مختارات من:

مدينة لا تبوح بأسرار الفرح ... بيروت تعانق الأسبوع الثقافي الكويتي

أنور الياسين

حتى أكوام الأنقاض التي تناثرت في بعض الشوارع بوسط بيروت، لم تستطع إقناعنا، في أعقاب أسبوع من البهجة، بأن هذه المدينة العربية العريقة، قد شهدت تلك الأحداث الدموية التي مزقت القلب العربي لما يقترب من العقدين.

لقد كان ضجيج الحياة على أشده حيثما انتقلنا، مؤكداً أن بيروت، هي عاصمة للفرح، والانطلاق، ودفقة من دفقات الحيوية والنشاط والدفء في شرايين المدن العربية.

على الأقل كان هذا مانشعر به لأول وهلة، ونحن نخطو خطواتنا الأولى في شوارع تلك المدينة، حاملين معنا ثقافة وتراث ودفء أهل الكويت تجاه أشقاء لهم في لبنان، وهناك شعرنا بأن الابتسامات الودودة التي تحلى بها أبناء هذا البلد العربي مازالت كما هي، وأن عبارات الترحيب، ومعانقة الحياة واقتطاف لحظات المرح مازالت أيضا، من سمات السكان فيه، إن لم تكن من معالم الطبيعة، والصفات اللاصقة بها.

لذلك، فإن المرء لايستطيع في ظل رؤية مبتهجة تحتضن الحياة، وتتشبث بكل مايمنح الفرح فيها، أن يكبح جماح تساؤل ملح عن سر "بيروت" تلك المدينة الجامحة، كيف استطاعت بسهولة أن تنزع عنها ثياب الحرب والدمار والقتل والمعاناة، وأن تتمكن من طي تلك الصفحة البشعة من تاريخها، قبل أن تنطلق من جديد، لتعود كما كانت ـ وفي خلال سنوات قليلة ـ مدينة عامرة بضجيج الحياة، متخمة بالفرح والعذوبة، والمرح والود، في استعادة حديثة لأسطورة طائر الفينيق، الذي يسترد حياته في كل مرة يموت فيها.

حيوية دافقة

وسط بيروت كان المكان الذي التقت فيه الثقافتان الكويتية واللبنانية في تفاعل حي، بين دولتين تحملان الكثير من أوجه التشابه، وفي مركز بيروت التجاري الذي كانت الحرب قد حولته إلى ساحة من الخرائب والدمار، بدأت فعاليات الأسبوع الثقافي الكويتي طيلة خمسة أيام ليتحول معها مركز المعارض في ساحة الشهداء إلى مايشبه خلية النحل المفعمة بالحيوية بعد أن امتلأت قاعات المركز بالكتاب والشعراء والفنانين والمثقفين من البلدين، إضافة إلى جمهور كبير غصت به الأماكن التي شهدت الندوات والأمسيات والمعارض التشكيلية في ذلك الأسبوع الحافل.

وبدأت فعاليات الأسبوع الثقافي الكويتي الذي نظمه المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في دولة الكويت بالتعاون مع وزارة الثقافة والتعليم العالي في لبنان، عندما قص رئيس مجلس الوزراء اللبناني رفيق الحريري شريط الافتتاح معلنا بدء الأسبوع الحافل بأنشطة الثقافة وحميمية اللقاءات الأخوية.

حضر حفل الافتتاح سفير دولة الكويت في لبنان عبد الرزاق الكندري وأمين عام المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الدكتور سليمان العسكري وعدد من الوزراء في الحكومة اللبنانية والنواب وفاعليات اجتماعية وثقافية.

الحريري الذي استقبل بالدفوف والطبول والبخور، صرح عقب جولة له في أرجاء المعرض الذي أقيم وسط خيمة عربية نصبت عند المدخل واشتملت على لوحات تشكيلية ونماذج من إصدارات ثقافية كويتية، أن العلاقات التي تربط بلاده بدولة الكويت تاريخية وعميقة، والمحبة القائمة بين المسئولين والشعب في الكويت ولبنان قديمة، مستطرداً: "كنا دائما نشعر عندما نذهب إلى الكويت أننا في بلدنا، وهو نفس شعور أبناء الكويت عندما يأتون إلينا". ومن جهته قال السفير الكويتي عبد الرزاق الكندري معقباً على ذلك، "لقد حرصنا على أن يعقد هذا الأسبوع الثقافي الأول في عاصمة النور العربي، وهذا الأمر له دلالة كبيرة تؤكد وقوفنا ككويتيين إلى جانب لبنان في استعادة البناء، ليس فقط بناء الحجر، بل بناء البشر أيضا".

أما الأمين العام للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت الدكتور سليمان العسكري، فأشار في كلمة له عند افتتاح الأسبوع إلى أن "بيروت بالنسبة للكويتيين هي مركز حضاري كبير وثقافي للإطلال على العالم العربي والخارجي" مضيفاً أن "من واجبنا أن نتجه إلى دعم لبنان في هذه المرحلة على جميع المستويات".

فعاليات الأسبوع

وعقب الحفل الرسمي بدأت فعاليات الأسبوع التي استقطبت أعداداً لافتة من المثقفين والفنانين اللبنانيين. شهد اليوم الأول افتتاح المعرض التشكيلي الكويتي المعاصر، متضمنا مجموعة كبيرة من اللوحات لعشرين فنانا من الكويت، كانت أعمالهم تلك تمثل مختلف التجارب والتيارات، إضافة إلى التجربة الفنية الكويتية بكل خصوصياتها.

وقد استطاع المعرض التشكيلي أن يعكس بوضوح تقدم التجربة الفنية في الكويت، من خلال عرض التجربة الإنسانية المريرة التي عاناها أبناء الشعب الكويتي من جراء العدوان والاحتلال العراقي خلال الفترة من 2 أغسطس 1990 وحتى تحرير البلاد في 26 فبراير 1991، بحيث استطاعت المعروضات الفنية أن تكشف الارتباط العضوي الشديد المتانة بين التجربة الكويتية الثقافية مع وعي تجربة الغزو الصعبة التي عاشتها البلاد.

وشارك في هذا المعرض الذي نال الكثير من الإعجاب، واعتبره البعض من بين أكثر الفعاليات بروزاً ، معروضات كل من: أيوب حسين وثريا البقصمي، وجواد جاسم بوشهري، حميد خزعل، خزعل القفاص، سامية السيد عمر، سامي محمد "نحات ورسام"، صبيحة بشارة، صفوان الأيوبي، عبد الرسول سلمان، عبد الرضا باقر، عبدالعزيز آرتي، عبد الله القصار، عنبر وليد، وعلي نعمان، عيسى صقر، غادة الكندري، محمد البحيري، محمد قمبر وموضي الحجي.

ومن بين المعارض المهمة التي شهدتها أيام الأسبوع الثقافي، جاء معرض الطوابع الكويتية ليلقي الإضاءة على محطات المسار الكويتي على مختلف الأصعدة، فقد واكبت تلك المجموعة المتنوعة من طوابع الحياة اليومية، واللحظات التاريخية، إلى جانب الاهتمامات الفكرية والبيئية، وانتقلت هذه الطوابع التي تعد سجلا حقيقياً لمحطات التحول الاجتماعي في الكويت، من تخليد ذكرى إعلان الدستور إلى الدورات الرياضية والمؤتمرات السياسية والمهنية، ومواكبة الأحداث العربية الوطنية.

وقدم الأستاذ شفيق طالب "وهو لبناني أمضى 32 عاما في الكويت" للمعرض مجموعة كاملة من الطوابع الكويتية منذ عام 1923 وحتى الآن، وهي من أصل 55 مجموعة يمتلكها ويعد معها من نخبة جامعي طوابع البريد في العالم.

وقد أشارت الطوابع المعروضة إلى أن الكويت استخدمت الطوابع الهندية حتى عام 1948، وكانت تحمل وقتها صورة الملك جورج الخامس، أما سعرها فكان بالروبية والبيزة، وعندما توفي هذا الملك حملت الطوابع صورة الملك جورج السادس، إلى أن ظهرت صورة الملكة اليزابيث على هذه الطوابع عام 1952.

وقد تسلمت الكويت إدارة البريد من الشركة البريطانية اعتباراً من العام 1958، وكان أول طابع أصدرته يحمل صورة الأمير الراحل عبد الله السالم الصباح، إلى أن أصدرت الكويت أول طابع بريد من فئة "الدينار" في مايو عام 1961.

ويقول شفيق طالب إن الطوابع الكويتية اهتمت بشكل لافت للنظر بالقضايا العربية، حتى أن هناك عشرين إصداراً تتعلق بالقضية الفلسطينية من جميع جوانبها.

وتضمن المعرض أيضا آخر الإصدارات من الطوابع، وهو ذلك الذي جاء بمناسبة مرور مائة عام على تولي مبارك الكبير حكم الكويت في عام 1896، والطابع الآخر الذي صدر في مناسبة الاحتفال بمرور خمسين عاما على تصدير أول شحنة نفط من الكويت في عام 1946.

وشهد الأسبوع أيضا معرضا للصور الفوتوغرافية استطاع التعبير عن التاريخ الكويتي بمختلف مراحله، وتضمن مايقارب من 100 صورة، انقسمت إلى مجموعات، منها ماعبر عن آثار العدوان وحرائق النفط، ومنها مااختص بالبيئة الكويتية سواءالبحرية أو البرية، إضافة إلى مجموعة من الصور عبرت عن الحرف اليدوية والآثار القديمة.

وانتقلت تلك الصور لرصد وقفات التاريخ الكويتي قديمه وحديثه، فمن أيام الغوص والحرف اليدوية إلى التعريف بالنهضة العمرانية والوجه التاريخي للحضارات التي عاشت على أرض الكويت.

إضافة إلى تلك المعارض، شهدت قاعات مركز المعارض في الوسط التجاري لبيروت، معرضاً آخر للجنة الوطنية لشئون الأسرى والمفقودين الكويتيين تضمن صوراً لأكثر من 600 مواطن كويتي مازال النظام العراقي يحتجزهم، إضافة إلى ملصقات ونداءات لتحريرهم والإفراج عنهم.

وكان من ضمن فعاليات الأسبوع الثقافي، معرض للكتاب احتوى على مايقارب 288 عنوانا من إصدارات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ومؤسسات الكويت الرسمية والأهلية، ضم الإصدارات الشهيرة التي تحتل موقعاً مميزاً بين الإصدارات الثقافية العربية، ومنها سلسلة "عالم المعرفة، وعالم الفكر، والمسرح العالمي، والثقافة العالمية وهي من إصدارات المجلس، إضافة إلى مجلتي "العربي" و "الكويت" اللتين تصدرهما وزارة الإعلام الكويتية.

وفيما شهدت المعارض التي رافقت أيام الأسبوع إقبالاً جماهيرياً ضخماً، فإن الندوات والأمسيات والحلقات النقاشية، قد شهدت هي الأخرى حضوراً كبيراً، أكد نجاح تلك الفعاليات وأشاد بحسن تنظيمها.

ففي اليوم الثاني لهذا الأسبوع شارك الأمين العام للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الدكتور سليمان العسكري، ورئيس تحرير مجلة "العربي" الدكتور محمد الرميحي عن الجانب الكويتي، إضافة إلى أمين عام وزارة الثقافة اللبنانية الدكتور مطانيوس الحلبي والمفكر منح الصلح عن الجانب اللبناني، في ندوة عن "الواقع الثقافي في الكويت ومستقبل العلاقات الثقافية بين الكويت ولبنان".

وقد استعرض د. العسكري خلال الندوة واقع الثقافة في الكويت من الوجه العربي، حيث أعطى محطات سريعة في عمر الحركة الثقافية الكويتية التي بدأت في العام 1912 عندما أنشئت مدرسة المباركية حتى عام 1936 عندما أنشئت إدارة المعارف.

وأوضح العسكري أن فترة الستينيات شهدت نقلة كبرى في مايتعلق بموقع الكويت في حركة الثقافة العربية إذ بدأت في تجاوز مرحلة الاستقلال لتدخل مرحلة الأخذ والعطاء والمشاركة، ففي خلال سنوات هذه العقد، قطعت الكويت شوطاً أبعد وأنضج في بناء الدولة المستقلة والمجتمع المدني المزدهر والنهضة الثقافية الشاملة.

وأضاف قائلا إن "الكويت نالت في هذا العقد استقلالها عام 1961 وصدر دستور لها بعد إقراره من المجلس التأسيسي المنتخب في العام نفسه، وتم إجراء أول انتخاب لأول مجلس أمة كويتي لتدخل الكويت بأسرها عهداً من الانفتاح السياسي والإعلامي والاقتصادي والثقافي"، حيث بدأ مع هذه المرحلة، نضج ثمار الحركة الثقافية الكويتية، وتمثل ذلك في التلفزيون والفرق المسرحية الأهلية والجمعيات المهنية والصحف والمجلات والدوريات الثقافية وتأسيس معهد الدراسات الموسيقية، وأنشئت جامعة الكويت ومعهد الأبحاث العلمية.

أما رئيس تحرير مجلة "العربي" الدكتور محمد الرميحي فقد عالج مسألة التطور الثقافي في الكويت مجدداً رفضه اعتبار البعض أن الكويت برميل نفط، ومشيراً إلى أن تلك الحقبة الزمنية سوف تمضي ولن يبقى سوى التراث.

الدكتور الرميحي الذي أكد أن النفط قد ساهم في تسريع وتيرة الحركة الثقافية ولم ينشئها، أشار إلى عوامل تطور الوعي الثقافي في الكويت بدءاً من انتهاء الوجود العثماني وظهور المطامع البريطانية، مروراً بإحساس أهل الكويت من تجار وأصحاب علم بأهمية المشاركة في إدارة المجتمع والبحث عن هوية.

واعتبر الدكتور الرميحي أن الدور الثقافي الذي اختارته الكويت كان جزءاً أساسياً من شخصيتها الوطنية ومن انتمائها القومي في الوقت ذاته، لأسباب أهمها إيمانها بأن الثقافة العربية هي رباط أساسي في هذا العالم، وأنها الوسيلة الوحيدة لنقلها من الطرف إلى القلب وأنه إذا ماذكرت القاهرة أو بيروت أو دمشق كعواصم لنشر الفكر العربي، فيجب أن نذكر الكويت أيضا.

من جانبه قال الدكتور مطانيوس الحلبي "إن الكويت لا تنتج نفطاً فقط، وإنما زاداً ثقافياً تنتجه عقول المبدعين والمفكرين في العالم العربي"، متمنياً أن تكون الثقافة العربية "إنمائية" من أجل إحباط "ما يراد لنا من تمزق، كي نتراجع عن مواكبة التطور، ولنعجز عن إرساء استراتيجية مدعومة بالوعي الثقافي".

د. الحلبي الذي أكد أن "مايجمع بين الكويت ولبنان هو تاريخ طويل من الديمقراطية التي لم تستقم إلا ضمن الإطار الثقافي والخلق الفكري، دعا الدول العربية إلى أن تحذو حذو الكويت من أجل تأسيس ثقافة متجددة تؤمن المشاركة الحضارية في مجتمعنا العربي والإنساني والقيام بدور ريادي وطليعي في المشاركة بالعقل الكوني".

المفكر اللبناني منح الصلح قسم الحياة الثقافية في البلاد العربية إلى ثلاث بيئات "متقاربة في غزارة إنتاجها وفي تأثيرها وفي طبيعة الفكر الذي حملته، أولها ظاهرة مصر النهضة في القرن التاسع عشر، وثانيها ظاهرة لبنان التقليدي المعروف منذ الانتداب إلى الاستقلال ومابعده، ثم ظاهرة الكويت وخاصة في فترة تهيوئها للاستقلال، ثم نشوء دولة الكويت وحتى الآن.

وفي معرض تناوله للدور الثقافي الكويتي قال الصلح "لعبت الثقافة ولعب المثقفون في الكويت دوراً مرموقاً في تغلبها على المحنة الكبرى التي حلت بها مؤكداً أن عودتها إلى سابق تألقها جاء بفضل الحيوية التي أظهرتها مع مشاركة بارزة لمثقفيها الذين شكلوا بنواديهم وصحفهم وديوانياتهم وتحسسهم بقضايا مجتمعهم وأمتهم العربية بيئة متألقة داخل الكويت وخارجها. وهو هنا يشير إلى أن هذه الثقافة سواء القطاع التقليدي منها أو العصري كانت منذ بداية العمر السياسي للكويت صانعة مجد الإطلالة الكويتية المشرقة في دنيا العرب والمتفاعلة مع المثقفين العرب الذين عاش فريق من أبرز رموزهم في الكويت، وفيها انتجوا جزءاً من أجود الإنتاج العربي في الصحافة والدراسات المتخصصة والرواية والأدب.

مؤكدا في الوقت نفسه إن الصدر الرسمي والشعبي الكويتي كان دائما هو الأرحب في التعامل مع المثقف العربي.

وشهد اليوم الثالث للتظاهرة الثقافية التي صاحبت الأسبوع الكويتي في بيروت أمسية شعرية مشتركة شارك فيها من الجانب الكويتي الشعراء د. خليفة الوقيان، ويعقوب السبيعي ويعقوب الرشيد فيما شارك فيها عن الجانب اللبناني الشاعران: محمد علي شمس الدين وشوقي بزيع ووسط حضور جماهيري أحسن استقبال الشعراء وتواصل معهم، بدأ الشاعر يعقوب السبيعي الأمسية بإلقاء قصيدته "الأرج" قال فيها:


حوليني لنسمة وبنفسج
وعبير فوق الكويت توهج

صيريني ببسمة منك قلباً
فوق ثلج خلف الشفاه تزلج

حدثيني بنصف حرف فعندي
ألف قلب بآخر النصف يلهج

كان دربي إلى لقائك ورداً
كيف أمسي في عودتي منك عوسج

أما الشاعر شوقي بزيع فقد أعاد جمهور الأمسية إلى ذكريات الاحتلال العراقي للكويت ومآسيه المفجعة، ملتقطا من خيوط الصورة القاتمة جريمة سكب النفط في مياه الخليج العربي، وماتسببت عنه من موت واختفاء جيل كامل من الكائنات البحرية، وتدمير الثروة السمكية والطيور التي تعيش على شواطئه. ففي قصيدته "بجعات الخليج" يستعيد شوقي بزيع هذا المشهد قائلا:


بجعات الخليج تدور على نفسها
تولول أو تستغيث

هل رأيت الدم والنفط
ينعقدان على جسد الطير

هل رأيت الطيور التي علقت
من مناقيرها

هل رأيت الطيور التي
هل رأيت?

وهنا يلتقط الشاعر الكويتي الدكتور خليفة الوقيان هذا المشهد ليقدم شهادته التي يدين فيها أصحاب المغامرات الطائشة التي تستبيح دماء أبناء العروبة ولاتوجه رصاصاتها إلا باتجاه الأشقاء، ففي قصيدته "إشارات" يقول:


أجل
هاهم القادة الفاتحون
يطلون
تلمع أنجم أكتافهم
في الصباح القتيل
تسابقهم حشرجات الرصاص
يسدون كل المنافذ
والطرقات الحزينة
تجتاح نعلهم كل شبر ببيتي
ونبض بقلبي
تبعثر أوراقي الصامتة
تمزق ألعاب أطفالي الخائفين

وفي هذه الأمسية التي غصت بجماهير غفيرة قاطعت الشعراء استحسانا لمرات عدة، واستعادت منهم الكثير من المقاطع، ألقى الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين قصيدة "قبر للأرض" التي أهداها إلى "قانا":


يا أهلي
المشردين في العراء
والمشردين في ثيابي
ياحاملين فوق ظهركم
خرائب الجنوب في الزمان
رأيتكم
تموح في المدى نعوشكم
وترقصون حولها
فتزهرون في العذاب
متى ينام طائر المكان في عيونكم
وتهدأ البيوت في القرى?

وفي نهاية الأمسية نقل الشاعر الكويتي يعقوب الرشيد الحضور إلى أجواء جديدة، إذ ألقى عدداً من القصائد الغزلية ومنها قصيدة "لأجل العيون" وفيها يقول:


لأجل عيونك تشدو الدنا
وتحلو الليالي ويحلو السهر

ويرقص للدفء شاطىء الجمال
وتشدو السماء وينهمر المطر

كانت الحرارة التي قوبلت بها القصائد والتصفيق الحاد أمراً لافتاً للنظر، فلايزال للشعر جمهوره، ومازال التواصل معه مستمراً برغم التبدلات التي شهدها الزمن الحديث، وهنا يعلق الشاعر اللبناني "زاهي وهبة" الذي قدم الأمسية الشعرية قائلا: ربما يتساءل المرء في سره، ماالجدوى، ولماذا عناء المشقة والسفر في زمن الاتصال والتكنولوجيا والأقمار التي ملأت الفضاء? ويجيب عن هذا التساؤل "إن حرارة اللقاء الإنساني تبقى الأكثر سخونة ومودة حين يحدث التواصل على الأرض لاعبرالفضاء، وتلك هي أبرز الصفات الحسنة للأسبوع الثقافي الكويتي في لبنان، حيث الإنسان عن قرب وعن كثب يقدم نفسه، وصورته كما هي في الواقع لاكما تبثها الموجات.

وثائق وملفات

وشهدت فعاليات اليوم الرابع لهذا الأسبوع الثقافي حلقة نقاشية حول الفن التشكيلي شارك فيها فنانون تشكيليون كويتيون هم حميد خزعل ومحمد البحيري وعبد الرسول سلمان وثريا البقصمي، وأدارت تلك الندوة الدكتورة زينات البيطار، وفيها قدم الفنانون الكويتيون عرضا لتاريخ الحركة الفنية وتطورها وصولا إلى مرحلة الغزو العراقي التي تأثر الفنانون بها، وانعكست على أعمالهم.

وأعقب ذلك ندوة حول "الأسرى الكويتيين في العراق والأسرى اللبنانيين في إسرائيل"، شارك فيها مدير عام اللجنة الوطنية الكويتية لشئون الأسرى والمفقودين الذي قدم شرحاً لمحاور عمل اللجنة، أشار خلاله إلى أن بلاده قدمت وثائق وملفات تؤكد وجود هؤلاء الأسرى في العراق وآخر المعلومات عن كل أسير ومفقود على حدة.

العنزي أكد أنه بفضل هذه الوثائق اعترف العراق بـ 126 حالة إلا أنه عاد وزعم أنه فقد أثرهم. وأوضح أن اللجنة وضعت طريقة لرعاية أسر المفقودين والأسري فلم تفرق بين أسرة أسير ومفقود كويتي وغير كويتي في المعاملة، بل إن هناك أسراً غير كويتية تتلقى مساعدات من اللجنة لحين جلاء مصير أسيرهم ومفقودهم.

وقال العنزي "إنه إذا كان النظام العراقي يدعي إنه لايعرف أي شيء عنهم فليدع المنظمات الدولية الإنسانية للتحقق من ذلك بالسماح لها بزيارات للعراق، وإذا كان يدعي أنهم توفوا فلنا الحق في استعادة رفاتهم ودفنهم في الكويت.

أما الدكتور محمد الرميحي الذي شارك في هذه الندوة فقد قسم حالات الأسرى إلى ثلاث أولها أنهم اعتقلوا خارج جبهة القتال المباشرة، والثانية أنهم أسرى عرب لدى نظام عربي، وهي حالة لم يحدث مثيل لها في التاريخ الحديث، والثالث هو عدم اعتراف النظام العراقي بهم.

الدكتور الرميحي أشار إلى أن الاهتمام بالأسرى عائد إلى أن مقارنة عدد هؤلاء والبالغ 610 أسرى بعدد سكان الكويت والبالغ 600 ألف نسمة، يعني أن هؤلاء يمثلون نسبة كبيرة، بحيث لايوجد حي أو بيت أو أسرة إلا ولها أسير أومفقود.

وقدم المحامي اللبناني إبراهيم العبدالله شرحاً للاتفاقيات والمواثيق الدولية التي تحرم اعتقال أي شخص بسبب معتقده الديني أو السياسي، مشيراً إلى أن أهم المبادىء والضمانات التي ارتكزت عليها هذه القوانين والمواثيق هي احترام جميع المرضى والغرقى واعتبار أن كل معتقل يقع في أيدي الخصم أسير حرب، وأنه يجب أن يتمتع بمعاملة إنسانية في جميع الأوقات والسماح للأسرى فور وقوعهم في الأسر بالكتابة مباشرة إلى ذويهم.

ودعا رئيس لجنة حقوق الإنسان والحريات العامة في المنتدى القومي العربي الدكتور هاني سليمان، إلى "إطلاق مبادرة كبرى، تنطلق من روح الأمة ومن رحابها لتعيد المفقود الكويتي إلى أهله، وتعيد للإنسان العربي ثقته بنفسه، وتمنحه القدرة على مواجهة مايحاك له من أخطار وتهديدات، فالعدو الصهيوني لن يفرق غداً بين عربي وآخر". مؤكداً أن الأسرى اللبنانيين في المعتقلات الصهيونية وإن كانوا يمثلون شهادة حية على عنصرية إسرائيل ووحشيتها، فإن ذلك يظل أقل قسوة من تلك التي يمثلها عربي مفقود في بلد عربي آخر.

اختتام غنائي

في اليوم الختامي لفعاليات الأسبوع الحافلة، أحيت فرقة الأوركسترا الشرقية التابعة للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويتي أمسية موسيقية وغنائية ساهرة، وعزفت خلال حفل شهده المسرح الأول في بيروت، وصلات كلاسيكية شرقية، أدى خلالها المطربان حمد المانع ومشعل حسين أغنيتين للموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب والمطرب الكويتي الراحل عوض الدوخي.

وقادت الفرقة المؤلفة من 33 عضواً الدكتورة أمل ماجد البشير وعن أداء الفرقة الذي حاز إعجاب الحضور، قال الفنان منصور الرحباني "إنني أعلن دهشتي أمام هذه الأشياء الجميلة، فهنا إحساس مزدوج يعتريك: الحنين إلى الماضي الآسر والمعذب في آن، ثم الدخول السحري في العصر، وقد أعجبتني كثيرا هذه الموسيقى التي سمعتها، لقد أصغيت إليها بعيني أيضا، إنها خلاصة أرض وشعب ينتمي بقوة إلى الحياة.

أما الجزء الثاني من الحفل فقد اختتمه المطربان، غريد الشاطىء وصالح الحريبي بأغنيات كويتية قديمة، لتنتهي بذلك فعاليات أسبوع رائع احتضنته بيروت، وعانقت فيه الفن والأدب والثقافة الكويتية، لتؤكد من جديد علو هامة الرباط الثقافي وضرورة بذل الجهود لجعله أحد عوامل إعادة اللحمة بين أبناء الوطن الواحد، بعد أن كادت الحوادث المؤلمة تحيل الفرقة إلى واقع.

لقد كان أسبوعاً حافلاً أكد لنا أن الحياة عادت بقوة للنبض في شرايين لبنان، وأن الحرب الدموية قد استحالت إلى ذكرى بغيضة.. عابرة.

أنور الياسين مجلة العربي مارس 1997

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016