... هذه المعلومات كان يمكن أن تبقى مجرد أوراق منسية في دفاتر التاريخ، لولا اندفاع شخص للكشف عن المدينة الغارقة في أعماق البحر.
(... من جهتنا، لقد رددنا مراراً رأينا بأن معدل عالم الآثار يحقق كل يوم تقريباً الروايات التي نقول عنها أسطورية..).
هذا القول لعالم الآثار اليوناني (سبريدون مارينتوس) غدا مستنداً أصيلاً للباحثين الآثاريين خلال الأساطير والنصوص القديمة. وهو ذاته ما دفعني إلى إعادة قراءة بعض النصوص الأسطورية وإعادة (تقييم) للروايات الشعبية المتداولة شفاهياً حول بعض المواقع الآثارية والمزارات الشعبية المنتشرة في بلادنا. وقد بانت حقائق كثيرة كانت غامضة أو مهملة.
وإذا كان (مارينتوس) ينطلق من الأساطير وتهويماتها، وهي منتشرة لدى جميع الشعوب القديمة، فإن لدينا أرضية أكثر صلابة مما لديه، وهي النصوص التاريخية والإشارات المتكررة إلى مواقع آثارية مهمة لم نعثر عليها بعد.
صيدون المركز
وأهم هذه الإشارات تردنا عن أسماء مدن مهمة كانت على الشاطئ اللبناني خلال الألفين الثاني والأول قبل الميلاد، ولم نعثر على ما يقنع بأنه بقاياها. ومن هذه المدن كانت مدينة (صيدون) القديمة، وقد وردت نصوص واضحة عن غرقها في البحر، وعن كونها كانت فوق جزيرة قرب الشاطئ وليست كما هي اليوم مدينة ساحلية ذات ميناء على البحر.
ورد ذكر المدينة في نص فينيقي للمؤرخ (سانخويناتن) يذكر فيه أن (صيدون) هو ابن (بونطس) أي البحر، وأنها كانت مركز حكم وراثي يوالي مصر، وأن لها قرى ومدنا تتبعها في المنطقة المجاورة، حسب ما جاء في الرسالة (رقم 144) من رسائل تل العمارنة حوالي 1370 ق.م.
وخلال رحلة الكاهي (وين آمون) في القرن الحادي عشر ق.م، نقرأ أنه كان يوجد في مينائها خمسون مركباً تجارياً لمؤسسة واحدة يدعى صاحبها (وركت إيل) ومثل هذا الازدهار كان يشير إلى مدينة مهمة كبيرة، وهو ما يفسر لنا سبب تسمية جميع سكان الشاطئ اللبناني باسم (صيدونيين) سواء خلال النصوص العبرية أو خلال نصوص الإلياذة والأوديسة اليونانية. ونجد أن أقدم ذكر لها ورد في جغرافية (يشوع) العبري الذي وصفها بالعظيمة.
وعن موقعها البحري، نقرأ نبوءة لـ(أشعيا العبري) يقول فيها: (... اخجلي ياصيدون لأن حصانة البحر قالت: لم تتمخّض ولم تلد أبناء وشباباً وعذارى).
وقد كانت هذه النبوءة بمناسبة غزوات التدمير التي كان يقوم بها (سنحاريب) الأشوري لمدن المنطقة سنة 701 ق.م. وإشارة أشعيا تفيد بأنها كانت متحصّنة بالبحر.
وحين نعود إلى نصوص حروب (سنحاريب) المنقوشة على صخور أرض الرافدين، نقرأ فيها أنه تغلب على صيدون العظمى وصيدون الصغرى، إلى جانب مدن: بيت زتي وصربتا ومحاليبا وأوشو وإكزيب وعكو. وهذه كانت مدناً محصّنة تتبع (لولي) ملك صيدون، مما يفيد بأنها كانت عاصمة مركزية لمجموعة مدن مهمة.
وفي قراءة تأملية للنص، نفترض أن مدينة صيدون كانت تنقسم إلى قسمين، أحدهما كبير - وهو الأصل - والآخر أصغر. ولابد أن يكون أحدهما في البحر والآخر على البر، وإلا لما كانت هناك ضرورة لهذا التمييز. وقد أكمل النص فذكر فرار ملكها إلى البحار البعيدة.
ويأتينا التوكيد على وجود المدينة الكبيرة في البحر من نص الابن (آسرحدون).
فهذا المحارب يعرّف نفسه في أحد النصوص على أنه فاتح مدينة صيدون، الواقعة وسط البحر، معتبراً ذلك إنجازاً كبيراً له، مع أنه - كما تذكر نصوص له - افتتح مصر وبلاد النوبة وقبرص وجزر البحر حتى ترشيش وقرطاجة وسردينيا وغيرها.
بيوت بعل وعشترت
وهذا التوكيد على أهمية المدينة، يجعلنا نعتبرها أكبر من موقعها الحالي، وعند متابعة النص نقرأ قوله: (... سوّيت أبنيتها السكنية بالأرض وهدمت سورها وألقيته مع أساساته في البحر، وقبضت على ملكها (عبدي ملكوتي) كسمكة في البحر). وهذا النص وجد على نسخ عدة.
وكي لا يكون هناك التباس بين صيدون وصور، الواقعة فوق جزيرة شهيرة، نقرأ نصّاً خاصاً بمدينة صور الواقعة وسط البحر، وكان ملكها يدعى (بعلو) بحسب نص (أسرحدون) هذا.
حدث دمار مدينة صيدون على الجزيرة سنة 677ق.م. وبعدما يقارب مائة وعشرين عاماً، نقرأ على ناووس الملك الصيدوني (اشمونعزر الثاني) أنهم بنوا معبداً لعشترت في صيدون (أرض يم) أي الأرض البحرية، ثم بيتا لبعل صيدون، وهذا لايزال له مقام باسم (النبي صيدون) قرب المدخل الجنوبي لمدينة صيدا، ثم بنوا بيتاً آخر لعشترت، سميّة البعل، أي رفيقته.
ولورود ذكر بناء معبدين لعشترت، نفترض أن أحدهما كان على الجزيرة البحرية والآخر على البر قرب النبي صيدون الحالي. وذلك حوالي نهاية القرن السادس ق.م.
وتكرر ذكر صيدون البحر مع (بدعشترت) حفيد (اشمونعزر) هذا،. حسب النصوص الفينقية.
الغرق تدريجياً
هكذا تؤكد لنا النصوص العبرية والآشورية والفينيقية وجود جزيرة كبيرة عامرة قرب مدينة صيدا الحالية، وإذا كان (آسرحدون) قد دمّر أبنيتها وألقى أسوارها في البحر، فالسؤال هو: ماذا حدث للجزيرة ذاتها؟
ومع أننا نجد اليوم جزيرة صغيرة قريبة من شاطئ المدينة يدعوها الأهلون (زيرة) تصغيراً لها، فإن غياب المنشآت والآثار المهمة عن أرضها يرجح أنها ليست الجزيرة المقصودة التي نبحث عنها.
ويأتينا نص باليونانية للجغرافي (سترابو) يكشف لنا سر اختفاء جزيرة صيدون القديمة ومنشآتها المدنية، فهو ينقل لنا رواية عن الفيلسوف الأفامي (بوزيدونيوس) يقول فيها: (... ابتلعت الأرض مدينة فوق صيدون ابتلاعاً كاملاً بفعل هزة أرضية، كما غرق في البحر ما يقارب ثلثي مدينة صيدون، ولكن لم يحدث ذلك دفعة واحدة، ولهذا لم تحدث خسائر في حياة الناس).
ولشهرة (بوزيدونيوس) بالتدقيق العلمي والنضج الفكري نجد الرواية مقبولة، كما أن (بوزيدونيوس) عاش بين سنتي 135 و 51 ق.م. بينما الجغرافي (سترابو) عاش في القرن الأول للميلاد. وكان هذا الأخير يعتمد على مؤلفات مَن سبقوه من العلماء ومنهم (بوزيدونيوس).
وما يساند واقعية هذه الحادثة هو الملاحظة التي ذكرها (بوزيدونيوس) من أن المدينة كانت تغرق بالتدريج في البحر، أما متى حدث ذلك، فليس هناك ما يحدد تاريخاً للحدث على وجه اليقين، مع أن بعض الباحثين يربط الحادثة بحادثة أخرى ذكرها (سترابو)، وقد حدثت على الشاطئ اللبناني سنة 143 ق.م. حيث جرفت موجة بحرية عالية جيشاً بكامله كان يوجد جنوبي مدينة صور، أي على بعد يقارب أربعين كيلومتراً من صيدا. وكان هذا الجيش تابعاً لمدينة عكا.
جهد فردي
هذه المعلومات عن المدينة المفقودة كان يمكن أن تبقى في أوراق التاريخ لولا اندفاع شخص مؤهل لكشفها هو (محمد السارجي) نقيب الغواصين في لبنان، وهو من مدينة صيدا ويملك مؤسسة للتصوير السينمائي، ونادياً للتدريب على الغوص، وقد جاءني في أحد الأيام، قبل ما يقارب سنتين، حاملاً مجموعة كبيرة من الصور وأفلام الفيديو عن آثار وظواهر غريبة في البحر تحتاج إلى تفسير وتصنيف. وكانت هذه الصور إجابات منطقية على عدد من التساؤلات المهمة التي تثيرها ملاحظات بعض الباحثين الذين كتبوا عن الساحل اللبناني في القرون الثلاثة الماضية. فرحت أطلعه على ما لدي من ملاحظات ووثائق تتعلق بالبحر، وأخذ منذئذ يهتم بتصوير الأعماق التي يصل إليها خلال غوصه، وهي بلغت خمسين متراً، حسب ساعة المراقبة التي ترافقه في معصمه.
كان بين الصور مجموعة التقطها لموقع إلى الشمال من جزيرة صيدا داخل البحر، فأطلعته على النصوص التي تتحدث عن الجزيرة الغارقة، فاندفع مع فريق مختص إلى البحث والتصوير لكل ما يشاهده من آثار عمران تحت الماء. وكانت النتيجة ترسيم مدينة غارقة بكل ما للمدينة من مرافق ومقومات، من ساحات واسعة مبلطة، إلى آبار لحفظ مياه الأمطار، إلى بقايا بيوت للسكن وأعمدة منحوتة للمعابد. وفي كل مرة، كان يحضر معه مجموعة صور أو شريط فيديو لدراسة ما يظهر من أشكال لا يستطيع الغواص تحديدها ومعرفتها تحت الماء.
وقد بلغ مجموع الغطسات التي قام بها مائتين وخمسين غطسة مع فريق متكامل وزورق خاص يحمل أجهزة الغطس والتصوير. وذلك تم دون أي دعم أو مساندة من أي جهة خاصة أو رسمية، بل ودون إجازة لعمله، سوى الإجازة التي يحملها كمدرب للغوص، متجنباً أي علاقة بالآثار غير علاقة التصوير من بعيد. وقد غدت هذه المعلومات عن صيدون الغارقة بتصرف لجنة الأونيسكو لتقرير مصيرها ودراسة مدلولاتها.
ويبقى السؤال
ولكن السؤال الذي يبقى مطروحاً هو: هل هذه الآثار القريبة من سطح الماء هي آثار صيدون، الجزيرة التي ذكرتها نصوص (آسرحدون) ورواية (بوزيدونيوس)؟
أم أنها آثار أحياء صيدونية كانت تغرق بالتدريج وفق الملاحظة المهمة القائلة بأن الشاطئ اللبناني بأكمله آخذ بالغوص في البحر؟
إن المناطق البحرية البعيدة عن جزيرة صيدا الحالية مغمورة بالرمل تحت الماء، ولا مجال لاكتشاف آثار بناء بالعين المجردة، كما أن هناك ظواهر طبيعية في بحر صيدا تتطلب إمكانات دراسة أكبر من إمكانات الأفراد أو المجموعات الصغيرة، لكن أي دراسة لن تكون عملية دون الاستعانة بخبراء في بحر المدينة ومواعيد نشاطه وتطور شواطئه، بل ونمو نباتاته.