للحارث بن عُبَاد
هذه مرثية أب ثاكل لابنه.. وهي مرثية بلغت من الصدق والحرارة الحد الذي جعلها واحدة من عيون التراث الشعري العربي! وأصبح كثير من أبياتها أمثالا تُضرب في المواقف المماثلة والحالات المشابهة. خاصة أنها لم تحمل لوعة الثكل والفقد فقط! وإنما حملت أيضا لوعة الكريم الشريف المعتز بمكانته ومنزلته! حين يكون مصرع ابنه بجير ـ أغلى ما لديه ـ وكأنه في مقابل شِسْع نعل! والشِسْع هو السير الذي يدخل بين الإصبعين! وكان قاتله ـ المهلهل ـ قد صاح في وجهه وهو يقتله: بُؤْ بِشِسع نعل كليب!
أما صاحب هذه المرثية الملتاعة فهو الحارث بن عُباد سيد قبائل بكر! الذي لم يشأ أن يشارك في حرب البسوس التي دارت رحاها قرابة أربعين عاما ـ كما يقول الرواة ـ بين بكر وتغلب! بسبب مصرع كليب سيد تغلب على يد جساس البكري الذي غضب لإهانة لحقت بخالته البسوس حين رمى كليب ناقة لها ـ تسللت إلى مرعاه ـ بسهم أصابها فقتلها. فثارت ثائرة جساس وانطلق إليه فقتله. وخرج المهلهل ـ أخو كليب ـ مطالبا بثأره وكانت هذه هي الشرارة التي أشعلت نيران هذه الحرب الضارية.
أما المهلهل بطل هذه الحرب فهو عدي بن ربيعة الذي يرجع نسبه إلى قبيلة تغلب! ويقول الرواة إنه لقب بالمهلهل لأنه أول من هلهل القصيدة العربية! أي أطالها وخرج بها من مرحلة المقطوعة! وهي المرحلة التي سبقت حرب البسوس. وقد عاش حياته الأولى لاهيا فارغا! ينعم بمتعه وملذاته: الخمر والمرأة والميسر والصيد.
ويقول الدكتور يوسف خليف في حديثه عن المهلهل ضمن المجلد الأول الذي أشرف عليه من بين سلسلة "الروائع من الأدب العربي": إن نقطة التحول الضخمة في حياته كانت حين بلغه مصرع أخيه كليب! فقد نفض يديه من حياة اللهو ودنيا المتع واللذائذ! وحمل عبء الثأر لأخيه! وأقسم ألا يقرب النساء والخمر وألا يشم الطيب حتى يثأر له.
وتوالت انتصاراته على قبيلة بكر ـ قتلة أخيه ـ ومن تحالف معها من القبائل.
أما الحارث بن عُباد فقد اعتزل بقومه الحرب لأنه رأى أن قتل كليب بغي وعدوان وقال لبني شيبان: ظلمتم قومكم وقتلتم سيدكم وهدمتم عزكم ونزعتم ملككم فوالله لا نساعدكم.
ثم حدث أن رأى المهلهل ابنا للحارث اسمه بُجير فلما علم من هو قتله وهو يقول قولته التي أشعلت نيران الغضب والعداء في قلب الحارث: بُؤْ بِشِسع نعل كليب!
ويقود الحارث بن عباد قبائل بكر كلها إلى الحرب! وتتوالى انتصارات بكر بقيادته! وتلوح نذر هزيمة تغلب في الأفق! فيغادر المهلهل ميدان الصراع ويرتحل بعيدا بأهله فرارا من البكريين الذين يتعقبونه في كل مكان.
وهذه القصيدة للحارث بن عباد تصور لحظة التحول الكبرى في موقفه من الحرب! لقد ظل بعيدا عنها! مؤثرا عدم الخوض في ويلاتها! فإذا بها تُفرض عليه بعد مصرع ابنه بجير غدرا! وفضلا عن هذا الغدر الذي تعرض له ابنه ـ فقد قتل في غير موقف للقتال! وقبل أن يأخذ للحرب أهبتها وعُدتها! فأبوه وقومه لم ينحازوا إلى طرف ولم ينجروا إلى قتال ـ فإنه يُقتل فداء لشِسع نعل كليب! وكأن هذا هو قَدرُه وقيمته! أن يقتل في مقابل شسع نعل. ويفجر هذا المعنى الأخير في وجدان الحارث بن عباد دوامة العواصف التي تجتاح القصيدة من أولها إلى آخرها! إنها نزف مستعر! كالنار التي تئز! والرجل الشيخ يطوي صدره على الثكل وطعنة الغدر! وامتهان الشرف والكرامة. من هنا يجيء هذا التكرار الملح للإعلان عن تأهبه واستعداده للانغماس في الحرب الضروس متمثلا في قوله:
قربا مربط النعامة منى
في أربعة عشر بيتا متتابعة! وكأنها ناقوس يدق! أو طلقات تتوالى! والنعامة هي فرسه وعُدته للقتال والطراد! انتقاما وثأرا لمن قتل ظلما وعدوانا وخسة ودناءة.
والإيقاع الشعري للقصيدة يلائم ـ من ناحية ـ جو البكائية! والتعبير عن الفقد والثكل! ويناسب ـ من ناحية أخرى ـ موقف الاحتشاد والتأهب! وتغيير المواقف! واعتناق الكماة يوم القتال.
والصورة التي يرسمها الحارث لـ "بجير" صورة أخاذة فاتنة! ينسكب عليها ماء الأبوة ممزوجا بنار الفقد! إنه الكريم ابن الكرام! وهو قتيل لم يُسمع بمثله في الخوالي! وهو مفكك الأغلال! وهو الكريم المتوج بالجمال وهو أخيرا من يُفتدى بالعم والخال. وليس بجير وحده هو الذي على هذه الصورة من الكمال والجمال! إن رجال بكر جميعهم لا يُباعون بيع النعال! وآه من النعال هذه! إنها الكلمة التي أصمت سويداءه وهزته استنكارا واستنفارا! وحركت كل ما فيه من نخوة ورجولة وفروسية! واستثارت "بكريته" وانتماءه للسادة الأمجاد! والكرام البهاليل! والغطارفة الشجعان! فكانت الحرب وكان اندحار تغلب.
والحارث يدرك جيدا عدة الحرب! لذا فإن "النعامة"! هي كلمة البداية! لكن هناك أيضا الدرع الدلاص التي تتموج من اللين وتبرق وهي ملساء قاطعة! تتكسر عليها السهام والنبال فلا تصيبه! وهناك سيوف قومه الحادة المرهفة! وبينها سيفه العَضْب أي القاطع الشديد الصقل والجلاء.
لقد بدأ الحارث قصيدته بدعوة أم الأغر ـ زوجته ـ لبكاء ابنها بجير! وهو يقسم أن يظل بكاؤه لبجير ما أتى الماء من رءوس الجبال! أي مدى الزمان كله! فالماء المتجمع من الأمطار لن يتوقف عن التجمع فوق قنن الجبال ورءوسها والانحدار بعد أن يصبح سيلا! إلى السفوح والوديان! في مثل الصورة الشعرية التي أتى بها امرؤ القيس في وصف فرسه وهو يندفع في كرّه وفره وإقباله وإدباره:
مكرٍ مفرٍ مقبلٍ مدبر ٍ معا
كجلمود صخر حطه السيل من علِ
ولقد قيل في حرب البسوس شعر كثير! في طليعته ما أبدعه المهلهل ـ عدي بن ربيعة ـ وما قالته جليلة البكرية زوجة كليب وأخت جساس قاتل كليب! لكن قصيدة "قربا مربط النعامة منى" للحارث بن عباد تظل بين كل هذه القصائد والآثار الشعرية ذات مذاق خاص! ولفح شعوري متميز! لأنها نفثة مكلوم! وبكائية واله مفجوع! وصيحة من أجل الثأر ومحو العار.
يقول الحارث بن عُباد:
قُل لأُم الأغرِ تبكي بُجيرا
حيل بين الرجال والأموالِ
ولعمري لأبكين بُجيرا
ما أتى الماء من رءوس الجبالِ
لهف نفسي على بُجيرٍ إذا ما
جالت الخيل يوم حرب عُضال
وتساقى الكُماة سما نقيعا
وبدا البيض من قباب الحجالِ
وسعت كل حرة الوجه تدعو
يا لبكر غراء كالتمثالِ
يا بجير الخيرات لا صلح حتى
نملأ البيد من رءوس الرجالِ
وتقر العيون بعد بكاها
حين تسقي الدما صدور العوالي
أصبحت وائل تعج من الحر
ب عجيج الجمال بالأثقال
لم أكن من جناتها علم الله
وإني بحرِّها اليوم صال
قد تجنبت وائلا كي يفيقوا
فأبت تغلبٌ عليّ اعتزالي
وأشابوا ذؤابتي ببُجير
قتلوه ظلما بغير قتالِ
قتلوه بِشِسع نعلِ كليبٍ
إن قتل الكريم بالشسع غالِ
يا بني تغلبٍ خُذوا الحِذر إنا
قد شربنا بكأس موت زلالِ
يا بني تغلِبٍ قتلتُم قتيلا
ما سمعنا بمثله في الخوالي
قَرِّبا مربط النعامةِ منّي
لقِحت حرب وائل عن حيالِ
قَرِّبا مربط النعامةِ منّي
ليس قولي يُرادُ لكن فِعالي
قَرِّبا مربط النعامةِ منّي
جد نَوْحُ النساء بالإعوالِ
قَرِّبا مربط النعامةِ منّي
شاب رأسي وأنكرتني الفوالي
قَرِّبا مربط النعامةِ منّي
للسرى والغدو والآصال
قَرِّبا مربط النعامةِ منّي
طال ليلي على الليالي الطوال
قَرِّبا مربط النعامةِ منّي
لاعتناق الأبطال بالأبطال
قَرِّبا مربط النعامةِ منّي
واعدلا عن مقالة الجُهال
قَرِّبا مربط النعامةِ منّي
ليس قلبي عن القتال بِسال
قَرِّبا مربط النعامةِ منّي
كلما هب ريح ذيلِ الشمالِ
قَرِّبا مربط النعامةِ منّي
لِبُجير مُفكك الأغلالِ
قَرِّبا مربط النعامةِ منّي
لكريم مُتوج بالجمال
قَرِّبا مربط النعامةِ منّي
لا نبيع الرجال بيع النِّعال
قَرِّبا مربط النعامةِ منّي
لِبُجير فداه عمي وخالي
قرباها لحي تغلب شوسا
لاعتناق الكُماة يوم القتالِ
قرباها وقربا لأمتي در
عاً دِلاصاً ترُدُّ حدَّ النبالِ
قرباها بمرهفات حداد
لقِراع الأبطالِ يوم النِزالِ
رب جيش لقيته يمطر المو
ت على هيكلٍ خفيف الجلالِ
سائلوا كندة الكرام وبكرا
واسألوا مذحجا وحي هلالِ
إذ أتونا بعسكر ذي زُهاء
مكفهِر الأذى شديد المصالِ
فقريناه حين رام قرانا
كل ماضي الذُّباب عضبِ الصقالِ