يعتبر عوز الحديد مشكلة شائعة في العالم - لا سيما الثالث - إذ يصيب ربع سكان الكرة الأرضية (حوالي ملياري إنسان).. سواء أكان ذلك بسبب الفقر، أم بسبب سوء التغذية في مجتمع غني لكنه لا يختار الأغذية الصحيحة. ولتعلق ذلك بصحة أطفالنا، طاقة المستقبل، فإننا نلقي عليه مزيدا من الضوء.
يحدث فقر الدم بعوز الحديد أكثر مما يحدث بين 9 - 24 شهرا من العمر، بسبب اتساع النمو الجسدي والدماغي وتطور الأعصاب والوصلات ما بينها... وما يحتاجه ذلك من الحديد. وتدل الدراسات على وجود عوز الحديد عند 25 - 50% من أطفال العائلات ذات المستوى الاقتصادي الاجتماعي المتدني، وعند 10 - 25 % من أطفال العائلات ذات المستوى العالي.. لاسيما مع شيوع استخدام حليب البقر عند صغار الأطفال كغذاء رئيسي دون إضافات أخرى... ومع شيوع تناول المآكل الفقيرة بالحديد في سن المراهقة مثل رقائق البطاطا والحلويات والكولا.
إن فقر الدم هو آخر مظاهر عوز الحديد.. فيما يتبدى قبل ذلك باضطرابات مخبرية وأخرى سلوكية، وبتأخر في النمو العقلي والجسماني.
من أين يحصل الطفل على الحديد؟
في المرحلة الجنينية تكون الوالدة هي المصدر، وما لم يكن فقر الدم عندها شديدا (الخضاب - الهيموغلوبين - دون 6غ%) لا يتأثر ما يريد الجنين من حديد. ومع زيادة وزن الجنين يزداد الحديد ليحوي كل 1 كغ من وزنه 75 مغ من الحديد، ويحتاج الجنين في الثلث الأخير من الحمل 2 مغ جديد / كغ في اليوم، وذلك بسبب تسارع النمو حيث يزداد وزن الجنين من كيلو غرام واحد في الشهر الحملي السابع، إلى ثلاثة كيلو غرامات في نهاية الحمل... وعند الولادة يكون لدى الوليد:
- 7 مغ حديد / كغ في النسج.
- 10 مغ حديد / كغ في الكبد والطحال.
- 58 مغ حديد / كغ في الكريات الحمر (خضاب الدم).
فإذا حدث فقدان للدم حوالي الولادة نقص مخزون الحديد بشكل واضح وهذا ما يحدث في: النزف من الجنين إلى والدته، وفي النزف من الشيمة أثناء العملية القيصرية أو نتيجة سوء وضع المشيمة أو انفصالها الباكر، وعند التوائم حيث يأخذ أحدهما دما أكثر من الآخر، وإذا انضغط الحبل السري مدة طويلة عند الولادة، أو إذا ربط بشكل خاطئ والطفل فوق مستوى أمه فيهرب الدم منه إلى المشيمة.. وأخيرا إذا سحب من الوليد كمية كبيرة من الدم بعد الولادة لإجراءات تشخيصية.
وما نلاحظه هو أن محتوى جسم الوليد من الحديد بحدود 0,5 غرام، فيما يكون محتوى جسم الشخص البالغ بحدود 5غ، مما يحتم وجود وارد من الحديد يؤمن امتصاص 0,8 - 1,5 ملغ منه يوميا حتى سن الخامسة عشرة، علما بأن ما يمتص من الحديد في الغذاء هو بحدود 10% لذا يجب ورود 8- 15 ملغ من الحديد في الغذاء كل يوم.
الحديد والدماغ
يحتاج الدماغ الذي ينمو أكثر ما ينمو في السنة الأولى إلى تروية دموية غزيرة لتأمين السكر والمغذيات الأخرى والأوكسجين.. فمن الطبيعي إذن أن يتأثر بفقر الدم لأن الخضاب هو الذي يحمل القسم الأكبر من الأوكسجين. من جهة أخرى تدل الدراسات الحديثة على أن حديد النسج يتوزع في الدماغ وبتركيز كبير في النوى القاعدية المسئولة عن الوظيفة خارج الهرمية. فإذا ما نقص الحديد من الدماغ في سن مبكرة حدثت اضطرابات سلوكية وعصبية، بسبب تأثر النواقل العصبية Neurotransmitters والتي تسهل انتقال الرسائل العصبية مثل الدوبامين والسيروتونين وحمض غاما أمينوبوتيريك، وانخفضت معدلات تقييم التطور النفسي الحركي Psycho-motor development عن الأطفال الأسوياء، علما بأن هذه المعدلات أكثر تأثرا في حال وجود فقر دم من عدم وجوده.
والعوامل المهمة في تحديد مستوى الحديد بعد الولادة تكمن في:
1- تسارع النمو.
2- التغذية.
3- ضياع الدم من جهاز الهضم.
ويضيع الحديد بمعدل ثابت ضئيل (20 مكروغرام / كغ في اليوم)، ثلثاه عبر توسف بطانة الأمعاء، والباقي عبر توسف الجلد وبطانة السبيل البولي... وعلى العكس يكون الضياع عبر النزف الهضمي الخفي كبيرا ويتراوح بين 1-2 مع في اليوم، وهو يصاحب الإسهال المديد، كما يرى عند 40 - 50% من الرضع المعتمدين على لبن البقر الطازج غير المغلي (لوجود بروتين خاص فيه يتأثر بالحرارة ويؤثر على الأمعاء فتنزف) في ستة الأشهر الأولى من عمرهم... وعند 25% ممن يغذون به بعد الشهر السادس.
إننا لنحتاج الحديد من أجل:
- تصنيع خضاب الدم لزيادة حجم الدم بما يوافق النمو المطرد، ومن ثم يقوم الخضاب بنقل الأوكسجين من الرئتين إلى النسج ونقل ثاني أكسيد الكربون بالعكس.
- تصنيع الميوغلوبين لزيادة الكتلة العضلية.
- تصنيع بعض الإنزيمات المؤكسدة مثل السايتوكروم سي والكاتلاز.
- حفظ مخازن الحديد في نقي العظام والكبد والطحال والكلية على شكل فرتين وهيموسيدرين.
- نمو الوظيفة الدماغية كما أشرنا.
ولتغطية المتطلبات يجب إعطاء الرضع في الشهر الثالث أو الرابع 1 مغ حديد / كغ في اليوم، أما الخدع فيعطون 2 مغ حديد / كغ في اليوم بدءا من الشهر الثاني أو عندما يتضاعف وزنهم.. على أن ننتبه للوارد الغذائي... إذ يقل امتصاص الحديد مع الشاي والألياف ويزداد بوجود الفيتامين ج (سي) الموجود في عصير البرتقال والطماطم... ويكون امتصاصه أكثر عند تناول المنتجات الحيوانية من النباتية.
أما إذا كان الطفل معتمدا على لبن والدته (الحاوي على 3،0 - 2،1 مغ الحديد في اللتر) فإن فيما لا يزيد ما يمتص من حديد لبن البقر (الحاوي على 3،0 - 6،0 مغ حديد في اللتر) عن 10%، وعن 4% في الألبان المجففة المقواة بالحديد...
هذا ولم تبد الدراسات وجود فرق في مستوى الحديد أو خضاب الدم بين الرضع المعتمدين على ألبان أمهاتهم أو الألبان المجففة المقواة بالحديد في ستة الأشهر الأولى من العمر، خلافا لمن أخذوا حليب البقر لوحده.. لهذا ينصح بعدم إدخال حليب البقر الكامل في التغذية قبل السنة الأولى من العمر.
عوز الحديد
ينضب الحديد من مخازنه أولا Iron depletion فينقص الهيموسيدرين من النقي والكبد، ويقل فرتين المصل عن 10 نانوغرام / مل ويقل مستوى حديد المصل، فيما تزداد السعة الكلية الرابطة للحديد TIBC معبرة عن إمكان استيعاب مزيد من الحديد لوجود شواغر مكانه... ويقل إشباع التزانسفرين عن 10% (والترانسفرين هو بروتين بيتا غلوبولين ينقل الحديد الممتص من الأمعاء إلى مخازنه). بعد ذلك ينقص الحديد Iron deficiency فيزداد تركيز البروتوبورفيرين في كامل الدم عن 30 مكروغرام / 100 مل، ويصغر حجم الكريات الحمر، وأخيرا ينقص الخضاب (الصابغ للكريات باللون الأحمر) ليحدث فقر الدم المعروف بصفة "فقر الدم ناقص الصباغ صغير الكريات" Hypo-chromic Microcytic Anemia وهنا نذكر أن نضوب الحديد من مخازنه لا يترافق مع اضطرابات فسيولوجية، أما نقص الحديد حتى دون فقر دم فيترافق مع اضطرابات كيمياحيوية وخلوية. ومن الوجهة العملية يعتبر ارتفاع الخضاب بعد العلاج بالحديد أهم معيار لتأكيد تشخيص عوز الحديد.. ويعطي بمقدار 3 مغ / كغ في اليوم لمدة شهرين على الأقل... أما الحالات البسيطة فيكفي علاجها بالأغذية المقواة بالحديد.
أعراض عوز الحديد
يعتبر الشحوب العرض الأبرز في فقر الدم لكنه لا يظهر في الحالات البسيطة والمتوسطة لوجود آليات معاوضة، لكنه يبدو واضحا عندما يهبط الخضاب عن 5 غ%.. وقد يترافق بتسرع القلب وصوت إضافي يسمعه الطبيب مما يعبر عن معاوضة القلب لتغطية احتياجات النسج من الأوكسجين. كما يمكن أن يتناول هؤلاء الأطفال الأتربة والأحجار الكلسية دليل حاجتهم لحديد.. أما الأعراض الأخرى فتضم: فرط الاستثارة وسوء المزاج حيث يبكي الطفل باستمرار وبشكل مزعج، وقلة الشهية، وسرعة التعب عند بذل الجهد، وتقعر وترقق الأظافر Koilonchia وضمور حليمات اللسان، وقلة الإفراز الحمضي المعدي مما ينعكس على حسن سير عملية الهضم، واضطرابات سلوكية مثل نقص الانتباه ونقص الإدراك وتأخر التطور النفسي الحركي، ونقص الذكاء، وتأخر النمو، ونقص المناعة الخلوية مما يعرض الطفل للإنتانات أو الأخماخ المعدية، وتأثر الوظيفة العضلية. الملاحظ هنا أن أول ما يتحسن عند إعطاء الحديد هو المزاج.. ثم يرتفع خضاب الدم شيئا فشيئا وترتفع الشبكيات Reticulocytes (وهي كريات حمر غير ناضجة يعتبر ارتفاعها دليلا على نشاط صنع الدم في نقي العظام،)، أما الوظائف الدماغية فربما لا تعود إلى طبيعتها 100% في كل الحالات كما تشير بعض الدراسات الحديثة.
الوقاية من نقص الحديد
لأن علاج عوز الحديد لا يؤدي دائما إلى عودة الوظائف التطورية الدماغية إلى ما كانت عليه تماما، فإن الوقاية هي الأهم وتكون بـ:
1- المواظبة على الإرضاع الطبيعي.
2- تجنب حليب البقر الكامل الطازج في السنة الأولى من العمر.
3- إعطاء الحليب أو الأغذية المقواة بالحديد في حال الاضطرار إلى ترك حليب الأم.
4- تجنب الشاي والألياف التي تعيق امتصاص الحديد، وإعطاء الفيتامين ج مع الحديد.
5- إعطاء الأغذية الغنية بالحديد مثل اللحم الأحمر والسمك والطيور وصفار البيض والخضر الخضراء والحبوب الكاملة والمكسرات.. عندما يصبح الوقت ملائما لإعطائها (بعد الشهر السادس).
6- إعطاء الرضع في الشهر الرابع 1 مغ حديد / كغ في اليوم حتى نهاية السنة، أما الخدج وناقصو وزن الولادة فيعطون 2 مغ / كغ / اليوم بدءا من الشهر الثاني (أو عندما يتضاعف وزنهم) حتى السنة والنصف سنة من العمر.
7- تجنب البدانة.