لا نستطيعُ تحديدَ التاريخِ الفعلي لبدايةِ الأغنيةِ الدينيّةِ ، ولكنْ لنتّفقْ ـ مجازًا ـ على أنَّ الحروفَ الأولى لهذا اللونِ من المديح أو الغناءِ الدّيني كانت أنشودة «طلعَ البدرُ علينا» التي قابلَ بها أهلُ المدينةِ رسولَنا الكريم ابتهاجًا بهجرتِهِ إليها.
كانَ أجدادُنا شعراءُ العصرِ الجاهلي بارعينَ في المديحِ، ولكنّهُ كانَ مقصورًا على القبيلةِ أو العشيرةِ، وكانَ يقابلُهُ الهجاءُ على الضّفةِ الأخرى، ومعَ دخولِ شعراءَ كثيرينَ في دينِ اللهِ، تحوّلوا بكاملِ وجدانهم إلى إعلاءِ كلمةِ الحقّ، والدّفاعِ عن دينهم، وصدّ غاراتِ الشعراءِ الكفّارِ الذينَ يهجونَ النبيَّ الكريم، وبدأت المعاني القرآنيةِ تشيعُ في الأشعارِ، وأصبحت هناكَ لغةٌ جديدةٌ تتسمُ بالإنسانيّةِ والرّقّةِ وكلّ ما جاءَت بهِ أوامرُ الدينِ ونواهيه.
وعلى امتدادِ التاريخِ الإسلاميّ، اتّخذ الغناءُ الدّيني ألوانًا شتّى، من القصيدةِ الفصيحةِ، إلى اللهجاتِ الدّارجة، ليصلَ إلى قمّةِ تطوّرهِ وتوهّجهِ في براحِ القرنِ العشرينَ، خصوصًا بعدَ إنشاءِ الإذاعاتِ الرسميّةِ التي أوجدت شكلاً مغايرًا للغناءِ الديني السائد، وانتقلت بالأغنيةِ الدينيّةِ إلى ما يتواءمُ والموسيقى العصريّة، ولم يقتصرْ دورُ هذه الأغنية على المديحِ النبويِّ فقط، ولكن راحت تدورُ دورة كاملة حولَ كلِّ ما في المُعجم الديني من أركان وفرائض وأوامر ونواهٍ، وتسابق الشعراءُ في اقتباس المعاني الدينية من الكتاب والسنّة، وأصبح للأغنيةِ الدينيةِ نجومُها، من شعراء وملحنين ومطربين ومطربات.
شوقي ـ السنباطي ـ أمّ كُلثوم
هذا الثلاثي هو مثلث «القمّة»، الكلمة، واللحن، والغناء. أحمد شوقي أوّلُ من نالَ لقبَ أمير الشعراءِ في العصر الحديث، ورياض السنباطي.. أمير النغم ومارد القصيدة المغنّاة بلا منازع، وأمّ كلثوم التي يضيقُ المجالُ عن حصر ألقابها أو وصفِ صوتها، أو التعبير عمّا أسدته للغتنا الجميلة بما غنته من شعر فصيح يقتربُ من مائة قصيدة لرموز الشعرِ العربي على مدار تاريخِه، ويشاءُ القدرُ أن يلحّن لها السنباطي مائة وثلاثة أعمال تميلُ الكفة فيها إلى الفصحى لتزيد عن العاميّة الدّارجة بثلاثة أعمال، ومن بين فصحى السنباطي أحد عشر عملاً (قصائد أو مقتطفات) من شعر أحمد شوقي (وكلّها بعد رحيلِه) منها أربعة من الشواهق الدينية.
سلوا قلبي
تجيءُ قصيدة «سلوا قلبي» كأوّل الأعمال الدينية التي غنتها أمُّ كُلثوم من شعر شوقي، وكانت المرة الأولى في فبراير 1946م، ثمَّ في ستة عشر حفلا بعد ذلك، وكانت المرّة الأخيرة في حفل أول يونيو 1967م، وكانت الأخيرة في غناء «الشوقيّات» في حفل عام.
القصيدة الأصلية «الأم» عنوانها «ذكرى المولد النبوي»، نُشرَت للمرّةِ الأولى في 16 يناير 1914م بجريدة «عكاظ» (المصريّة)، وتقع في واحدٍ وسبعين بيتًا، غنّت منها أمّ كُلثوم واحدًا وعشرين بيتًا منتقاة بعناية فائقةٍ، فمعظمُ الأبيات الخمسين الأخرى كان جديرًا بالغناءِ, إذ جاءت القصيدة مترابطة محكمة البناء بما يعني أن عملية الانتقاء والتوليف بين الأبيات كانت شاقة للغاية.
جاء الغناء للأبيات الستة الأولى، ثمَّ الحادي عشر، فالخامس عشر، فالسابع عشر، فالثامن عشر، فالخامس والعشرين، ثمّ قفزت إلى الثامن والأربعين، ثمّ أربعة أبياتٍ متتالية من الحادي والخمسين إلى الرابع والخمسين، وجاءَ الختام بخمسةِ أبياتٍ متتالية أيضا من الستّين إلى الرابع والستين:
سلوا قلبي غداةَ سلا وتابَا
لعلَّ على الجمالِ لهُ عتابَا
ويُسألُ في الحوادثِ ذو صوابٍ
وهلْ تركَ الجمالُ لهُ صوابَا؟
وكُنتُ إذا سألتُ القلبَ يومًا
تولَّى الدّمعُ عن قلبي الجوابَا
ولي بينَ الضلوعِ دمٌ ولحمٌ
هما الواهي الذي ثكِلَ الشّبابَا
تسرّبَ في الدّموعِ فقلتُ: ولّى
وصفّقَ في الضلوعِ فقلتُ: ثابَا!!
ولو خُلِقَتْ قلوبٌ من حديدٍ
لما حملَتْ كما حمَلَ العذابَا
استهلالٌ غزلي على نسقِ القصيدةِ العربيّةِ القديمةِ، تتألّقُ فيهِ الشّاعريّةُ في الأبياتِ الثلاثةِ الأخيرة التي يصفُ فيها الشاعرُ قلبَهُ، ذلكَ الواهي الضعيف الذي فقد شبابَهُ وأصبحَ قلبًا من هواء، ولشدّةِ وهنه وضعفِهِ يشكّ أنّهُ تسرّبَ في الدموعِ ولن يعودَ إلى الأبد، غيرَ أنّه يُفاجأ بهِ يخفِقُ بقوّةٍ فيهزُّ الضلوعَ ويجعلُهُ يفيقُ من غفوتِهِ ليقولَ إنّ قلبَهُ قد عاد مرّة أخرى، ومع إفاقتِهِ يبررُ لنا سببَ شكّهِ فيقولُ إنّ هذا القلبَ الضعيفَ قد تحمّلَ من العذابِ والآلامِ ما لا يمكنُ أنْ تتحمّلَهُ القلوبُ المخلوقةُ من الحديد.
بعد ذلك ينصرفُ الشاعرُ إلى الحكمِ والمواعظ، في متتالياتٍ طويلةٍ للتمهيدِ للمديح حتى يقولَ:
نبيُّ البرِّ بيَّنَهُ سبيلاً
وسَنَّ خِلالَهُ، وهدى الشِّعابَا
لكأنّهُ يقولُ إنَّ البِرَّ ـ وهو كلُّ خيرٍ أو عملٍ صالح ـ هو الأصلحُ في الدنيا والآخرةِ، وقد جاءَ مُحَمَّدٌ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم ليبيّنَ للناسِ سبيلَ الرشادِ ويخرجَهم من الظلماتِ إلى النور، ويسنَّ لهم القوانينَ والتشريعاتِ، ويهدي شِعابَهم ـ طرقَهم ـ لتكونَ شِعبًا، أي طريقًا، واحدًا.
إنّها المعاني والصورُ التي تتهادى في رفقٍ ويُسرٍ لتمهّدَ لمنطقةِ الذروةِ والتوهّجِ في القصيدةِ / الأغنية، تلكَ المنطقة التي حملتْ بيتَ القصيدِ الذي سافرَ في الزمنِ كحزمةٍ من الضَّوءِ، وأصبحَ مثلاً شائعًا نستلهمُهُ في الأيامِ الحالكةِ ـ وما أكثرَها, في محاولةٍ لاستنهاضِ الهممِ وإحياءِ الإرادةِ وإذكاءِ رُوحِ التحدّي:
وكانَ بيانُهُ للهَدْيِ سُبلاً
وكانت خيلُهُ للحقِّ غابَا
وعلّمَنا بناءَ المجدِ حتّى
أخذْنا إمرَةَ الأرضِ اغتصابَا
وما نيلُ المطالبِ بالتمنّي
ولكنْ تؤخَذُ الدّنيا غِلابَا
وما استعصى على قومٍ منالٌ
إذا الإقدامُ كانَ لهم رِكابَا
كان السنباطي، كعادَتِهِ، بارعًا إلى أبعدِ حدٍّ في التمهيدِ لهذهِ الباقةِ من الأبياتِ التي تحوي بيتَ القصيدِ، ذلكَ البيت الذي يعادلُ عُمرًا من الشّعرِ، والذي حرّضَ شعوبًا كثيرةً كانت مقهورةً ومغلوبةً على أمرها لكي تفيقَ «وتستيقظَ من رقدةِ العدمِ» وتأخذَ حقوقَها وتنالَ حرّيّاتِها، وكانت أمّ كُلثوم وهي تؤدّي:
«وعلّمنا بناءَ المجدِ حتّى......»
تتقمّصُ كلَّ «العظمةِ» فهي تمدحُ، تتحدّثُ عن، تصفُ سيّد الخلقِ أجمعينَ وأعظم من حملتِ الأرضُ قدميه،إنّهُ القدوةُ والمثلُ الأعلى الذي علّمنا كلّ شيءٍ عظيم، ومنهُ أنّه «علّمنا بناءَ المجد..»، وكانت تعي تمامًا أنها تردّدُ أشعارَ شوقي أعظمَ من قالَ شعرًا (في رأيِها)، إذ كانت قبلَ الإلمامِ بشعرِهِ مأخوذةً بأشعارِ الشريف الرّضي ومهيارِ الديلمي والمتنبّي، ولكن منذ أن قرأت الشوقيّات، أصبحَ شوقي هو شاعر التاريخ العربي كلّه في نظرها، وظلّ ديوانه في متناول يدها تقرأ منه ما أمكنها كلّ ليلة قبلَ أن تنام!! ثمّ... هيَ، وأيّةُ عظمة كامنةٍ في هذا الصوتِ وهذه الأسطورة؟؟
وبالرغم من عظمةِ القصيدة وثرائها، فإنني ما كنتُ أتمنّى أن يقولَ شوقي:
..................... حتّى
أخذَنا إمرة الأرضِ اغتصابَا
ولا يشفعُ له ـ عندي ـ أنْ أردفَ قائلاً بيتَه الأعظم والأبدع:
وما نيلُ المطالبِ بالتمنّي
ولكن تؤخَذُ الدّنيا غِلابَا
بعدَ ذلك تنتهي القصيدة «المغنّاة» بحضور شوقي في النصّ:
أبا الزهراءِ قد جاوزتُ قدري......
إلى أن تنتهي، كعادة شوقي في كل القصائد النبويّة، بالدعاءِ للمسلمينَ متوسّلا بنبيّنا الكريم:
سألتُ اللهَ في أبناءِ ديني
فإنْ تكنِ الوسيلَةَ لي أجابَا
وما للمسلمينَ سواكَ حِصْنٌ
إذا ما الضُّرُّ مسَّهُمُ ونابَا
لكن القصيدة «الأمّ» لا تنتهي هنا، بل تبقى الأبياتُ من الخامس والستّين إلى الحادي والسبعينَ تصويرًا مريرًا لحالِ المسلمين وما آلوا إليهِ من ضعفٍ وهوان ومذلّة، وهو ـ شوقي ـ دائمًا ما يعيبُ على المسلمينَ سوءَ مسالكهم وانحرافاتهم وخياناتهم وابتعادهم عن الطريق القويم، ويتوسّلُ إلى الله برسوله الكريم ليرفع عنّا المقتَ والغضب.
نهجُ البردة
أمّا القصيدةُ الدينيّةُ الثانية التي غنّتها أمّ كلثوم من أشعار أحمد شوقي وألحان رياض السنباطي فهي «نهجُ البُردة»، وكانت المرّة الأولى في ديسمبر، 1948م، وفي هذه المرّةِ لم يخضعْ عنوانُ القصيدة الأم / الأصليّة للتغيير، وكان شوقي قد كتبها في 1909م «تذكارًا لحجّ الخديوِ عبّاس في سنة 1327 هجرية»، ونشرها للمرة الأولى في يناير 1910م، وقد جاءت القصيدة محاكاة لـ «بُردة البوصيري» (محمد بن سعيد بن حمّاد بن عبد الله الصنهاجي البوصيري المصري شرف الدين أبو عبد الله، 608 ـ 696 هـ / 1212 ـ 1296م)، وكانت «بُردةُ البوصيري» ميميّة ومطلعُها:
«أمنْ تذكُّرِ جيرانٍ بذي سَلَمِ
مزجتَ دمعًا جرى من مُقلَةٍ بدَمِ؟»
أمّا البُردة الأولى، أو الأصليّة، فهي للشاعر المُخَضْرِم (الجاهلي / الإسلامي) كعب بن زهير بن أبي سُلمَى (توفِّيَ في سنة 26هـ، 646م)، وكانت لاميّة، ومطلعُها:
بانتْ سعادُ فقلبي اليومَ متبولُ
مُتَيَّمٌ إثْرَها لم يُفْدَ مكبولُ
بُردة شوقي، أو ميميّتُهُ، تقعُ في مائة وتسعينَ بيتًا بالتمام والكمال، وبالرغم من أنها كانت «تذكارًا لحجّ الخديوِ عبّاس»، إلا أننا لا نلمحُ أثرًا للمذكورِ أو سواهُ من أصحابِ السلطةِ في أيّ بيتٍ من هذهِ المطوّلَة التي انصرفَ فيها شوقي إلى غرض أساسي هو مدحُ الرسول الكريم، وتحفلُ بلوحاتٍ شعرية متعددة ، ولمحات كثيرة من قصة حياة سيّد الخلق عليه صلوات الله وسلامه، ووصف شمائله ومآثره وأفضاله، إلى أن تنتهي بالتوسل إلى الله ليصلح أحوال المسلمين.
غنت أمّ كلثوم ثلاثين بيتًا من هذه القصيدة، ربما كان انتقاؤها أشد قسوة وعناء من غيرها، فالقصيدة بها حشوٌ كثيرٌ واستطراداتٌ زائدةٌ عن حمولتِها حتى أننا نجدُ بيتًا يلمعُ كالشهابِ يجاورُهُ بيتٌ يقبعُ في قيعانِ الكلامِ العادي ويكادُ لا يقدرُ على الحركة لكثرة ما بهِ من مفرداتٍ تكبّلُهُ تكبيلا، وفي المقابل، هناك عشراتُ الأبياتِ التي تجبرُكَ على الاستغرابِ والسؤالِ عن سببِ عدمِ غنائِها!!
الأبياتُ المغنّاة هي (بالأرقام): 1ـ 3 ـ 4 ـ 6 ـ 7 ـ 8 ـ 25 ـ 36 ـ 37 ـ 39 ـ 40 ـ 41 ـ 42 ـ 43 ـ 47 ـ 62 ـ 63 ـ 75 ـ 78 ـ 83 ـ 84 ـ 85 ـ 86 ـ 88 ـ 89 ـ 90 ـ 186 ـ 188 ـ 189 ـ 190.
هناك قفزاتٌ ـ في الاختيار ـ أوسعُ من أن تُطاقَ، ولكن المتلقّي العام لم يشعرْ بذلك لأنّ الفواصلَ الموسيقية التي يضعها السنباطي ببراعةٍ استثنائيةٍ تصنعُ حواجزَ خياليّةً كثيرة، وتجعلُ العمل يتهادى إلى المتلقي بيتًا بيتًا، وكأنّ كلَّ بيتٍ بناءٌ شعريٌّ (فنّيٌّ) قائمٌ بذاتِه:
ريمٌ على القاعِ بينَ البانِ والعلَمِ
أحلَّ سفكَ دمي في الأشهُرِ الحُرُمِ
استهلالٌ من بابِ الغزلِ التقليدي أيضًا، وفيهِ أبدعَ شوقي أيّما إبداع، ولولا إتيانُه ببعضِ المفرداتِ العصيّةِ الجافةِ لكانت هذه الأبياتُ من بدائعِ ما يقالُ في الغزلِ، لكنه يوقظنا من الحُلْمِ والسباحةِ في الخيالِ عندما يقذفنا بمفردةٍ منحوتةٍ من جلاميد العصر الجاهلي، وقد تعرّضَ البيتُ الخامسُ (السّابع في القصيدة ) لتغيير كلمةٍ كان من الصعبِ تلحينُها وغناؤها، كان شوقي يقولُ:
لقد أنلْتُكَ أذنًا غيرَ واعيَةٍ
ورُبَّ مُنْتَصِتٍ والقلبُ في صَمَمِ
أصبحَ الشطرُ الثاني:
ورُبَّ مستَمِعٍ والقلبُ في صَمَمِ
وبعد الغزلِ التقليدي ينصرفُ الشاعرُ إلى النصح للنفس والآخرين، وتتحوّلُ القصيدةُ / الأغنية إلى تشكيلَةٍ دسمةٍ من كلّ المعاني الدينيةِ:
يا نفسُ دُنياكِ تخفي كلَّ مُبكيَةٍ
وإنْ بدا لَكِ منها حُسْنُ مُبْتَسَمِ
صلاحُ نفسِكَ للأخلاقِ مَرْجِعُهُ
فقوِّمِ النفسَ بالأخلاقِ تستقِمِ
والنفسُ من خيرِها في خيرِ عافيةٍ
والنفسُ من شرّها في مَرْتَعٍ وَخِمِ
مكاشفة صادقة للنفس البشريّة، أو عمل « أشعّة» شعريّةٍ لها تفضحُ كلّ عيوبِها وخفاياها وجرائمها وأطماعِها عندما تغرُّها الدنيا الخادعة وتلقيها في مراتعِ الضلال، ولا يكونُ الأمانُ من طغيانِ النفسِ وزللها إلا باللجوءِ إلى اللهِ والوقوفِ ببابِهِ والتوسّلِ إليه برسولِهِ الكريم الذي أخرجنا من الظلمات إلى النور، وجاء رحمة لنا في الدنيا والآخرة ليفرّج عنّا كربهما:
إنْ جلَّ ذنبي عن الغفرانِ لي أملٌ
في اللهِ يجعلني في خيرِ مُعْتَصَمِ
ألقي رجائي إذا عَزَّ المجيرُ على
مُفَرِّجِ الكربِ في الدّارينِ، والغُمَمِ
تتطايرُ الموسيقى السنباطيّة في براح النصّ، وتحملُ أمّ كُلثوم على أجنحتِها الخرافيّة، ولا تقصّرُ أمُّ كلثوم في توزيعِ الدهشةِ بالعدلِ على كلّ مستمعيها، السابقين منهم واللاحقين، عندما تذيبُ المعاني في وجدانها، ثمّ تعيدُ توصيلَها بصوتها الإعجازي الذي يتلوّن بطعم المعنى والمفردات والصور التي يرتديها:
لزِمْتُ بابَ أميرِ الأنبياءِ وَمَنْ
يُمْسِكْ بمفـتاحِ بابِ اللهِ يغتَنِمِ
محمّدٌ.. صفوةُ الباري ورحمتُهُ
وبُغْيَةُ اللهِ من خلقٍ ومنْ نسَمِ
وتستمرّ رحلة المديح للنبي الكريم لتحكي أطرافا من سيرته عليه الصلاةُ والسلامُ منذ أن كانَ نبوءة في الكتب السماويّة السابقة، وتظلُّ الموسيقى والغناءُ يسيران معًا في مسارٍ هادئٍ، يعلو ويهبطُ بحساب، حتى إذا ما وصلنا إلى وصفِ معجزة الإسراءِ والمعراج، نجدُ السنباطي يبدأ رحلة الإسراء بجُمَلٍ موسيقيّةٍ هادئةٍ أشعرُ معها أنها «جمَلٌ أفقيّة» تفرشُ الطريقَ أمام البُراقِ من مكّة المكرّمة إلى بيت المقدس، وتظلّ الجُمَلُ اللحنيّة والأداءُ الكُلثومي على هدوئهما فنحن في حضرةِ أنبياءِ اللهِ جميعا عليهم الصلاة والسلام، ونحن في «صلاة» إمامُها محمدٌ والمصلّونَ أنبياءُ اللهِ جميعُهُم، فلابد من الهدوءِ الذي يليقُ بهذه اللحظاتِ القدسيّة. ثمّ يرتفعُ النبضُ وتتوهّجُ الموسيقى في رحلةِ المعراجِ والصعود لتبلغَ الذروة في:
حتّى بلغتَ سماءً لا يُطارُ لها
على جَناحٍ ولا يُسْعَى على قدمِ
وبعدَ وصفِ هذا المشهدِ العظيم، تحدثُ قفزةٌ هائلة في الاختيارِ والانتقاءِ، قفزة قوامها ستة وتسعون بيتًا، أشعر معها أنها تصوير للعودة من السماءِ إلى الأرضِ مرّة أخرى!!
تنتهي القفزةُ بالوقوفِ عند البيتِ السادسِ والثمانين بعد المائة، ومنه يبدأ التمهيدُ للأمتارِ الأخيرةِ في القصيدةِ المغنّاة، وفيها تلوحُ السمة الثابتة في نبويّات شوقي وهي شكوى حال المسلمين والتوسّل بالرسول الكريم والتضرّع إلى اللهِ بأن يلطف بالإسلام والمسلمين:
ياربّ هبّتْ شعوبٌ من منيّتِها
واستيقظتْ أممٌ من رقدَةِ العدَمِ
رأى قضاؤكَ فينا رأيَ حكمَتِهِ
أكرِمْ بوجْهِكَ من قاضٍ ومنتَقِمِ
فالطُفْ لأجلِ رسولِ العالمين بنا
ولا تُزِدْ قومَهُ خسفًا ولا تَسُمِ
يا ربّ أحسنتَ بَدءَ المسلمينَ بهِ
فتمّمِ الفضلَ وامنحْ حُسْنَ مُخْتَتَمِ
ويظلُّ صدى البيتِ الأخيرِ مسافرًا في الوجدانِ والذاكرةِ كشهابٍ من شهُبِ شوقي والسنباطي وأمّ كُلثوم، فبالرغمِ من أنّ شوقي هو مؤسس القصيدة وبانيها، فإنّها ما كانت لتفارق مرقدها الباردِ في سجن الديوان لو لم تمتدّ إليها ذائقتا السنباطي وأمّ كلثوم، ليتكفّلا معًا بإعادةِ إطلاقِها عبر الأثير الأبدي لتكونَ مِلكًا لملايين القادمينَ من بعدِنا.
الهمزيّة النبويّة (وُلِدَ الهدى)
الرائعة الدينية الثالثة مع ثلاثي قمّة الشعر والنغم والغناء: أحمد شوقي ورياض السنباطي وأمّ كُلثوم. «الهمزيّة النبويّة» التي خضعت لعمليةِ اختيار صعبة أيضا لتتحوّلَ ـ غنائيّا ـ إلى «وُلِدَ الهدى».
القصيدة الأصلية تقعُ في مائة وواحد وثلاثين بيتا، نشرها شوقي للمرة الأولى بجريدة «المؤيّد» في السابع من مارس 1912م، وتدورُ حول الابتهاج بمولد النبي العظيم عليه صلواتُ اللهِ وسلامُه.
غنت أم كلثوم أربعة وثلاثين بيتا من هذه القصيدة، وكانت المرة الأولى لغنائها في نوفمبر 1949م، وعلى العكس من القصيدتين السابقتين نجد شوقي يقفزُ مباشرة إلى الغرض الذي تدور القصيدة حوله، فلا يمهّد له بالغزل أو الحكم أو النصح والإرشاد، من اللحظةِ الأولى يضعُنا في قلب الموضوع ببراعة استهلال بديعة:
وُلِدَ الهدى فالكائناتُ ضياءُ
وفمُ الزمانِ تبسُّمٌ وثناءُ
استهلالٌ نورانيٌّ مضيءٌ يملأ الكون بالفرح والنورِ بلا نهاية، الفعلُ وردُّ الفعلِ يحدثانِ في زمنٍ لا يتجاوزُ الفيمتوثانية، فبمجرد ميلاد النبي الكريم أضاءَ الكونُ بما فيه من ثابت ومتحرّك، والزمان، كأنه إنسانٌ له وجهٌ يعلوهُ البِشْرُ والابتسامُ، ولسانُهُ يلهجُ بالثناءِ والصلاةِ على هذا الوليد.
وبعد أن ينتهي شوقي من رسم لوحة الميلاد والابتهاج بها، يلتفتُ من الغائبِ إلى المُخاطَبِ، ليوجّه التحيّة إلى الرسول الكريم، تلك التحيّة المرفوعة من «بيت النبوّة» الذي يجتمعُ فيه كل أنبياءِ الله السابقين:
يا خيرَ مَنْ جاءَ الوجودَ تحيّةً
من مُرسَلينَ إلى الهدى بِكَ جاءوا
بكَ بشَّرَ اللهُ السماءَ فزيِّنَتْ
وتضوّعَتْ مِسكًا بكَ الغبراءُ
وتتابعُ المعاني النورانيّة والصورُ البديعة التي تصفُ شمائل النبي الكريم وتتبّعُ خطاهُ، من المولد إلى الوحي إلى بناءِ الدين الجديد، آية آية حتى يعلو البناءُ ليطاولَ الزمن، دين لبناتُه الأولى هي الآياتُ المضيئة، وأساسه الحق والعدل، وكيف لا والله جلّ جلالُه البنّاءُ؟
ويسبحُ بنا ثلاثتهم، شوقي والسنباطي وأمّ كلثوم، في بحر نورانيّ ليس له شطآن، ولا نفيق إلا مع لوحة الختام، عندما يوقظنا شوقي ويذكّرنا بحال أمّتنا الذي يُرثى له، ولا أدري ماذا سيقولُ شوقي (الراحل في فجر الرابع عشر من أكتوبر 1932م) لو عاش إلى أيّامنا هذه ورأى ما نرى!! هل كانت كل معاجم اللغةِ تفي باحتياجاتِهِ في باب البكاءِ والتحسّر؟
ما جئتُ بابَكَ مادِحًا بل داعيًا
ومن المديحِ تضرّعٌ ودعاءُ
أدعوكَ عن قومي الضّعافِ لأزمَةٍ
في مثلِها يُلقَى عليكَ رجاءُ
لقد ساهمَ شوقي بأشعاره الخالدة في صنع جزءٍ كبيرٍ من أسطورة أمّ كُلثوم، وفي المقابل ساهمت أمّ كلثوم في صنع جزءٍ كبير مـن «ديوان شوقي المسموع»، فإن كان شوقي قد أعطاها نهرًا من رصانةِ الفصحى وعمقِها وتوهّجها، فقد أعطته أم كلثوم عمرًا من الذيوع والدوران في ذكريات الأجيال الجديدة التي قد يصلُ بها التطوّرُ إلى أن تعتبرَ الكتابَ من الأشياءِ المُتحفيّة، وبين القمّتين تظل القمة السنباطيّة التي لا تطاولها قمّة موسيقية أخرى في تلحين القصيدة العربية، وإن كنا قد توقفْنا مع هذه الثلاثية من الشوقيّات الدينية المغناة بألحان السنباطي وشدو أم كلثوم، فإنّ لثلاثتهم شاهقةً رابعةً هي «إلى عرفاتِ الله»، قد يكونُ لنا معها وقفة مقبلة بإذن الله.