تؤدي الصورة الشعرية في الشعرالكلاسيكي وظيفة لا تفارق دوائرالوصف والمحاكاة. وربما كان الادق أن نطلق عليها صورالمحاكاة فحسب.
تنطوي الدلالة الكلاسيكية للمحاكاة على معنيين، أولهما: محاكاة الطبيعة بما فيها الإنسان وتصويرها تصويراً صادقاً، وثانيهما محاكاة المبدعين القدماء بوصفهم طبيعة ثانية مضافة إلى الطبيعة الأولى. وأصل الحركة في الدائرة الأولى من المعنى هو نفسه الموجود في الدائرة الثانية، فالمحاكاة تعني التقليد في الحالين، والنسج على منوال سابق، سواء كانت المحاكاة تقليداً للطبيعة أو نسجاً على منوالها، أو كانت تقليداً لأعمال السابقين التي كانت، بدورها، تقليداً للطبيعة ونسجاً على منوالها، ولذلك كانت محاكاة القدماء نوعاً من تقليد التقليد، أو محاكاة ثانية بالدلالة التي أستخدمها بعض البلاغيين العرب، ومنهم حازم القرطاجني في كتابه "منهاج البلغاء وسراج الأدباء".
لكن علينا ملاحظة أن اقتران المحاكاة بالتقليد في نوعيها لم يكن يعني الاكتفاء بالنقل عن الطبيعة أو عن السابقين فحسب، بل كان يجمع إلى معنى النقل اتباع الطرائق نفسها في العمل والالتزام بالقواعد ذاتها في الصياغة والبناء، وذلك بالقدر الذي كان يسمح للاحق أن يبرز تميّزه على السابق في الإطار نفسه من إمكانات المحاكاة أو أفقها الذي كان يسمح بإبراز المهارة، كما كان يسمح للمتأخر أن ينافس المتقدم في المضمار نفسه من الصنعة. وذلك هو المعنى الذي قصد إليه أعلام المدرسة الإحيائية مع نهضة الشعر العربي الحديث، حين كان الشعرأء يؤكدون صلتهم بالسابقين ومنافستهم معهم في الوقت نفسه، تماماً كما قال محمود سامي البارودي:
فيا ربما أخلى من السبق أول
وبز الجياد السابقات أخير
هذا الشعور بضرورة متابعة القدماء في المضمار ذاته والتفوق عليهم في الوقت نفسه هو الشعور الذي امتلأ به البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيموغيرهم من شعراء الإحياء، وهو الشعور الذي أنطوت عليه دلالات المحاكاة، سواء في المعنى الذي وصلها بالطبيعة وقرنها بمنافسة الطبيعة في الأفق نفسه من إتقان الصنع، أو المعنى الذي وصل السابق باللاحق في دائرة الاتباع التي لم تخل من معنى المنافسة، ولذلك كانت صور الوصف في الشعر الإحيائي محاكاة للطبيعة على سبيل تقديمها للحس، أو تصويرها لمخيلتنا كأننا نراها، وذلك بالبراعة نفسها التي هي لازمة من لوازم إتقان الصنع في عمل الطبيعة، كما كانت صور الوصف في الوقت نفسه محاكاة للشعر القديم في المجال نفسه الذي تتسع به حدقتا الشاعر ليلتقط تفاصيل المشهد ويصوغه.
قلب السمع بصرا
وقد كان الشاعر الإحيائي في أدائه صور الوصف والمحاكاة يتحرك في أفق من المبادئ البلاغية الموروثة التي صاغها أمثال قدامة بن جعفر صاحب كتاب "نقد الشعر" وأبي هلال العسكري صاحب "كتاب الصناعتين" وابن رشيق صاحب كتاب "العمدة". ولقد ذهب الأول إلى أن أحسن الشعراء وصفاً هو من أتى في شعره بأكثر المعاني التي يتركب منها الموصوف، وأظهرها فيه وأولاها، حتى يحكيه ويمثله للحس بنعته. وذهب الثاني إلى أن أجود الوصف ما استوعب أكثر معاني الموصوف "حتى كأنه يصوّر الموصوف لك، فتراه نصب عينك ". وذهب الثالث إلى أن أحسن الوصف، "ما نعت به الشيء حتى يكاد يمثله عيانا للسامع "، كما ذهب إلى أن "أبلغ الوصف ما قلب السمع بصرا"، ولا تبعد دلالة العبارة الأخيرة عن دلالة "حكاية" الموضوع و "تمثيله للجسم بنعته" عند قدامة، ولا عن دلالة جودة الوصف الذي يصور الموصوف "فتراه نصب عينك"، فكلها دلالات متكررة الرجع في إشارتها إلى بلاغة المحاكاة التراثية التي هي وصف يضعنا في حضرة الأصل، أو الوصف الذي هو محاكاة تمثيلية أمينة للأصل.
الشعر.. رسم
ويعني ذلك أنه لا فارق جذرياً بين مسمّى الوصف ومسمّى المحاكاة في أفق المبادئ البلاغية الموروثة التي انطوت عليها مجالات الشعر الإحيائي. وذلك من حيث الانتساب إلى مبدأ الصناعة الشعرية الأساسي الذي يتضمن مفارقة الاتباع الذي هو منافسة والمنافسة التي هي اتباع. وقد نتجت عن هذه المفارقة خصائص الصور الشعرية التي انبنى بها الشعر الإحيائي وتميز عن غيره، في دائرة التقديم الحسّي للموضوعات، وهي الدائرة التي وصلت معنى المحاكاة بمعنى التصوير، خصوصاً في علاقة المحاكاة بمشاهد الطبيعة، ومن ثم قدرة الشعر على تقديم موضوعات هذه الطبيعة إلى الحس بنعتها. والتصوير هو الوجه الآخر من المحاكاة في هذه الدائرة. ولا تفارق دلالته أفتراضين: أولهما أن أسلوب الشعر في الصياغة اللغوية يقوم على تقديم الموضوعات بطريقة حسّية، أو محاكاة الموضوعات بما يبرزها في مدركات حس المتلقي، وثانيهما أن هذه الخاصية التصويرية في الشعر تجعله قرينا للرسم، ومشابها له في بعد أساسي من أبعاد التشكيل والصياغة، والتأثير والتلقي، وإن اختلف عنه في المادة التي يصوغ بها ويصوّر بواسطتها. ولذلك تحدث الجاحظ، قديماً، عن الشعر الذي وصفه بأنه "جنس من التصوير"، وذهب عبد القاهر الجرجاني إلى أن من صفات الشعر أنه يفتح "إلى مكان المعقول من قلبك بابا من العين". وقارن عبد القاهر بين التصويرات الشعرية و "التصاوير" التي يصنعها الحذاق من الرسّامين أو المصوّرين.
اللوحة الشعرية
وتلتقي كل هذه الأبيات لتحدد مفهوم الشاعر الإحيائي عن شعره في علاقته بموضوعات الطبيعة ومدركاتها، وكيف كان هذا الشاعر يرى شعره على أنه محاكاة بالكلمات التي تهدف إلى تقديم صور تعكس الأشياء كما تفعل العين الإنسانية أو صفحة الماء أو الة التصوير، وذلك هو السبب في أن المتمعن في الشعر الإحيائي يسهل عليه ملاحظة أن كلمة "التصوير" أو "الصورة" لا ترد عادة في هذا الشعر إلا وهي مقترنة بفعل "يرى" أو فعل "يبصر" أو مشتقات كل منهما، الأمر الذي يجعلها تترادف ومعنى اللوحة (Picture) التي يرسمها الرسام أو الصورة التي تلتقطها آلة التصوير التي كانت اختراعاً مثيراً في ذلك الوقت. ودليل ذلك ما حرص الشاعر الإحيائي على توصيله إلى قرائه، خصوصاً في مجال الاستطراف الذي كان يدفعه إلى ذكر آلة التصوير، غير مفارق الوعي بالتقاليد التي كانت تدفعه إلى أن يقارن عمله بعمل الرسام في دائرة محاكاة الإحساسات البصرية. ومثال ذلك ما يقوله محمود سامي البارودى:
ذا تلفت لم أبصر سوى صور
إفي الذهن يرسمها نقاش آمالي
أوما قاله حافظ إبراهيم عن شكسبير:
ولوع بتصوير الطباع فلم يجز
بعاطفة إلا حسبناه يرسم
أراني في ماكبيث للحقد صورة
تكاد بها أحشاؤه تتضرّم
وقد ترتب على هذا الفهم للتصوير حرص الشاعر الإحيائي، أثناء معالجته شعره، على أن يري قارئه شيئاً منظوراً في كل أوصافه التي تتحدث عن المرأة أو الطبيعة أو الخمر. كما لو كان هذا الشاعر يفترض ان التقديم البصري للموضوع هو الذي يعجب القارئ ويثير دهشته.
ولذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن يضع شوقي (أو يضع من تولى إعداد الجزء الثاني من الشوقيات) لإحدى قصائده عنوانا هو "البسفور كانك تراه " جنباً إلى جنب عناوين موازية من قبيل "منظر الشروق والغروب في عالم الماء من أعلى السفينة" و "منظر طلوع البدر من السفينة" و "بلدة المؤتمر لناظرها في بهجة مناظرها"، وكلها عناوين تشبه غيرها في الإلحاح على "المنظور" في تقديم "منظر" الطبيعة بعيني الشاعر "الناظر" إلى بهجة "مناظرها".
وإن دل ذلك على شيء، فإنما يدل على مبدأ جمالي (كلاسيكي) صاغه البارودي شعراً بقوله في أحد أبياته:
لا غرو أن همت من وجد بصورتها
فالحسن مشغلة للعقل والبصر
العقل والبصر
ولعل في الجمع بين العقل والبصر ما يؤكد الصفات الكلاسيكية للشعر الإحيائي، خصوصاً في تأكيد حضور العقل الذي يحكم حركة الخيال الإحيائي ويوجهّها، مقروناً بتأكيد حضور البصر الذي وضعه التراث العقلاني العربي في موازاة العقل، من حيث غلبته على بقية الحواس ورياسته لها. وكانت نتيجة ذلك تقليص الخيال في دائرة المنظور وحده، كما لو كنا لا نستطع أن نتخيل صورة ليست بصرية. وكان تراثنا العقلاني في ذلك متابعا للتقاليد الكلاسيكية التي أسس لها أرسطو مهادها في كتابه عن النفس، خصوصاً حين أكد أن البصر هو الحاسة الرئيسية للإنسان، وانه لهذا السبب اشتق اسم التخيل (Phantsasia) في اليونانية من النور (Phaos) إذ دون النور لا يمكن أن ترى. " وذلك تأكيد تردّدت أصداؤه في الفلسفة الإسلامية. ولا أدل عليه مما يقوله أحد "إخوان الصفا" من "أن السمع والبصر من أفضل الحواس وأشرفها التي وهب الباري جل ثناؤه للحيوان، ولكني أرى البصر أفضل لأنه كالنهار والسمع كالليل".
وعندما يغدو البصر قرين العقل في مشغلة الحسن ، ويغدو " النظر" نفسه مرادف " التعقل" في التقاليد الكلاسيكية نفسها، فمن الطبيعي أن يتبادل كل من العقل والبصر الصفات، وأن يصبح البصر تعقلا للأشياء في جميع تفاصيلها ، وإدراكاً لها في كل هيئاتها. الأمر الذي يجعل من فعل المحاكاة نفسها فعل تقليد لما يدركه البصر بالدرجة الأولى، ويلزم عن ذلك أن يغدو استقصاء المشهد ونقل كل جزئياته وعناصره أسلوباً متبعاً، لا يمكن أن يتخلى عنه الشاعر، أو يقصر فيه، خصوصاً في أبواب الوصف، وذلك لكي يحقق لقارئه إمكان الرؤية البصرية المطلوبة.
وهناك قصة بالغة الدلالة في الحرص على هذا الأسلوب، رواها أحمد عبدالوهاب أبوالعز الذي عمل سكرتيراً لأمير الشعراء أحمد شوقي في الفترة الأخيرة من حياته، وذكرها في كتابه "اثنا عشر عاماً في صحبة أمير الشعراء" الذي صدر عن المكتبة التجارية في القاهرة سنة 1932 بعد شهر تقريباً من وفاة أحمد شوقي. ويسترجع أحمد أبوالعز في هذه القصة ما حدث في الساعة الخامسة من مساء الثامن عشر من يوليو سنة 1931، حين كان يسير مع أمير الشعراء في الشارع الجديد (في ذلك الوقت) الموصل من المنتزه إلى شارع أبي قير في ضواحي مدينة الإسكندرية، وكان ذلك الشارع هو الشارع الذي تعوّد شوقي الرياضة فيه يومياً سيراً على الأقدام. وعندما خرج الاثنان من السيارة للتريض، وقف شوقي ينظر إلى النخيل، ثم قال لسكرتيره اكتب، فأخرج السكرتير قلماً وورقة، وأملى عليه شوقي أبياته التي تقول:
أرى شجراً في السماء احتجب
وشقّ العنان بمرأى عجب
مآذن قامت هنا أو هناك
ظواهرها درج من شذب
وليس يؤذن فيها الرجال
ولكن تصيح عليها الغرب
وباسقة من نبات الرمال
نمت وربت في ظلال الكتب
كسارية الفلك أو كالمسلة
أوكالفنار وراء العبب
تطول وتقصر خلف الكثيب
إذا الريح جاء به أو ذهب
تخال إذا اتقدت في الضحى
وجرّ الأصيل عليها اللهب
وطاف عليها شعاع النهار
من الصحو أو من حواشي السحب
وصيفة فرعون في ساحة
من القصر واقفة ترتقب
قد اغتصبت بفصوص العقيق
مفصلة بشذور الذهب
وناطت قلائد مرجانها
على الصدر واتشحت بالقصب
وشدّت على ساقها مئزرا
تعقد من رأسها للذنب
وعند البيت الأخير، كان شوقي وسكرتيره قد قطعا قرابة كيلومتر سيراً على الأقدام، وكان يتخلل المسير قليل من الوقوف والنظر إلى النخيل، ثم ركب الشاعر وسكرتيره السيارة، وبعد مسافة قصيرة قال له: اكتب، فأخرج السكرتير قلمه للمرة الثانية، فأملاه شوقي:
أهذا هو النخل ملك الرياض
أمير الحقول، عروس العزب
طعام الفقير، وحلوى الغنى
وزاد المسافر والمغترب
فيا نخلة الرمل لم تبخلي
ولا قصرت نخلات الترب
وأعجب كيف طوى ذكركن
ولم يحتفل شعراء العرب
أليست حراماً خلوّ القصائد
من وصفكن وعطل الكتب
وأنتن في الهاجرات الظلال
كأن أعاليكن العبب
وأنتن في البيد شاة المعيل
جناها بجانب أخرى حلب
وعند هذا البيت، وصلت السيارة منتصف شارع فكتوريا الذي تغير أسمه إلى شارع إسماعيل صدقي، ثم تغير اسمه بعد ذلك ، فقال أحمد شوقي لسكرتيره: كفى، فردّ الرجل قلمه وورقه إلى جيبه، ولكن لم تمض بضع ثوان حتى قال له شوقي ثانية: أنظر إلى جمال هذه النخلة في حديقة المنزل، وأشار إلى منزل على اليمين، ثم قال لسكرتيره اكتب: وأنتن في عرصات القصور حسان الدمى الزائنات الرحب ثم قال: كفى. وعندما وصلا إلى المنزل في النهاية، وفتح باب السيارة، قال شوقي لسكرتيره، ألست دمياطيا؟ قال السكرتير: نعم. قال شوقي: كأنك ولدت في وسط النخيل، فمدينة دمياط محاطة بكثير من النخيل. فماذا رأيت؟ وهل تركنا من صفات النخيل شيئاً ؟ وخرج من السيارة إلى " فراندة" المنزل، وجلسا، وأخذ السكرتير يتذكر بضع دقائق، ثم قال لشاعره: لم نترك إلا تعدد ألوان النخل، فابتسم شوقي وقال: أنت اليوم حاضر الذهن، ثم قال : اكتب، وقبل أن يخرج السكرتير الورق والقلم كان شوقي قد قال:
جناكن كالكرم شتى المذاق
وكالشهد في كل لون تحب
والقصة كلها واضحة الدلالة على حرص الشاعر على استقصاء تفاصيل المشهد الذي كان يعانيه ويتمعن فيه حتى يحكيه للحسن الشعري بنعته وكل تفاصيله. والشبه واضح بين الشاعر والرسام في هذه العملية، فأحمد شوقي ظل يداوم النظر إلى موضوعه، محدقاً فيه كي يلتقط كل ما يساعد على نقل موضوعه الشعري في قصيدته التي أصبحت أشبه باللوحة في علاقتها بالموضوع المباشر (الموديل) الذي يصوّره الرسام، أو أصبحت شبيهة " اللقطة " الفوتوغرافية في أمانة النقل. وهدف الاستقصاء واضح في متابعة تجليّات الموضوع. أو تعدد أشكال حضوره، وهو هدف يكتمل بالاختبار الذي دفع به شوقي سكرتيره إلى مساءلة القصيدة التي صاغها ( والمنشورة في الجزء الرابع من ديوانه بعنوان " النخيل ما بين المنتزه وأبي قير" ليتأكد من استقصاء جميع التفاصيل، فيكتشف بهذا الاختبار خاصية تعدد ألوان الثمر التي أغفلها، فينظمها بيتاً على الفور كي تكتمل التفاصيل.
منافسة القدماء
ومن اللافت للانتباه أن يتضافر هذا الحرص على منافسة الطبيعة في التصوير المحاكي لها مع منافسة القدماء، ليس في تقنية النظم فحسب، وإنما في استكمال ما فاتهم من وصف النخل الذي يأخذ عليهم شوقي التقصير فيه، مضيفاً إلى ما تركوه ما يؤكد حضوره الخاص في تقاليد المنافسة التي لا تخرج عن معنى الاتباع. ويبدو الأمر، من هذا المنظور، كما لو كان شوقي لايكتفي باستقصاء عناصرالمشهد التي يحاكي بها جمال الطبيعة، وأنما يكمل الاستقصاء بما تفوّق به على القدماء في باب الوصف الذي أغفلوا فيه إعطاء النخلة حقها. ولذلك يعجب شوقي في أبياته من إغفال شعراء العرب وصف النخلة مع أنها الظل في الهجير، والبحر في جناها المثمر، كما أنها مصدر الغذاء لمن كثرت عياله، وجناها عذب الطعم في مذاقه الذي يزيل الإحساس بالعطش.
ولا تقتصر هيمنة حاسّة العين على القصيدة السابقة، وإنما تجاوزها إلى غيرها من القصائد عند شوقي وعند غيره من شعراء الإحياء، ودليل ذلك ما لاحظه محمد حسين هيكل في تقديمه ديوان البارودي، خصوصاً حين أكد أن "تصوير المنظور صفة بارزة في شعر البارودي كله "، وأن البارودي يحرص في وصفه على "تصوير المشهد الذي تراه أعيننا كما يراه هو".
وقد أكد محمد حسين هيكل أن هذه الخاصية تبرز على نحو خاص عندما لا يقوم البارودي بتقليد القدماء، ولكنه استدرك على نفسه بقوله إن هذا التصوير للمنظور كان يغلب على البارودي حتى وهو يقلد القدماء، كما في يائيته التي قالها في صباه معارضا قصيدة الشريف الرضي "لغير العلا منى القلى والتجنّب "، وهي البائية التي نقرأ فيها:
وفتيان لهو قد دعوت وللكرى
خباء بأهداب الجفون مطّنب
إلى مربع يجري النسيم خلاله
بنشر الخزامى، والندى يتصبب
فلم يمض أن جاءوا ملبّين دعوتي
سراعا كما وافى على الماء ربرب
غلبة العين
وغلبة الصورة البصرية على الأبيات وأضحة، حتى مع وجود ما يتصل بحاستي الشم واللمس في نشر رائحة الخزامى وتصبّب الندى، لكن أهداب الجفون هي التي تحتل موضع الصدارة لتفتح الأبيات في سياقها على العين التي لا تكف عن التحديق في المشاهد التي تسرح النواظر فيها، كما يقول البارودي نفسه في غير هذه القصيدة. واذا كانت "أهداب الجفون" دالاً ينصرف مدلوله الأول إلى الفتنة بالمنظور، في الإلحاح على محاكاة الوصف التي تقلب السمع بصرا، فإن "معاقد الأجفان" دال مواز، يبرزه استهلال القصيدة التي كتبها البارودي سنة 1865، جين كان يحارب مع جند السلطان العثماني متمردي جزيرة "كريت " (أقريطش) اليونانية:
أخذ الكرى بمعاقد الأجفان
وهفا السرى بأعنّة الفرسان
والليل منشور الذوائب ضارب
فوق المتالع والربّا بجران
لا تستبين العين في ظلمائه
الا اشتعال أسنّة المرّان
تسرى به ما بين لجّة فتنة
تسمو غواربها على الطوفان
في كل مربأة، وكلّ ثنيّة
تهدار سامرة، وعزف قيان
تستنّ عادية، ويصهل أجرد
وتصيح أحراس، ويهتف عانى
قوم أبي الشيطان إلا نزغهم
فتسللوا من طاعة السلطان
ملأوا الفضاء، فما يبين لناظر
غير التماع البيض والخرصان
فالبدر أكدر، والسماء مريضة
والبحر أشكل، والرماح دوانى
والخيل واقفا على أرسانها
لطراد يوم كريهة ورهان
والاستهلال كله تغلب عليه النزعة البصرية التي تلح على مفردات المشهد، ابتداء من معاقد الأجفان التي أخذها النوم فحال بين الأعين والرؤية، ما خلا أعين الفرسان التي لا تغمض لها يقظة الواجب جفنا، مروراً بالليل الذي أطبق على الوهاد والربا كالبعير الذي يبرك على ما تحته فيخفيه، لاتستبين العين في حلكة ظلمائه إلا اشتعال أستة الرماح التي تنعكس على أضواء نيران الحراسة، ولا تسري فيه سوى أصوات فتنة المتمردين الذين تنقل الريح أناشيدهم الحماسية كما تنقل صهيل الخيول وصياح الحراس وهتاف الأسرى. وقد زحم هؤلاء المتمرّدون الفضاء المظلم الذي لا يرى الناظر فيه إلا التماع السيوف ونصال الرماح، والبدر الذي مال لونه إلى السواد، والسماء التي اختفت نجومها بسبب غبار المعارك فشحب نورها كالوجه المريض. وأضف إلى ذلك الصور البصرية للبحر الذي خالطت مياهه دماء القتلى والجرحى، والرماح المشتبكة، والخيول المتأهبة مع فرسانها لخوض المعركة المقبلة مع النهار الآتي باحتمالات الحياة أو الموت.
عناصر إكمالية
وكان من نتيجة ذلك أن أصبحت الصور السمعية أو الشمسية أو اللمسية أو الذوقية، باختصار كل ما خالف الصور البصرية، قليلة على نحو واضح في مجالات الوصف ومحاكاة الطيعة في شعر الإحياء. وحتى عندما توجد هذه الصور، فإنها توضع في مرتبة ثانوية إلى جانب الصور البصرية، وذلك بوصفها مجرد عامل مساعد يكمل الاستقصاء والحصر الوصفيين، فالأصل في الوصف هو ما قلب السمع بصرا، أو ما حكى الموضوع للحس بنعته البصري، تماماً كما فعل شوقي فى هذا الجزء من قصيدته التي قالها "يصف مشاهد الطبيعة في طريقه إلى الآستانة قادماً من أوربا":
ولقد تمر على الغدير تخاله
والنبت مرآة زهت بإطار
حلو التسلسل موجه وخريره
كأنامل مرّت على أوتار
مدّت سواعد مائه وتألقت
فيها الجواهر من حصى وجمار
ينساب في مخضلة مبتلة
منسوجة من سندس ونضار
والصور تبدأ باللغة البصرية للعين التي ترى في الغدير المحاط بالنبات مرآة زهت بإطارها الأخضر، وتتبذل الصور لتتخذ صفة سمعية ذوقية، قرينة بحلاوة التسلسل التي تمزج ما بين إحساس ذوقي وإحساس سمعي. في حلاوة تسلسل الموج والخرير، وذلك لتخايل بإحساس لمسي مصدره الأنامل التي مرّت على أوتار، ولكن تنبيه الأنامل لا يترك للإحساسات الذوقية والسمعية واللمسية فرصة النماء، ويحول بينها وبين ألامتداد بسبب ترشيح المشبه به (الأنامل) الذي يمد سواعد مائه التي تتألق فيها الجواهر من حصى وجمار يجذب العين إلى حضوره، وينسى الإدراك ما مر المحا من إحساسات ذوقية وسمعية ولمسية لم تكن مقصودة إلا بوصفها عنصراً إكمالياً ثانوياً وليس عنصراً أساسياً ممتدا. ولذلك تتأكد الإحساسات البصرية مرة أخرى، ويعود الشاعر إلى المشبه، وهو الغدير، ليسلط عليه العين التي تراه منساباً في أرض ندية مبتلة، منسوجة من سندس ونضار (ذهب) يشدان العين إليهما، ويشغلان الإدراك عن كل ما يخرج عن أفقهما البصري المهيمن على صناعة الصور كلها.
وإذا شئنا أن نضيف إلى ذلك نموذجاً آخر، يمكن التوقف عند قصيدة شوقي الشهيرة عن معبد"أنس" الوجود" الذي وصف آثاره على النحو التالي:
قف بتلك القصور في اليم غرقى
ممسكات بعضاً من الذعر بعضا
مشرفات على الزوال، وكانت
مشرفات على الكواكب نهضا
شاب من حولها الزمان وشابت
وشباب الفنون مازال غضا
رب نقش كأنما نفض الصا
نع منه اليدين بالأمس نفضا
ودهان كلامع الزيت، مرّت
أعصر بالسراج والزيت وُضّا
وخطوط كأنها هدب ريم
حسنت صنعه، وطولا، وعرضا
وضحايا تكاد تمشي وترعى
لو أصابت من قدرة الله نبضا
ومحاريب كالبروج، بنتها
عزمات من عزمة الجن أمضى
وأول ما يلفت النظر في هذه الصور التي تكشف عن موهبة شوقي الأصيلة في التصوير هي التركيز على استخدام التشبيه مقترنة بكل ما يخاطب حاسة العين. وكلا الأمرين موصول بالآخر وصل المفردات البصرية بما يؤكد تشخيص الجماد وبث الحياة والمشاعر في حضوره الذي يغدو حضوراً إنسانياً، فلا تستغرب عين المتلقي المشاعر المنسربة في الترابطات التشبيهية التي تصل بين ذعر الغرق وخفر السابحات. أو بين مفارقة المجد القديم الذي كان والذي أصبح كائناً، في موازاة مفارقة الزمان الذي شاب وشباب الفنون الذي لا يشيب.
محاكيات بلا حياة
ولا ينفصل عن الملاحظة السابقة ما يلزمها من أن التصوير عند الشاعر الإحيائي، خصوصاً في أحوال حرصه على تقليد القدماء، كان يتجه إلى الأشكال الخارجية للموصوفات في ملامحها الظاهرة، حريصاً على التناسب المنطقي بين الهيئات والأشكال، وذلك من غير انتباه إلى أهمية النفاذ إلى باطن المدركات أو إدراك الوحدة الروحية العميقة التي يمكن أن تنتظمها في نسيج متداخل من العلاقات، وعندئذ، نتباعد عن الحياة الشعورية المتدفقة في التصوير المماثل لوصف "أنس الوجود". وتدخل إلى محاكيات تخلو من هذه الحياة التي تتقلص تحت وطأة الاكتفاء بالأشكال الخارجية والحرص على إيقاع التناسب المنطقي بينها. وربما كان بعض السبب في ذلك هو الحرص على تعقل التصوير البصري ومنطقية مشاكلاته التشبيهية، فالرؤية البصرية ليس لها مجال، مع هذا الحرص، سوى الأشكال والألوان والهيئات الخارجية للأشياء المادية، خصوصاً في تناسبها الشكلي، بعيداً عن دلالاتها الأعمق أوعلاقاتها الأوسع، أما إدراك المغزى الروحي أو العمق النفسي للأشياء فيحتاج إلى نوع آخر من الرؤية، أقرب إلى الرؤية الحدسية التي تقرن البصر بالبصيرة ولا تبحث عن المشاكلة المنطقية وإنما عن المشاكلة الوجدانية.
وقد لزم عن ذلك أن ظل الشاعر الإحيائي بوجه عام حريصاً على أن يعرض على أنظارنا في شعره صوراً كأنها الصور الشمسية أو اللوحات التي تنطق أصلها على ما هو عليه، أو تسترجعه للذاكرة على هيئته، وذلك على نحو ما فعل البارودي حين قال:
ليت شعري متى أرى روضة المنـ
يـل ذات النخيل والأعناب
حيث تجري السفين مستبقات
فوق نهر كاللجين المذاب
قد أحاطت بشاطئيه قصور
مشرقات يلحن مثل القباب
ملعب تسرح النواظر منه
بين أفنان جنة وشعاب