روي عن أحد الملوك أنه قال: "إن أمر الدين والدنيا تحت" شيئين: قلم وسيف، والسيف تحت القلم" فهل ارتفع حقا القلم رمز الحكمة في مواجهة السيف رمز السلطة، أم أن العلاقة بينهما ظلت تسودها هواجس الخوف وحذر البطش؟
كان مديح "القلم"، في جانب منه، إعلاء من شأن رمزه الدال على الثقافة الكتابية، بالقياس إلى "اللسان" الذي كان رمزا للثقافة الشفاهية. وكان هذا المديح، في جانبه الثاني، إعلاء من شأن كل ما ترمز إليه الكتابة بالقياس إلى نقائضها، ومن ثم كان مديح القلم، في هذا الجانب الثاني، تمجيدا لمعنى الحكمة التي صارت لازمة من لوازم الكتابة، وإبرازا لدلالة العقل الذي صار قرينة على وجود الكاتب. وذلك هو سبب ما نطالعه في التراث الخاص ببلاغة الكتابة من قولهم : "إن القلم قسيم الحكمة"، وما روي من قول أفلاطون: "إن الخط عقال العقل". وقد نسب إلى أرسطاطاليس قوله : "إن القلم العلة الفاعلة، والمداد العلة الهيولانية، والخط العلة الصورية، والبلاغة العلة النامية". وكلها أقوال تؤكد اقتران القلم بالعقل بوصفة أداة له، وعلامة عليه، وذلك من المنظور نفسه الذي أصبح فيه العقل مصدر الحكمة، وقرين المعرفة الموسوعية الشاملة للفلسفة التي هي محبة الحكمة، وعلامة الوعي الديني الذي ازدهرت فيه الفلسفة اليونانية. أعني أن القلم الذي كان يقابل اللسان في التحولات المتعاقبة للثقافة من الشفاهية إلى الكتابية، والصراع الآني بين النزعتين في الثقافة التي تجمع بينهما) أصبح يتعارض واللسان تعارض الموروث الشفاهي (العربي) والوافد الأجنبي (اليوناني). وفي الوقت نفسه، يتعارض القلم والسيف تعارض العقل والمادة، الحكمة والقوة، الكاتب والسلطان، رجل القلم ورجل السيف.
هذا التعارض الجديد هو ما نلمح لوازمه في الحضور المتوتر الذي انقسمت به "كليلة ودمنة" أو "ألف ليلة وليلة" أو غيرهما من الكتابات القديمة، العباسية، المترجمة، أو المؤلفة؟ بين الحكيم صاحب "القلم" والسلطان صاحب "السيف". أعني الانقسام الذي جعل من شهرزاد، في الليالي، نموذجا لما ينبغي أن يكون عليه جنسها الذي أصبحت الكتابة بعض وجوده، والذي صاغته باقتدار صورة الجارية تودد، فكانت شهرزاد عارفة، لبيبة، "قرأت الكتب والمصنفات وكتب الطبيات وحفظت الأشعار وطالعت الأخبار وعلمت أقوال الناس وكلام الحكماء والملوك" وجمعت بين الرواية والدراية ما وصله رمز القلم. وفي مقابل شهرزاد، كان شهريار النقيض الحيواني الذي جمع إلى البطش التسلط، وإلى سوء الظن العنف، وإلى القوة المادية رمزها العاري: السيف الذي يهبط على الرقاب فينفي عنها معنى الوجود أو الحضور. وكان التعارض بين شهرزاد وشهريار صورة أخرى من تعارض بيدبا ودبشليم، في حكايات "كليلة ودمنة"، حيث كان الأول تمثيلا رمزيا لنموذج الحكيم العاقل، الوجه الآخر من شهرزاد، في رموزه الكتابية المرتبطة بالقلم والقرطاس، من حيث تجاوب معانيهما، وتفاعل سياقاتهما، في كل ما يشير إليه التجاوب والتفاعل مما له صلة بالمعارف الإنسانية الواعدة للمعمورة الإنسانية التي ارتحل برزويه بحثا عن كنوزها. وفي مقابل بيدبا وأشباهه، كان دبشليم القول الباطشة بكل لوازمها، حيث الحضور التدميري للعنف العاري في رزمه الدال: السيف مقرونا بالسياف.
أقنعة المرامي
ولم تكن حكايات "كليلة ودمنة" معروفة، في صياغتها العربية، سوى أقنعة للمرامي التي قصد ابن المقفع إلى تأكيدها، على مستوى التعارض الرمزي بين السيف والقلم، وهو التعارض الذي حل به القلم محل الكاتب الحكيم (بيدبا)، والسيف محل السلطان الباطش (دبشليم)، في العلاقة المتوترة التي دفعت ابن المقفع إلى القول صراحة: "إن الملوك أحوج على الكتاب من الكتاب إلى الملوك"، وهو القول الذي يمكن أن نعده المقابل التفسيري لما قاله بيدبا الحكيم من أنه إذا كان للملوك فضل في مملكتها فإن للحكماء فضلا في حكمتها أعظم، لأن الحكماء أغنيا، عن الملوك بالعلم وليس الملوك بأغنياء عن الحكماء بالمال. وذلك تفسير يؤكد ما كان يقصد إليه أمثال ابن المقفع من أن الكتاب عقل السلطة الذي تهتدي به، وذلك بالمنى الذي يفرض على "السيف" أن يكون تحت "القلم"، وطوع حكمته وهو ما يرمز إليه حضور "بيدبا"، أو الحضور الرمزي للكتابة- الحكمة، وللكاتب- الحكيم.
هذا التقابل بين "القلم" رمز الحكمة و"السيف" رمز السلطة، في تعارضهما الذي اصطدم فيه الحكيم بالسلطان، وعاشت في خوف منه، أو على حذر من بطشه، لم يكن تقابلا عصورا بين قمة الدولة، حيث أدى بيدبا ودبشليم، أو شهرزاد وشهريار، أدوارهما المعروفة، في توتر العلاقة بين الحكمة الهادية للعقل والقوة الباطشة للسلطة، وإنما امتد إلى المستويات الأدنى في البناء المتراتب للدولة، وهبط من توتر العلاقة بين الكاتب - الوزير - الحكيم - الناصح - العاقل الأديب من ناحية، والسلطان - الحاكم - الأمر - الناهي - القاهر- الباطش من ناحية ثانية، إلى توتر العلاقة بين كل فئات الكتاب وكل فئات العسكر. وكما تعددت طوائف الكتاب ودرجاتهم وأقدارهم، في البناء المتراتب لوظائف الدولة، وحسب مدى البعد أو القرب من كرسي الحكم، في علاقات القوى المتصارعة، أو تشابكات الأجهزة المتضافرة، تعددت طوائف العسكر بالقدر نفسه، ولكن إلى الدرجة التي سمحت لهم، في حالات متعددة، بالهيمنة على الحكم أو الخليفة الذي كانوا درعا له، فأصبحوا سلطانا عليه. وكما ارتبطت صورة "رجل القلم" بالحكمة والحصافة والفعل والفطنة، ومهنة تحصيل المعرفة وتحريرها، أو صياغتها ونشرها، في المأثور من تراثنا، ارتبطت صورة "رجل السيف" بالقوة الباطشة، جنديا أو شرطيا، وبممارسة العنف والقمع الذي لا يفلت منه أحد. ووصل الأمر في تداعيات الخوف المرتبطة بهذه الصورة الأخيرة، في الوجدان الشعبي، أن نسب إلى سفيان الثوري أنه قال: إذا رأيتم شرطا نائما عن صلاة فلا توقظوه لها فإنه يقوم يؤذي الناس.
هذا الوجدان الشعبي الذي انطوى على الخوف لم يكن مفزعا من قمع الشرطي وحده، فتجليات الحضور القمعي متعددة في تراثنا، صلته بأهل السيف صلة المعول بعلته القريبة في الأذهان، وصلة الخلافة بدرعها الذي انقلب عليها، منذ أن أصبح لأهل السيف حضور يفوق حضور أهل القلم. ولم يكن صاحب القلم الساخر بعيداً عن التقاط دلالة المفارقة، في هذا الموقف، حين وصف أحد الخلفاء الذين انقلبت عليهم القوة العارية لأهل السيف بقوله:
خليفة في قفص
بين وصف وبغا
يقول ما قالا له
كما تقول الببغا
وقد قيل البيتان السابقان في الخليفة "المستعين" الذي حكم أقل من أربعة أعوام "248 - 252 هـ) في العصر العباسي الثاني الذي لم يكد خليفة ينجو فيه من القتل، بعد أن سقطت الخلافة في شرك السيف الذي أرادت منه أن يحميها فأغوته القوة بالانقلاب عليها والبطش بها.
أهل القلم وأهل السيف
وقد كان توتر التعارض بين أهل القلم وأهل السيف حتميا في سياق الصراع على القوة في الخلافة العباسية، بوصفها الخلافة التي تحقق فيها وبها الأفق الديني للدولة، في علاقاتها المتشابكة ومصالحها المتصارعة وفي حضورها الذي استلزم أهل القلم بوصفهم العنصر الفاعل في الأجهزة، الأيديولوجية للدولة، وأهل السيف بوصفهم العنصر المقابل في الأجهزة القمعية للدولة نفسها. و بقدر ما كان الصراع بين العنصرين صراعا على تحديد هوية الدولة، وطبيعة حضورها المديني ومن ثم الاتجاه بالسلطة صوب الحضور الواعد لرمزية القلم أو الحضور القاهر لرمزية السيف، كان شكل الصراع يتغير حسب مكونات بنيته، وكانت نتيجته تختلف حسب علاقات القوى فيه. كان يحدث، أحيانا، نوع من التوازن بين أهل القلم وأهل السيف، حول كرسي الحكم، فيحدث توازن مماثل في المستويات الهابطة من تراتب بنية الدولة وعلاقاتها الاجتماعية. وكان ذلك وقت قوة الدولة العباسية التي حاولت، حسب شروطها ومكوناتها العلائقية، الجمع بين حكمة القلم وقوة السيف في عصرها الأول. وفي أحيان أخرى، كان التوازن يختل، وتترك الدولة العنان للسيف، أو تعجز عن ضبطه في مواجهة القلم، أو حتى في مواجهة حضورها، فيقصف السيف القلم، أو يبطش بأهله فيمن يبطش. ولكن سواء كنا ننظر من زاوية التوازن، أو زاوية اختلاله، فقد ظلت العلاقة بين السيف والقلم علاقة صراع وتوتر، وظل مديح القلم نوعا من هجاء نقيضه، في بلاغة المقموعين التي تلجا إلى الإيماء الذي لا يمكن كشف ما يطويه إلا بالكشف عن السياق التحتي للمناظرات الشعرية التي دارت حول تفضيل القلم على السيف، في مواجهة تفضيل السيف على القلم، في سياق علاقات الحضور المديني الذي أنتج رمزية الصراع وتوتره.
وغير بعيد عن هذا السياق ما رواه القلقشندي، في كتابه "صبح الأعشى في صناعة الإنشا"، وهو يسترجع بالرواية تراثا طويلا من العلاقة المتوترة التي لم تخل من العنف والقمع، بين أهل السيف وأهل القلم، خصوصا حين يقول إن الإيمان بشرف الكتابة دفع كثيرا من أهل البلاغة في العناية بوضع رسائل في المفاخرة بين السيف والقلم إشارة إلى أن بهما قوام الملك وترتيب السلطنة، بلي ربما فضل القلم على السيف، كما قال ابن الرومي:
إن يخدم القلم السيف الذي خضعت
له الرقاب ودانت خوفه الأمم
فالموت، والموت لا شيء يغالبه
مازال يتبع ما يجري به القلم
كذا قضى الله للأقلام مُذْ بُريَتْ
أنَّ السيوف لها مُذ أرْهفَتْ خَدَمُ
وأحسب- أن تمثل السياق المتوتر من العلاقة التي أنتجت مثل هذه الأبيات يتيح لنا أن ننظر إلى الأبيات الاستهلالية، من قصيدة أبي تمام الشهيرة التي قالها بمناسبة فتح عمورية، من منظور جديد، أعني الأبيات التي تقول:
السيف أصدق إنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف
في متونهن جلاء الشك والريب
والعلم في شهب الأرماح لامعة
بين الخمسين لا في السبعة الشهب
وهي أبيات تنطق العلاقة المتوترة بين "السيف" ولازم "القلم" (الذي هو "الكتب") على نحو لافت في إبانته التي تزداد جلال في سياق أبيات ابن الرومي، صحيح أن المقصود بالكتب، في السياق المخصوص للقصيدة هو كتب التنجيم التي حذر أصحابها المعتصم من اقتحام عمورية، وخوفوه من غزوها، فلم يستجب إلى التحذير أو التخويف، واندفع بعسكره على المدينة ففتحها. ولكن تراكيب الأبيات تنطق دلالة عامة تجاوز المعنى المخصوص لكتب التنجيم، وتبدأ بنوع من الحسم الدلالي الذي تبرزه المقابلة الحادة بين "السيف" و"الكتاب". وهو مقابلة ترد الصدق إلى الأول الذي تقرنه بالجد، في مقابلا "الكتب" التي تنفرد بالكذب ومعنى اللعب، وذلك على نحو تبدو معه "بيض الصفائح" (السيوف) أقرب إلى الكناية المحببة التي تنطوي على دلالات الخير والفائدة والحسم والنور واليقين والبشرى، في مقابل "سرد الصحائف" (الكتب) التي تحولت إلى كناية منفرة تودي معاني الشر والظلمة والجهل. وتلك مقابلة تستبدل بشك الكتاب جلاء الريب الذي ينطوي عليه معنى السيف، وتستبدل بمتون الصحائف الورقية متون الصفائح المعدنية في حسم الأمور وإقرارها. وإذا كان التجنيس بين "حد" السيف وفعله الذي يوقع "الحد" بين الجد واللعب، يدعم معنى المقابلة بين متون الكتب ومتون السيوف، فإن المقابلة التي يؤديها البيت الأخير بين "شهب الأرماح" التي هي أسنة الرماح و "السبعة الشهب" التي هي طوالع النجوم.، تضيف إلى معنى "العلم" ما يتباعد به عن كتب التنجيم، ويميل به إلى التعميم الذي يفرضه سياق يهيمن عليه حضور من "ظبي السيوف وأطراف القنا السلب" أو حضور من القوة العارية التي لو كانت بغير السيف لم تجب.
القوة العارية للسيف
ولم يكن أبو تمام، في قصيدة عمورية، بعيدا عن الحضور الطاغي لهذه القول العارية، فقد كان يمدح المعتصم رجل السيف وجنده الأتراك، ويقترب من قادة الجند الذين رفعوا صرح المؤسسة العسكرية إلى الدرجة التي فجرت الخلافة العباسية من داخلها، وأسقطت هيبتها، وطاردت كتابتها الإبداعية، وقمعت خلفاءها ورعيتها في آن، ومن الطبيعي، في هذا السياق؟ أن تركز قصيدة أبي تمام على "السيف" الذي هو شارة السادة الجدد، في عصره، مقابل "الكتب" التي هي شارة الأتباع الجدد للسادة الجدد، أو شارة الطائفة التي كان عليها أن تحتل المرتبة الأدنى بالقياس في مرتبة أهل "السيف"، في العصر الذي سيطر فيه أهل السيف على الدولة؟ حين غدت "سود الصحائف" أهون من "بيض الصفائح" في جلاء الشك والريب وتحديد مستقبل الأمة. وأحسب أن ذلك هو الحال الذي صدر عنه وعي المتنبي الشعري، في تلخيصه نتيجة صراع السيف والقلم، حين قال وهو يذكر مسيره من مصر:
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي
المجد للسيف ليس المجد للقلم
اكتب بناء أبدا بعد الكتاب به
فإنما نحن للأسياف كالخدم
وكان المتنبي، في بيتيه هذين، يجسد بالشعر ما أصبح عليه الواقع، وما استقر في الأذهان عن علاقة السيف بالقلم، ويعقب على التفاوت بين مراتبهما، حكيما، ساخرا، متمردا كعادته، في سياق متوتر، لم يكن بعيدا عن التنظيرات التي صاغها المفكرون، خصوصا أولئك الذين حاولوا تأصيل الأوضاع؟ وتبرير ما انتهت إليه الأحوال. وقد تواصلت هذه التنظيرات، واتصلت في تعاقب الأجيال، إلى أن انتهت إلى ابن خلدون الذي لخصها في مقدمته، وأوجزها بما يمكن أن نعده رأيه في عصره، أو وعيه بتراثه، أعني الوعي والرأي اللذين تحددهما العبارات التالية:
"اعلم أن السيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدولة، يستعين بهما على أمره، إلا أن الحاجة في أول الدولة إلى السيف، مادام أهلها- في تمهيد أمرهم أشد حاجة إلى القلم، لأن القلم في تلك الحال خادم فقط، منفذ للحكم السلطاني، والسيف شريك في المعونة. وكذلك في آخر الدولة، حيث تضعف عصبتها كما ذكرناه، ويقل أهلها بما ينالهم من الهرم الذي قدمناه، فتحتاج الدولة إلى الاستظهار بأرباب السيوف، وتقوى الحاجة إليهم في حماية الدولة، والمدافعة عنها، كما كان الشأن أول الأمر في تمهيدها، فيكون للسيف مزية على القلم في الحالتين، ويكون أرباب السيف حينئذ أوسع جاها وأكثر نعمة وأسنى إقطاعا".
تمرد أهل القلم
ومن الطبيعي، إزاء مثل هذه التنظيرات، أو إزاء هذه النتيجة التي لم ينفرد بها ابن خلدون في تأكيد أولوية السيف في الرتبة لارتباطه بالشوكة، أن يتمرد أهل القلم، وأن لم يردوا الصاع بطرائقهم، وأن يستبدلوا بالتراتب المفروض عليهم تراتبا آخر، يقيمونه على مستوى الرغبة، إن يستطيعوا أن يحققوه على مستوى الواقع. وقد خلقت هذه الرغبة ما نتج عنها في الكتب الخاصة ببلاغة الكتابة، ومنها كتاب أبي بكر محمد بن يحيى الصولي عن "أدب الكتاب"، الذي يضم الكثير من المقطعات الشعرية التي تقارن بين السيف والقلم، وتستبدل بمكانة الأول فضل الثاني، كما لو كانت هذه المقطعات ترد على ما يحدث في زمنها، وواقعها، بطريقة الإيماء والتورية التي تلجأ إليها بلاغة المقموعين، ومن الصعب على من قرأ "عمورية" أبي وتمثلها، في هذا السياق، أن يمر عفوا على الأبيات التي كتبها الصولي نفسه، والتي أرسلها إلى صديقه الكاتب أبي علي محمد بن علي في أيام وزارة أبن الفرات الأولى، ضمن قصيدة تبدو كما لو كانت معارضة فكرية، تستبدل بالمكانة التي اغتصبها السيف المكانة التي يستحقها القلم. ولا غرابة في ذلك، فالقلم سلاح الكاتب الحكيم الذي هو:
مشف على الرأي نظار عواقبه
إذا تشابه وجه الرأي واحتجبا
في كفه صارم لانت مضاربه
يسوسنا رغبا إن شاء أو رهـبا
السيف والرمح خدام له أبدا
لا يبلغان له جدا ولا لعبا
والوصف الذي تنطوي عليه الأبيات للكاتب، ومن ثم "القلم"، ينبني بالطريقة نفسها التي انبنى بها التقابل بين "السيف" و"الكتب" في قصيدة أبي تمام. كل ما في الأمر أن التراتب ينقلب رأسا على عقب، مع إبقاء الألية نفسها التي تحرك التراتب وـتحفز عليه، وتبدأ الأبيات بالتركيز على القوة الفكرية للكاتب، القوة التي هي جلاء الشك والريب عند من ينعم النظر، لأنها القوة التي تشرف على الرأي السديد، وتبصر عواقب الفعل، حين تشتبه وجوه الرأي على أصحابه، أو يحتجب عنهم اليقين. وعلامة هذا الكاتب وشعاره الرامز: القلم الذي هو بديل من السيف، ونقيض له، فالقلم هو الصارم الذي تلين مضاربه، والذي يسوس الناس رعبا أو رهبا بسحر الكلمة التي يخطها. ولأنه قرين العقل وأداته فالسيف والرمح خادمان له، لا يبلغان مبلغه جدا ولا لعبا، فهو القوة التي يمكن، والتي ينبغي، أن توجههما في حالتي الرضى والغضب، وما يكتبه هو القول الفصل، والحكم النافذ، والفعل الذي يمتد أثره إلى الواقع، ويحقق النصر على الأعداء. وتختتم الأبيات بالمفارقة التي تتلاعب بعلاقة اللون بين المداد والدماء، وتوقع المخايلة بين استقامة القلم المصنوع من القصب والحسام المصنوع من المعدن.
الإعلاء من شأن القلم
ويلفت الانتباه أن أبيات الصولي الكاتب من الوزن نفسه الذي نظم به أبوتمام الشاعر، وأن بعض كلماتها يؤكد علاقة تناص بين منظور الكاتب ومنظور الشاعر على مستوى التقابل. وذلك مستوى يدعمه توظيف الطباق والجناس، من الزاوية التي يهدف بها الصولي في قلب التراتب بين السيف والقلم؟ والإعلاء من شأن الثاني، ثأرا من الإعلاء الذي فرضه الواقع بالسيف، أو فرضه السيف على الواقع. وأحسب أن هذا الثأر هو المعنى المضمن، محلى مستوى الرغبة، في أبيات أبي يزيد عتاب بن ورقاء (في أحد الكتاب) التي تقول:
لك القلم الذي لم يجر إلا
أبان لك العدو من الولي
إذا استرعفته ألقى سوادا
على القرطاس أبهر من حليّ
فيا طوبى لمن أدلى إليه
بإحسان وويل للمسي
شباة سنانه في الحرب أمضى
وأنفذ من شباة السمهري
فقال سلاح متلك وهو يعزي
سلاح الفارس البطل الكمي
ويلفت النظر، في هذه الأبيات الأخيرة، ما تنطوي عليه من لغة المنازلة، وهي لغة أقرب في رد الفعل المنعكس الآلي، إذا جازت هذه العبارة، على حال مفروض من الخارج، مرتبط بواقع لا سبيل إلى مواجهته ألا بقلب التراتب الذي يفرضه، على النحو الذي يستبدل بصفات الإيجاب في طرف الصفات المماثلة أو الموازية في الطرف الثاني، وبما يجعل من الطرف الثاني صورة مقلوبة من الطرف الأول.
ابن الرومي بين السيف والقلم
إذا تركنا السياق الذي يرد عجزه في صدره، وخلفنا أبيات الصولي إلى كثير غيره، وجدنا أبيات ابن الرومي الشاعر الذي قال:
لعمرك ما السيف سيف الكمي
بأخوف من قلم الكاتب
له شاهد إن تأملته
ظهرت على سره الغائب
أراه المنية من جانبـ
ـيه فمن مثله رهبة الراهب
ألم تر في صدره كالسنا
ن وفي الردف كالمرهف القاضب
وهي أبيات تمضي مثل سابقاتها في قلب التراتب، واستبدال القلم بالسيف في المكانة والتأثير، ومن ثم التركيز على أهمية الفكر الذي يحرك المادة ويوجه القوة القمعية، بما يجعل "القلم" أكثر إيقاعا للخوف من "السيف"، فهو الموت شكلا ومضمونا، لأن تأثيره يفضي إلى الدمار، حين يراد له أن يكون سبيل الدمار، ومضمونه يسقط معناه عل شكله فيجمع ما بين الهيئة التدميرية للسان والسيف معا.