سؤال طرحه الأطباء بعدما لاحظوا ارتباط ظاهرة تدمير خلايا المخ بالضغوطات الحياتية التي يتعرض لها المرضى.. فهل هناك علاقة؟!
أثناء الحرب العالمية الأولى لاحظ الأطباء ظاهرة غريبة ظهرت بين بعض المحاربين الذين عادوا من الحرب تمثلت بالخوف والشعور بالرعب لأبسط المؤثرات الخارجية مثل قفل الباب بشدة، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لاحظ الأطباء ظاهرة مماثلة عرفت في ذلك الوقت "بإجهاد المعركة". وفي الوقت المعاصر يجمع العلماء على تسمية هذه الظاهرة باسم "الاضطرابات النفسية الناجمة عن ضغوط الحياة المدمرة"، Post-traumatic stress disorder PTSD، فالاعتداء الجنسي أثناء فترة الطفولة أو تعرض أسرة للاعتداء من قبل شخص مسلح دون أدنى تحذير، وتعرض جندي في المعركة للحظات رهيبة يرى فيها من حوله فارقوا الحياة في لحظات تعد من أمثلة هذه الضغوط. وطبقا للجمعية الأمريكية للطب النفسي فإن هؤلاء الأشخاص يعانون فيما بعد من كوابيس واضطرابات النوم والاضطرابات النفسية وفقدان الشعور بالأمان والشعور بالضعف وفقدان الذاكرة وعدم القدرة على التركيز، وهم يعيشون من وقت لآخر هذه اللحظات المرعبة التي سبق وأن مروا بها وتدور أحداثها أمام مخيلتهم بسرعة شديدة وكأنها فيلم سينمائي لا ينتهي.
ما المشكلة بالضبط؟
الواقع أن فقدان الذاكرة وعدم القدرة على التركيز جذب عددا من العلماء لدراسة هذه الظاهرة بشىء من التفصيل واستخدام التكنولوجيا المتوا فرة حاليا لتصوير أمخاخ هؤلاء المرضى ودراسة وتحديد التغييرات التي قد تنتج عنها، وتبين للعلماء إثر دراسات مكثفة وجود عدد من التغييرات الميكروسكوبية التي تحدث في أمخاخ هؤلاء المرضى نتيجة تعرضهم لضغوط خارجية شديدة ويمكن تلخيصها كالآتي:
1 - عدم قدرة بعض الألياف العصبية على إفراز المواد الكيميائية المصاحبة للإشارات العصبية.
2 - اضطراب إفراز الإنزيمات الخاصة بتكسير هذه المواد الكيميائية العصبية.
3 - اضطراب المستقبلات الموجودة على الخلايا العصبية.
ولكن أثناء السنوات القليلة الماضية بدأ بعض العلماء دراسة التغييرات التشريحية التي تحدث في مرضى PTSD وكان من أهم ما ركزوا عليه دراسة حجم المناطق المختلفة للمخ والحجم العام للمخ وعمر المريض ونوعه ومستواه التعليمي، كما تبين لمجموعة أخرى من العلماء بالولايات المتحدة الأمريكية أن هناك منطقة معينة في المخ تعرف باسم Hippocampus تبدو أصغر بكثير من حجمها الطبيعي عند هؤلاء المرضى.
والواقع أن هذا الاكتشاف الجديد جذب عددا من العلماء لدراسة هذه الظاهرة، فالمعروف منذ سنوات طويلة أن منطقة الـ Hippocampus مسئولة عن الذاكرة وعن مراجعة الأحداث التي حدثت في الماضي وأن اتلاف هذه المنطقة جراحيا أو بسبب المرض عادة ما يصحب بفقدان الذاكرة، كمرض الزهايمر Alzheimer's Disease الذي يتميز بفقدان الذاكرة تدريجيا ويصاحب ذلك تغيرات مرضية في منطقة الـ Hippocampus الخاصة بالذاكرة.
لذلك بدأ العلماء تكثيف جهودهم للتأكد من أن "الاضطرابات الناجمة عن ضغوط الحياة المدمرة" PTSD مصحوب بضمور هذه المنطقة بالمخ وأن باقي أجزاء المخ لم تصبها أي تغييرات مرضية، فضمور منطقة الـ Hippocampus عند هؤلاء المرضى يصل إلى أقل من 25% من الحجم الطبيعي، وهذا بالطبع ليس بالهين، فمنطفة الـ Hippocampus عند هؤلاء المرضى ضمرت بصورة شديدة.
لماذا تحدث هذه التغييرات؟
على الرغم من اتفاق العلماء على أن "الاضطرابات الناجمة عن ضغوط الحياة المدمرة" PTSD مرتبط بضمور هذه المنطقة بالمخ فإنهم لم يتوصلوا بعد إلى سبب حدوث الضمور وما هي ميكانيكية حدوثه، فالطبيب "برمنر" من جامعة نيويورك يؤكد ان هرمون الكورتيزون يعد السبب وراء هذا الاضطراب، فعندما نتعرض لضغوط الحياة الشديدة سيكولوجية أو جسمية كانت فإن الغدد فوق الكلوية تقوم بإفراز كميات كبيرة من هرمون الكورتيزون الضروري لمواجهة ضغوط الحياة.
ويضيف "برمنر" أن منطقة Hippocampus تتميز بوجود مستقبلات الكورتيزون وهي أكثر مناطق المخ حساسية لهذا الهرمون لذلك، فزيا دة إفراز الكورتيزون في الدم من الممكن أن تؤدي إلى اتلاف الخلايا العصبية الموجودة بمنطقة الـ Hippocampus بالمخ.
ويواجه هذه النظرية حاليا عدد من المشاكل منها: ما يدل علميا على التغييرات التي تحدث على مستوى هرمون الكورتيزون في الدم أثناء التعرض لضغوط الحياة الشديدة.
كما لا يوجد دليل علمي على ميكانيكية تلف الألياف العصبية بمنطقة الـ Hippocampus نتيجة زيادة إفراز هرمون الكورتيزون.
نظرية جديدة
لقد تمكن مجموعة علماء من قياس هرمون الكررتيزون في دم المرضى المصابين بداء PTSD وعلى عكس المتوقع وجدوا أن مستوى هرمون الكورتيزون عند هؤلاء المرضى أقل من مستواه الطبيعي ومع تحليل هذه الظاهرة ودراستها وجدوا أن خلايا المخ في منطقة Hippocampus لديها حساسية زائدة لهرمون الكورتيزون الأمر الذي يفسر قلة الحاجة إلى هذا الهرمون ونقص إفرازه، لذلك فالعلماء حاليا يؤكدون أن المشكلة ترجع إلى زيادة حساسية الخلايا العصبية لهرمون الكورتيزون بعد التعرض إلى ضغوط الحياة الشديدة وليس زيادة إفرازه من الغدة فوق الكلوية.
ومن هنا يمكن القول إن العلماء في كلتا النظريتين تمكنوا من تحليل ظاهرة فقدان الذاكرة المصاحبة لضغوط الحياة والتغييرات المرضية التي تحدث في منطقة الـ Hippocampus ودور هرمون الكورتيزون ومستقبلاته في حدوث هذه الظاهرة.
أين الحقيقة؟
ومع استمرار جدال العلماء وبحثهم عن الحقيقة لتفسير هذه الظاهرة يبقى في حكم المؤكد أن 15 إلى 30 من الجنود الذين يعودون من الحرب يصابون بداء PTSD وسط تساؤلات عن سبب حدوث هذه الظاهرة في بعض الجنود دون غيرهم؟ وهل كل إنسان يتعرض لضغوط الحياة الشديدة يصاب بهذا الداء؟
ربما لو غيرنا تسلسل ميكانيكية هذه الظاهرة لبدت الأمور بطريقة مختلفة، فمرضى PTSD الذين لديهم الاستعداد لحدوث هذه الظاهرة ربما تكون منطقة الـ Hippocampus عندهم أصغر من الطبيعي منذ الصغر وعندما يتعرضون للإصابة وضغوط الحياة الشديدة تظهر عليهم أعراض المرض ويفقدون الذاكرة تدريجيا، كما يرجع السبب أيضا إلى اختلاف أمخاخهم في ترتيب وتنظيم المعلومات وطريقة تذكرهم للأمور والأحداث، لذلك يعكف العلماء على دراسة ما إذا كان ضمور الـ Hippocampus المسئول الأول عن ظهور PTSD حيث يقوم حاليا عدد من العلماء بالولايات المتحدة الأمريكية بدراسة التصوير الإشعاعي باستخدام الرنين المغناطيسي لأمخاخ هؤلاء المرضى بعد تعرضهم مباشرة لصدمة شديدة في الحياة ثم متابعة أي تغييرات تنشأ عليهم أثناء الفترات التالية للصدمة ويمكن من خلال هذه الدراسات تقديم إجابة وافية للعديد من الأسئلة وأهمها: هل يؤدي ضمور Hippocampus إلى زيادة القابلية لظهور "الاضطرابات الناجمة عن ضغوط الحياة المدمرة" PTSD؟ وهل ستساعد هذه المعلومات في تحديد الأشخاص ذوي الاستعداد لظهور هذا المرض فيما بعد؟
ماذا عن ضغوط الحياة اليومية؟
هل ضغوط الحياة اليومية مثل القلق بسبب الضيق المالي، المشاكل مع الرئيس في العمل، الخلافات الزوجية، المشاكل مع الأبناء ومشاكل وضغوط الحياة بصورة عامة تؤثر بنفس الطريقة على خلايا المخ؟ وهل تؤدي في النهاية إلى ضمور الألياف العصبية الموجودة في منطقة الـ Hippocampus ؟ وهل مرض العته مثلا يأتي نتيجة لضغوط الحياة؟ وهل الاستعداد الوراثي لمرض العته مرتبط بضمور منطقة الـ Hippocampus في المخ؟
هذه الأسئلة وغيرها يمكن الإجابة عنها، فلو ثبت مثلا أن داء PTSD ينشأ في الأشخاص المعرضين للمرض والذين تتميز أمخاخهم بصغر حجم منطقة الـ Hippocampus فهؤلاء الأشخاص يجب إعفاؤهم من الخدمة العسكرية مثلهم مثل هؤلاء الذين يشير الكشف الطبي عليهم إلى وجود اضطرابات بصمام القلب مثلا.
أما إذا ثبت لنا أن ضمور منطقة الـ Hippocampus يأتي نتيجة التعرض الشديد لضغوط الحياة المدمرة فتجب دراسة ميكانيكية حدوث الضمور والعوامل التي تزيد من ظهوره وبالتالي كيفية الوقاية من حدوثه بقدر الإمكان.
عزيزي القارئ.. ضغوط الحياة ليست فقط مسئولة عن ارتفاع ضغط الدم والشعور بالهزيمة والاجهاد والتعب والقلق والإصابة بنوبات من الصداع وربما الشعور بالإحباط، فضغوط الحياة قد تكون مسئولة عن تدمير مناطق خاصة بالمخ وزيادة الإصابة بفقدان الذاكرة وربما ظهور مرض الزهايمر.
ورغم زيادة الاهتمام بهذه الظاهرة فإن لغزها مازال يحير العلماء، ولا تزال هناك العديد من الأسئلة التي لا تعرف إجابة وافية عنها حتى الآن.