاد منفردين في المنزل، فلم يكن أمامهم سوى اللعب واللهو. فقام الصبي الأكبر بتمثيل دور الأب وشرع يأمر أخاه واخته بتنظيف البيت.
وحين تلكأت البنت في عملها، طفق "مع أخيه" يلاحقانها بأداة التنظيف المعدنية لتمتثل للأوامر. يقول الصبي الأكبر: "ولا أدري، يا أستاذ، لِمَ نامت أختي فجأة بعد أن لكزناها بالقشاطة عدة مرات حين كانت مختبئة تحت السرير!!" غير أنهما وجداها فرصة للتخلص من مشاغباتها، فنقلاها، جراً إلى الغرفة الثانية، وتولى الصغير دورها، فيما واصل الأكبر دور الآمر. وحين عاد الأب في المساء، اكتشف أن ابنته ليست نائمة ـ كما أخبره ولداه ـ بل ميتة!!.
وبصرف النظر عن قول الزوج بأن "كيد زوجته وعنادها" هو ما دفعه إلى طلاقها واضطره إلى ترك الأولاد بلا أم.. وبصرف النظر كذلك عن اتهام الزوجة الثانية "مع تأييد الأولى" بأن الطبع الشرس لزوجها ونزقه الدائم وغيابه طوال النهار هو الذي "هد البيت وأودى بحياة ابنتها" فقد أودع الطفلان في معهد الأحداث الجانحين، ووجدا نفسيهما، فجأة، قاتلين!!.
رغم هذا، فإن الأزمة الحقيقية ليست بإيداع الطفلين في معهد للأحداث الجانحين، ولا كذلك في الآثار السلبية، بالغة السوء، التي ستتخلف في نفسيتيهما جراء تورطهما في عملية قتل وهما في مقتبل العمر فحسب.. بل في أن هذين الطفلين سيتم تسليمهما ـ بعد زمن قضائي من توقيفهما من ـ إلى والدهما ذاته، أعني إلى الظروف والمعطيات الاجتماعية والأسرية نفسها التي عاشا في ظلها وجنحا بسببها، وقد أضيفت إليها مشكلات وأزمات جديدة تمثلت في دعاوى قضائية قدمتها الزوجة الثانية ضد زوجها الذي تسبب إهماله ـ كما قالت ـ في موت ابنتها الوحيدة "!!".
ما سبق هو عينة فحسب، من مئات حوادث خلفها الطلاق، اتخذت لنفسها مسارات ووقائع مختلفة، لكنها أنتجت، أو هي ساهمت، في نتاج واحد: انحراف الأبناء وجنوحهم.
إن ما يزرعه جنوح الوالدين "متمثلا في طلاق رسمي مكتوب أو في طلاق مضمر تعبر عنه نزاعات يومية قوية" يثمر فساداً وانحرافاً واضطرابات نفسية لدى الأبناء، يمكن لها، مع توافر معطيات محيطة أخرى ـ سأتوقف عندها ـ أن تؤدي إلى الجنوح الصريح، أو إلى جنوحات متوارية لا تقل تأثيراً مفسداً على الأجيال القادمة، حين يصير أبناؤنا وبناتنا آباء وأمهات.
والسؤال الآن: إذا سلمنا بأن طلاق الزوجين يشكل أحد الأسباب الرئيسية في جنوح الأبناء.. فلِمْ نقع على أحداث جانحين هم أبناء علاقات زوجية متماسكة ومعافاة؟