من القمر أخذت اسمها حين أطلق عليها القدماء اسم الإله "سين"، ومن الفيروز أخذت صفتها، فوق رمالها الناعمة دارت أشهر معارك التاريخ، وعبرت دروبها أقدام خمسة عشر جيشا من كل أمم الأرض، وشق فيها أهم ممر مائي في العالم، وهو قناة السويس، ومثلت جرحا داميا وأملا كبيرا لكل أجيال المصريين، إنها أرض سيناء التي تقف الآن على أعتاب مشروع قومي جديد لا يقل أهمية عن مشروع السد العالي.
قال لنا المهندس الشاب: هذه هي إحدى علامات المستقبل، لا في سيناء وحدها ولكن في مصر كلها..
كنا نقف على حافة الرمال وسط سواعد الرجال التي لا تكف عن العمل، والحفارات التي لا تتوقف عن الهدير، كانت تزيح عشرات الأطنان من الرمال كي تحدث شقا غائرا في الأرض يحمل إلى سيناء الماء والحياة، بدا كأن هناك سباقا مع الزمن وكأن شرارة البعث التي انطلقت من هذه المنطقة لن تتوقف، كان بعض البدو من أهالي المنطقة يتلكأون بأغنامهم.. ينظرون إلى بشائر المياه القادمة في غرابة.. إنها مياه النيل وقد عرفت طريقها إلى البرية الشاسعة.. كيف حدث هذا وتحققت المعجزة؟.
عندما عرف البدو من نحن.. ومن أين جئنا صاح أحدهم في استبشار:
- أبلغ أهل الخير في الكويت أننا نشكرهم.. لقد حققوا حلم حياتنا وسوف تتغير حياتنا من هذه اللحظة..
كنا نقف في مواجهة واحد من المشروعات العملاقة التي سوف تحدد ملامح القرن العشرين في مصر، كان أهم مشروع بعد السد العالي، وهو أيضا المشروع الذي يحمل لمسة الوفاء والتحية بين الشعبين المصري والكويتي..
أهمية المشروع
و"ترعة السلام"، أو بالأحرى مشروع ترعة الشيخ جابر الأحمد الصباح، ليس مشروعا عاديا، إنه نقلة جبارة تصل فيها مياه الوادي القديم إلى سيناء. لقد ظلت مسافات الصحراء وقناة السويس تكوّن حدا فاصلا بين سيناء والأرض الأم، ولكن هذه الترعة الجديدة التي سوف تخرج من فرع دمياط وتشق طريقها عبر مئات الكيلو مترات ثم تغوص في باطن الأرض حتى تعبر من تحت قناة السويس ثم تعود للظهور مرة أخرى وسط جبال سيناء سوف تعطي أرضها لونا جديدا وحياة جديدة.
لقد بلغت قيمة القرض الكويتي لهذا المشروع حتى الآن 25 مليون دينار "أي ما يعادل 75 مليون دولار" ولكن هذا ليس كل شيء، فلا يمثل هذا إلا مجرد بداية في مشروع عملاق يستهدف إصلاح 400 ألف فدان، وتبلغ التكلفة الإجمالية 4 بلايين جنيه مصري يساهم فيها الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية بحوالي 655 مليون جنيه على مراحل.
وتشترك في هذا المشروع 6 شركات أجنبية من بينها شركة نمساوية متخصصة في رفع المياه حتى لا يضيع الماء سدى وسط الرمال العطشى، ويقول المهندس سعيد عبدالعظيم مدير أعمال الجهاز التنفيذي لتنمية شمال سيناء: "لقد بدأنا العمل في ترعة الشيخ جابر الصباح في شهر إبريل الماضي وسوف يستمر المشروع على مدى ثلاث سنوات، وقد تم حتى الآن شق حوالي 24 كيلومترا في منطقة سيناء، وكان الجزء الأصعب والأكثر فنية في هذا المشروع هو حفر "سحارة" تحت مياه قناة السويس، لنقل المياه من غرب القناة إلى شرقها وسوف تنتهي الترعة عند مدينة العريش، ليس هذا فقط، ولكن سوف تقام مدينة جديدة في سهل الطينة، كي توفر العمل لعشرات الخريجين من أجل أن يساهموا بجهودهم في صنع مستقبل مصر".
وهكذا نرى أن إنشاء مثل هذا المجتمع الجديد لن يؤثر على سيناء فقط، ولكنه سوف ينعكس بالضرورة على المجمل العام للاقتصاد المصري.. يقول اللواء منير شاش محافظ شمال سيناء:
"بالتأكيد سوف يحدث هذا المشروع دفعة جبارة للاقتصاد المصري، لماذا؟ لأن ما تعاني منه مصر هو التكدس أو الانفجار السكاني وعندما نتمكن من نقل جزء من مواطني القاهرة أو باقي المحافظات إلى مناطق جديدة وسط الصحراء فنحن نساعد على تقليل تلك الكثافة المزعجة حول الوادي القديم. إن المصريين يعيشون فقط على 4% من مجمل أراضي مصر من أيام الفراعنة وحتى اليوم، وهكذا يتزايد البشر وتستهلك الأرض، ولكن هذه الترعة تمنحنا الأمل في إنشاء مجتمع جديد وفرص عمل جديدة وإعطاء عائد اقتصادي قوي لمصر، إننا نكسب هنا مرتين: المكسب الأول حين نحمي أرض الدلتا والوادي من عدوان الأعداد المتزايدة من السكان، والمكسب الثاني هو الأرض الجديدة لأن كل من يأتي هنا سوف يدرك أن الأمل الوحيد في البقاء هو المزيد من استصلاح الأراضي الجديدة. وباختصار فإن هدف مشروع ترعة الشيخ جابر الصباح هو نقل 3 مليارات متر مكعب من غرب القناة إلى سيناء سنويا، أو بمعنى آخر نقل 12.5 مليون متر مكعب يوميا، ولكي أوضح هذا الأمر سوف أعقد مقارنة بسيطة بين هذا المشروع ومشروع آخر مشابه له هو "النهر العظيم" الذي أقامته ليبيا، فهذا المشروع سوف ينقل مليوني متر مكعب في اليوم، وقد بلغت تكلفته 26 مليار جنيه، فما بالك بمشروع تبلغ طاقته ستة أضعاف طاقة النهر العظيم. كيف يمكن أن تتصور تأثير هذا على الأرض العطشى في سيناء؟. سوف نتمكن من زراعة من 600 إلى 700 فدان، نحن نقول حسب التقديرات الأولية إنها 400 ألف فدان، ويتم هذا وفق حسابات أراضي الدلتا التي تروى بالطرق التقليدية أي ري الغمر.. ولكن لو تمت حسبتها بالري الحديث أي بالتنقيط والرش فيمكن أن تصل إلى نسبة أعلى بكثير. هذا فقط من ناحية الزراعة".
"ولكن توجد فائدة أخرى لهذه الترعة هي الصناعة واستغلال الثروات فسوف تدخل هذه الترعة منطقة شمس بوسط شمال سيناء وسوف تحيط بما فيها من جبال عملاقة أهمها جبل المغارة ولبنة وغيرهما وهي تحتوي على كمية كبيرة من المعادن الخام لم تكتشف بعد لأن المنطقة غير مأهولة. المياه سوف تحمل معها الحياة إلى هذه المنطقة، لذلك سوف تزدهر صناعة التعدين دون أن تصاحبها المشكلات التقليدية مثل تلوث البيئة وغيرها من المشكلات.
سحر المياه
إن هذا المشروع الذي نشكر الكويت على مساهمتها فيه يقع في منطقة بالغة الحساسية، فهي همزة الوصل بين المشرق العربي والمغرب العربي، وإذا نظرنا إلى المستقبل وما يقال عن تنفيذ اتفاق غزة - أريحا بين الفلسطينيين والإسرائيليين فسوف تزداد أهمية موقع سيناء بما فيها من مياه.. إن كثافة البشر في هذه المنطقة هو ضمان الأمن الوحيد بالنسبة لمصر. . ونضيف لذلك أنه سوف تنشأ صناعة سياحية جديدة تتمثل في بناء القرى السياحية، وسياحة الصحراء والجبال وسياحة السفاري والمحميات الطبيعية.. إن هناك فرصا كبيرة مفيدة ودخول المياه سوف يطلقها من عقالها".
إن أحلام محافظ سيناء منير شاش لا تتوقف، فهذه المنطقة التي كانت منفى لكل الموظفين المصريين المغضوب عليهم قد تحولت إلى أمل في الاستقرار لكل من يختنق وسط زحام المدن القديمة دون مسكن مناسب أو فرص عمل لائقة، لذلك فإن تنمية سيناء واحدة من أهم الاستراتيجيات التي تواجهها مصر، ويمكن أن تذهب هذه التنمية في أربعة محاور رئيسية كما يحددها المحافظ منير شاش: المحور الأول هو الزراعة.. وسوف تزيدها ترعة الشيخ جابر كما قلنا من قبل، ويعتمد المحور الثاني على الصناعة والثروة المعدنية فسيناء أرض الجبال الشامخة يجب أن تحول هذه المخازن الطبيعية إلى ثروة قومية، والمحور الثالث هو السياحة.. وما يستتبع ذلك من إنشاء القرى السياحية والفنادق وإيجاد العديد من فرص العمل، أما المحور الرابع فهو الثروة السمكية.. وما زالت سيناء تحمل لمصر والعالم العربي الكثير من الوعود، فهذه الأرض القفر التي كانت دائما ساحة للحرب قد تحولت إلى درع تكفل الأمان لمصر.
الخليفة متخوف.. والقائد متشوق
ابين تخوف الخليفة ورغبة القائد الحارقة.. كان الصراع يدور حول فتح مصر، كان أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب متخوفا من قوة الروم ويدرك أن مصر تعني الكثير بالنسبة للإمبراطورية الرومانية وأنها سوف تدافع عنها حتى الرمق الأخير.. لذلك كتب إلى عمرو بن العاص قائد جيشه رسالة عاجلة يقول فيها: "أما بعد.. فإن أدركك كتابي هذا وأنت لم تدخل مصر فارجع عنها، وأما إذا أدركك كتابي هذا وقد دخلتها أو شيئا من أرضها فامض على بركة الله ".. ولكن عمرو ابن العاص كانت في أعماقه رغبة حارقة لفتح هذا البلد الذي أتاه كثيرا وسط قوافل التجارة، كان مسحورا بماء النيل وآثار الحضارة القديمة، ويدرك أن إضافة هذا البلد للإسلام تمثل نقطة تحول كبيرة في سبيل انتشار هذا الدين الجديد، لذلك فقد أجل مقابلة الرسول وأخّر تسلم الرسالة، لم يكن يدري محتويات الكتاب ولكنه بما فطر عليه من مكر ودهاء أدرك هدف الخليفة ومخاوفه.. وكان قد اجتاز مدينة رفح آخر المدن الحدودية بين مصر وفلسطين وبدأت رمال سيناء أمامه حافلة بالوعود الغامضة..
أخيرا هدأت حركة الجيوش حين وصلت إلى بقعة تزينها الخضرة، وترتفع فوق بيوتها هامات النخيل، كانت أشبه بالفردوس الصغير وسط الصحراء الوعرة، وطالما عبرها عمرو قبل ذلك.. لذلك فقد سمح أخيرا للرسول أن يقابله وعندما قرأ الرسالة التفت إلى قادته الذين يحيطون به، وتساءل في سذاجة مصطنعة: "أين نحن الآن يا قوم من بلاد الله؟ " ورد عليه القادة: "نحن في العريش". وعاد عمرو يتساءل بنفس السذاجة: "وهل هي من أراضي مصر أم من الشام؟ ". رد القادة: "بل هي من أراضي مصر، وقد تركنا فلسطين على مسيرة يوم كامل".. رد عمرو في ارتياح: "على بركة الله.. فلنمض في الفتح.. ووالله ما خالفنا رأي أمير المؤمنين". كانت هذه هي بداية العريش كأول مدينة مصرية تدخل في الإسلام عام 28 من الهجرة " 640 م".. هامات من النخيل نائمة على شاطئ المتوسط تستقبل الرحالة والعابرين والجيوش الغازية التي تحاول ردها.. درع أحيانا، وجرح نازف في أحيان أخرى.
جبال سيناء الصامتة هي الشاهد الوحيد على كل الأقدام التي عبرت فوق هذه الأرض، جيوش بلا حصر، موجة إثر موجة.. اختلطت الأسطورة بالحقيقة وشربت الرمال من الدم أكثر مما شربت من الماء.. وكان علينا أنا وزميلي المصور ونحن نعبر سيناء أن نتعقب آثار هؤلاء الغزاة ونحاول أن نرى آثار أقدامهم التي فشلت عواصف الصحراء أن تمحوها..
هل كان يمكن أن تبوح لنا الصحراء بسرها الدفين؟ على هذه الأرض مر خمسة عشر جيشا من جيوش الغزاة.. تركوا آثارهم فوق كل صخرة وكتب الدم تاريخا مشتركا بين كل هذه الجيوش. إن سيناء موقع بالغ الأهمية وبالغ التعاسة أيضا، خلف رماله ترقد الجائزة الكبرى التي كان يحلم بها أي غاز في العصور القديمة، وادي النيل الخصب، ومن المؤكد أن الفترة الوحيدة التي لم تتعرض فيها هذه الأرض للغزو هي فترة ما قبل وجود الإنسان على الأرض. من الهكسوس حتى الإسرائيليين لم يكف الغزاة عن التوافد وربما لا يوجد فرق كبير بين تصرفات أول الغزاة وآخرهم، وتقول كتب التاريخ إن الهكسوس عندما قاموا بغزو مصر كان أكثر الناس الذين تعاونوا معهم هم اليهود الذين كانوا يسكنون شمال مصر في ذلك الحين وتقول بعض الدراسات التاريخية إن الهكسوس هم بعض من القبائل العبرانية المتفرقة.. لقد قام أحمس بطرد الهكسوس من مصر دون أن يتركوا خلفهم أي أثر واحد ولكنهم تركوا أثرا وحيدا في سيناء ما زالت آثاره موجودة في مدينة سرابيت الخادم.. وهو معبدالإله هاتور إله الفيروز .. وهو أحد أسماء سيناء..
ولم تتوقف موجات الغزاة .. جاء الحيثيون والبابليون والفرس والرومان.. موجات متعاقبة كأنها معاول حادة تهوي على هياكل الحضارة الفرعونية القديمة حتى تصيبها بالوهن والضعف. لقد أدرك الرومان بما لهم من خبرة عسكرية أهمية هذا المثلث المقلوب من الأرض، لذلك فقد قاموا بإنشاء سلسلة من التحصينات والحاميات الصغيرة تفصل بين كل واحدة والأخرى أربعة عشر ميلا هي مسيرة اليوم الواحد للجيش الروماني.
ثم جاء الفتح العربي بعد أن ماتت حضارات وشاخت حضارات.. كانوا يحملون دفئا روحيا جديدا.. ووعدا ببعث حضاري في صورة أخرى، كان بدو سيناء الذين تمتد جذورهم إلى عرب الجزيرة هم أول من رحبوا بأبناء عمومتهم من هذه الجيوش ودخلوا الإسلام على الفور بما في ذلك قبيلة الجبالية ذات الأصول الرومانية، والتي كانت- وما زالت- تقيم بجوار دير سانت كاترين وتقوم على خدمة رهبانه.
وبعد أن وطد الإسلام أركانه في مصر واكتسبت به قوة جديدة لم يتوقف الغزاة أيضا، جاء الصليبيون في القرون الوسطى واستولوا على فلسطين ولكنهم كانوا يدركون أنه لا أمان لهم إلا بعد الاستيلاء على هذه البقعة، أشهرهم كان ملك بيت المقدس "الماريك" الذي حاول القيام بغزو مصر أربع مرات وقطع الطريق على حجاج بيت الله تسع مرات.
من الهزيمة حتى النصر
ولكن ذكريات سيناء مع صلاح الدين كانت مريرة جدا، فقد لقي على رمالها أول هزيمة قاسية له، كان قد استعد لمعركة مع الصليبيين وذهب للقائهم في الرميلية بأرض فلسطين، ورغم أن قواته كانت أكثر إلا أن الصليبيين فاجأوه مفاجأة تامة وشتتوا جيوشه بقسوة، وتراجع جيش صلاح الدين هاربا فوق أرض سيناء دون أن يجد قلعة تأويه أو حصنا يحتمي خلفه، ولقد جرحت هذه الهزيمة كبرياء القائد صلاح الدين، وبدأ رحلته من أجل تدعيم موقفه العسكري، وكان أول شيء فعله هو أنه بنى قلعة كبيرة ما زالت قائمة في جزيرة فرعون في خليج البحر الأحمر في مواجهة طابا، وبدأ إعداد الجند واختار بعناية موضع المعركة وميعادها حتى استطاع أن يأخذ بثأره وينتصر في حطين.
وعن طريق سيناء أيضا جاء العثمانيون في القرن السادس عشر وكان هذا هو أطول كابوس استعماري عاشته مصر، وما زالت في العريش بقايا القلعة العثمانية التي بنتها جيوش السلطان سليم ثم قفزت منها إلى العقبة وإلى بلاد الحجاز.
وشهدت رمال سيناء جيوش نابليون المنتصرة وهي في طريقها لغزو الشام وفلسطين حتى تفتح الطريق إلى الهند وتقيم الإمبراطورية الفرنسية في الشرق، وشهدت نفس الرمال أيضا عودته منكسرا بعد أن تحطمت أحلامه تحت أسوار عكا، ولم يترك الترك قلعتهم في العريش إلا بعد أن استردت مصر أنفاسها قليلا وأصبح لها جيشها الوطني تحت قيادة إبراهيم باشا- أشهر القادة في القرن التاسع عشر- واكتسح جيش الترك وظل يواصل مطاردتهم حتى حرر منهم فلسطين والشام.
إنها بقعة لا يغيب عنها الضوء.. ورغم خلوها من السكان والموارد السخية إلا أنها كانت تخلق السبب المنطقي لأهميتها، فقد شقت في رمالها قناة السويس عام 1869، وكانت- كالعادة- تحمل أسباب السعادة والتعاسة لمصر، فبقدر ما جعلت منها واحدة من أهم المواقع في العالم جلبت إليها الاستعمار البريطاني ودخلت مصر في دوامة أخرى من دوامات السيطرة الأوربية.
كانت سيناء أيضا تداعب أحلام مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هيرتزل عندما أراد أن يكون هناك وطن قومى لليهود، واختار شمال سيناء لأنها أقرب ما تكون إلى أرض الميعاد، وكان المكان المقترح هو مدينة العريش والساحل الممتد على البحر المتوسط حتى بحيرة البردويل، ووافق الإنجليز بطبيعة الحال وأرسلوا بعثة مكونة من اليهود والبريطانيين إلى المنطقة في عام 1903 وكانت المشكلة التي واجهتهم هي ندرة المياه في المنطقة مما يعوق حركة الاستقرار، وكان من الصعب إقامة دولة في هذا المكان فقفزت أحلامهم على الفور إلى فلسطين وبدأت معالم المأساة التي ما زلنا نعيش ظروفها حتى الآن.
سحر النخيل
وللعريش سحرها الخاص، فهي تجمع بين المدن الصحراوية والساحلية، وهي المدينة التي تأثر تركيبها العمراني والبنياني بكل التقلبات السياسية التي شهدتها المنطقة، ورغم كل شيء لم تفقد طبيعتها الخلابة. فعلى شواطئها تتعانق صفرة الرمال مع زرقة البحر المتوسط، ويمتد شاطئ النخيل على مساحة 30 كيلو مترا حتى بحيرة البردويل الغنية بأفضل أنواع الأسماك، ويبلغ عدد سكانها حوالي 100 ألف نسمة، بها العديد من الشوارع الفسيحة والميادين الواسعة.. وينهض على ساحلها أكثر من قرية سياحية ومعسكرات للشباب وبها حوالي 400 مدرسة كما أن الكليات العليا قد عرفت طريقها إليها، فقد أنشئت فيها كليات الزراعة والعلوم والتربية التابعة لجامعة قناة السويس..
وتتطلع العريش الآن إلى مرحلة جديدة سوف تغير وجهها هي إنشاء ميناء العريش الذي سوف يستقبل سفنا تبلغ طاقتها 7 آلاف طن ويستخدمه حوالي 3500 صياد ويربط سيناء بالعالم الخارجي حيث يتم تصدير الفواكه والأسماك واستقبال الأفواج السياحية.
جذور عربية قديمة
ويرجع التكوين الديموغرافي أو السكاني لمدينة العريش إلى جذور عربية قديمة، فقد هاجرت إليها بطون القبائل العربية من جزيرة العرب ومن بلاد الشام، ويبلغ عددها حوالي 25 قبيلة أشهرها قبائل قحطان وعدنان.. ويقال أيضا إن قبيلة بني هلال الشهيرة وهي تعبر مصر في طريقها إلى تونس الخضراء قد تركت فرعا مهما من فروعها في العريش..
وتبدو هذه الجذور البدوية واضحة في حفلات الزفاف حيث يتبارى الشباب في تهنئة العروسين بالقيام بالرقصات المختلفة التي تشمل ألعاب العصا والمبارزة بالسيوف والرقص بواسطة الخيول ونحر الذبائح، وتقدم وجبة " المنسف" الشهيرة في كل البوادى العربية.
في أكثر من مناسبة وأكثر من موقع وقفت أنا وزميلي المصور مبهورين أمام ذلك الجمال الصامت وما فيه من تقلب الألوان مع اختلاف درجات الضوء، ونتذكر قول الأديب الفرنسي إسكندر ديماس الابن وهو يقول عن سيناء: "إنها بقعة من الأرض مليئة بالسحر والوحشية، كل بقعة فيها تقودك إلى تربة مختلفة وطقس مختلف".
وآثار آخر الحروب التي اشتعلت بين إسرائيل والعرب ما زالت تترك بصماتها فوق سيناء، في أماكن متفرقة منها نشاهد العلم البرتقالي الذي يدل على وجود القوات المتعددة الجنسيات، وكذلك العديد من النصب التذكارية الإسرائيلية، آخرها هو ذلك النصب التذكاري والذي يتكون من صخرة قائمة ويدل على سقوط طائرة مروحية إسرائيلية ومصرع ركابها السبعة، كذلك الأطلال الباقية من مستعمرة ياميت. لقد حاولت مصر أن تعوض الإسرائيليين عن هذه المستوطنة، ولكنهم فضلوا أن يدمروها تدميرا على أن يسكنها أحد بعدهم..
المنطقة هادئة تقريبا والشواطئ الناعمة على حافة الخليج تشكو قلة الرواد، وقال لي أحد شيوخ البدو: "كان يصل إلينا العديد من السياح.. نظيفين وأسخياء.. الآن لا يوجد إلا هذا الصنف من السياح المتسخين وهم يهود بالتأكيد".
وتمتد بحيرة البردويل مثل بساط من الزرقة المشربة بالخضرة، إنها واحدة من خمس بحيرات مصرية، ولكنها تختلف عنها جميعا لأنها تقع بعيدا عن الدلتا وبالتالي لم تتأثر بمياه الصرف الصحي وهي تتصل بالبحر عن طريق ثلاثة بواغيز وأهم الأسماك التي توجد بها هي الدنيس والبوري والقاروص وهي مصدر الرزق لحوالي 3 آلاف صياد يعولون أكثر من 15 ألف فرد، وتصدر أسماكها الطازجة مباشرة من البحيرة للعديد من عواصم العالم وهي بذلك تمثل أحد مصادر الثروة المستقبلية في سيناء.
لغز العبور
وعلى رمال سيناء يوجد واحد من أهم ألغاز التاريخ، وهو لغز يتعلق بعلماء الأديان مثلما يثير اهتمام علماء الجغرافيا والأنثروبولوجيا.. ففي هذا المكان حدثت أكبر عملية رحيل في التاريخ عندما قاد موسى شعبه من بني إسرائيل حتى يخرجوا من مصر..
لقد كان موسى نبيا ورسولا.. يرسي مبادئ التوحيد والعدل، ولكن من المؤكد أنه قاد واحدا من أسوأ الشعوب التي عرفها التاريخ، ولا بد أن اليهود في عهده كانوا بنفس الدرجة من السوء التي نجدهم بها الآن، فقد استغلوا الشعب المصري ولم ينسوا قبل أن يرحلوا خلف موسى أن يجمعوا كل الذهب الذي استطاعوا الحصول عليه من جيرانهم المصريين وأن يهربوا به تحت جنح الظلام، وهكذا أكدوا مبدأ اللصوصية الذي ما زال سائدا بينهم حتى الآن، من سرقة الذهب، إلى سرقة الأرض وإلى سرقة التاريخ..
إن الكتب السماوية تذكر أن موسى استطاع أن يشق البحر الأحمر بعصاه، وأن يعبر هو وقومه ثم ترك الموج ليطبق على فرعون وجنوده. وقد حاول العلماء أن يناقشوا أبعاد هذه الحادثة تاريخيا وجغرافيا. والسؤال هو عن درجة تطابق هذه الحادثة مع ظواهر الطبيعة؟.
إن طبيعة سيناء لا تبوح بأسرارها، وصمت الجبال يغلف عشرات التفاصيل فيها منذ آلاف السنين، ولكن بعض علماء الأديان يقولون إن موسى وقومه قد عبروا البحر من نقطة ضيقة بين البحيرات المرة حيث تنحسر المياه لتترك معبرا ضيقا من الرمال ثم ساروا جنوبا مع ساحل البحر الأحمر إلى وادي فيران، وهو من الأماكن القليلة في سيناء الكثيفة الخضرة والتي يوجد بها بعض عيون المياه، ثم استمروا في السير إلى جبل طور سيناء وهو المكان الذي خاطب الله موسى عنده بعد أن شاهد موسى شجرة العليق التي تحترق ولا تكف عن الاحتراق، ثم تواصلت الرحلة بعد ذلك إلى واحة وادي قاديس وكانت أرض الميعاد قريبة منهم لولا أن موسى قد تولته لحظة من لحظات الشك المأساوية.. لقد سأل الله أن يفجر له إحدى عيون الماء وعندما ظن تأخر الاستجابة له ضرب إحدى الصخور وقد نفد صبره، وقد نال موسى وقومه الغضب بسبب ذلك- كما تقول الروايات الإسرائيلية- فحكم عليه وعلى قومه بالتيه لمدة أربعين عاما وسط الصحراء القفر.
ورغم هذا التفسير إلا أن علماء الجغرافيا المهتمين بتفسير ظواهر التوراة ظلوا يبحثون عن سند من الواقعية لهذه الرحلة عبر البحر، وظهرت نظرية أكاديمية تزعم أن اليهود لم يعبروا البحر الأحمر على الإطلاق، وأنهم واصلوا السير في اتجاه الشمال حتى وصلوا إلى حافة بحيرة البردويل وساروا على شريط رملي ضيق لا يظهر إلا وقت جزر البحر حيث يفصل هذا الشريط بين البحر الأبيض المتوسط والبحيرة.. لقد عبر اليهود أولا وعندما حاول فرعون وجيشه الذين كانوا يركبون الخيول والعربات الحربية الثقيلة أن يتبعوهم انهارت الرمال الهشة من تحتهم وغرقوا جميعا.
ويرى هؤلاء العلماء أن نظرية عبور البحر من تلك النقطة الموجودة في شمال سيناء هي الأكثر منطقية.. لا لأنها توفر جسرا لهذا العبور الكبير فقط ولكن لأن بقايا المن والسلوى التي تحدثت عنها الكتب السماوية ما زالت موجودة في هذا المكان، والمن هو نوع من الدرنات المسكرة الموجودة في باطن الأرض، أما السلوى فهي طيور السمان التي تهاجر من البلاد الباردة في الشمال لتحل حول بحيرة البردويل الدافئة.. وما زالت هجرات الطيور تتواصل حتى اليوم.
عالم البدو
كان الشيخ خلف حسن الحلفات هو الذي قادنا إلى الدخول في عالم بدو سيناء، كنا ضيوفا في خيمة الشعر والجبال حولنا شامخة والصحراء صامتة.. لا يقطع الصمت إلا صوت طقطقات الحطب التي تتقد تحت "منقد" القهوة.. كان سلطان القهوة يدخل كل فترة كي يراقب درجة النضج ويضيف البن أو السكر، والشيخ خلف من قبيلة السوراكة، واحدة من 25 قبيلة تستوطن جبال سيناء.. ورغم أنه يقيم في هذه البقعة الضيقة من الأرض إلا أن اهتماماته تتسع كي تشمل العالم كله.. قال لنا: "كل ما أود معرفته عن العالم والسياسة والاقتصاد آخذه عن طريق "الراديو" أما التلفزيون فلا يناسب عاداتنا وتقاليدنا، إنه يأتي ببرامج وصور فاضحة يمكن أن تؤثر على أخلاق البنات وتسبب تأخر الأولاد في دراستهم".
هذا الموقف المتشدد من التلفزيون تمتد جذوره عميقة في العديد من بدو سيناء، لقد عاصروا أهوال الحرب وقاوموا محاولة إسرائيل لاقتلاعهم من أرضهم، وأدركوا أن الحفاظ على شخصيتهم التقليدية هي طريقهم الوحيد للبقاء.. "لقد حاولت إسرائيل منذ اليوم الأول لاحتلال سيناء أن تغير من طبيعة المنطقة وأن تفرغها من سكانها ولكننا قاومنا ذلك بشدة.. ففي البداية قاموا بإجلاء المواطنين من المنطقة الممتدة من الشيخ زويد حتى رفح، واستجلبوا مستوطنين يهودا وأقاموا مستوطنة ياميت التي كانت زراعية ودفاعية في الوقت نفسه، لقد مدت إليها المياه والطرق التي كان الجيش يستخدمها وبقي عليهم أن يفرغوا الأرض من أصحابها الحقيقيين كما هي عادتهم، لقد كانوا يركزون على المنطقة الشمالية في سيناء بالذات، من رفح إلى العريش والشيخ زويد، كانوا يريدون تحريكهم جنوبا بالقرب من شرم الشيخ ولا يمكن أن تتخيل الإغراءات التي قدموها إلى السكان أو التهديدات التي مارسوها ضدهم من أول الشيكات على بياض إلى مصادرة الأراضي بالقوة، وعندما رفض البدو ذلك قبضوا عليهم ووضعوهم في العريش تحت الإقامة الجبرية ولم يتم الإفراج عنهم إلا في وقت الانسحاب الإسرائيلي عام 1982".
يضيف الشيخ خلف: "لقد هزت حرب 73 الكيان الإسرائيلي وأظهرت للمرة الأولى أنه قابل للهزيمة وإن كنت أعترف وأعتقد يقينا أننا لم نستغل هذه الحرب الاستغلال الصحيح، لقد رأينا اليهود بعد الحرب مباشرة ولمدة شهرين وهم يضعون رءوسهم في الأرضي، إن عقد السلام معهم هو الذي جعلهم يرفعون رءوسهم مرة أخرى".
كانت هذه رؤية أحد شيوخ بدو سيناء، رؤية تمتد إلى الثقافة التقليدية والحس الفطري الذي اكتسبوه من هدوء الصحراء وتقلب العواصف.. فهم يقرأون جيدا لغة الطبيعة الصامتة ويشكلون مساراتهم بواسطة الجبال على الأرض وبواسطة النجوم في السماء، يقرأون الأثر ويتتبعون الإبل الشاردة عبر فجاج الصحراء، ويعرفون الوقت دون ساعة ويتوقعون نذر المطر من لون الغمام وهم يمثلون بذلك حلقة الوصل بين قبائل الجزيرة العربية والشام ووادي النيل لأن لهذه القبائل بطونا وفروعا في كل هذه البلاد..
ويمكن تقسيم القبائل الرئيسية في سيناء إلى 25 قبيلة لكل منها منطقة خاصة ومكان للسكن والرعي، ولا يجوز أن تعتدي قبيلة على منطقة قبيلة أخرى..
وأشهر هذه القبائل هما قبيلتا الشدايد والحويطات، وتوجدان في شمال سيناء وصحراء النقب، وتتركز قبيلة أولاد سعيد حول جبل الطور وبجوارها توجد بطون من قبيلتي الترابين والعليقات.
ولا تزال الكثير من العادات والتقاليد البدوية تتحكم فيهم، ولعل أهمها هو القضاء العرفي الذي يحل فيه قاضي القبيلة المنازعات والخصومات ويلتزم الجميع بحكمه دون حاجة لقانون السلطات الحاكمة أو تدخلها، كما أن الشهادة ما زالت تؤدى بواسطة "البشعة" وهي عادة متبعة أيضا في بادية الأردن والشام، حيث يقوم المتهم بملامسة سطح أحد الأواني المعدنية الساخنة بطرف لسانه فإذا كان بريئا نجا من الحرق، أما إذا كان مذنبا وجف ريقه فسوف تحرق البشعة لسانه على الفور، وما زالت كل قبيلة تكوي إبلها بخاتمها الخاص، ولا تستطيع المرأة أن تسبق الرجل في السير، كما أنها لم تأخذ فرصتها بعد في أن تقول رأيها في شريك حياتها.
إنها مجموعة أصيلة من العادات العربية التي لم تتغير بفعل سنوات العزلة الطويلة ولكن ماذا سيحدث الآن بعد أن دخل التلفزيون رغما عن اعتراضات الكثيرين.. وماذا سيحدث للمنطقة حين تتحقق المعجزة وتصل إليها مياه النيل؟! هذا هو السؤال.
أغادر سيناء أنا وزميلي المصور وقد امتلأت نفوسنا بشيء من رهبة الجبال وصمتها، أحس أن الطبيعة لم تعد صماء وأن هذه الجبال قد كفت عن صمتها، فهي تصرخ في الجميع حتى تحس بالأمان كاملا، ولن يتحقق ذلك إلا بعد أن تجري مياه النيل في ربوعها ويهبط الفلاحون إلي سهولها كي يزرعوها بالقمح.. بعد ذلك سوف تحس مصر أيضا بالأمان.