تهاجر الطيور بحثا عن أرزاقها وقد لا تعود أو تعود لتجد عشها تذروه الرياح.. وكذلك البشر لا بد دائما من ثمن للغربة.
في البـدايـة يلخص لنا د. سليم العوا المفكر الإسلامي المعروف أعراض هذه المشكلة التي أصبح عالمنا العربي يعاني منها بقوله: أصبح هجـر آلاف من الآباء لأسرهم واقعـا تفرضه الظروف.. وهو واقع سيئ يرتب مجموعة من الآثـار السيئـة على جميع الأطراف فليست الغربة والوحدة التي يعاني منهـا الأزواج شيئـا قليـلا على نفوسهم، وليس المال الذي يقدمونه لأسرهم لتـوفير متطلبـات الحياة- التي يجب أن نسلـم بأنها أصبحـت شديدة الصعـوبة- ليس المال تعويضا كافيا ولا هو حتى تعويض من أي نـوع لأن المال جـزء من المتطلبـات الحيـاتيـة.. أهم منـه- يسبقه ويلحقه ويأتي معه- الإشباع العاطفي الذي يشعر به الأبناء من وجود الأب، هذا الإشباع ينعدم تقريبا في فـترة غياب الزوج الذي يأتي في فترة الإجازة فتكون إقامته كإقامة الغريب، ثم يتركهم عائدا لعمله.
كـذلك.. فإن تنظيم العـلاقـة بين الآبـاء المغتربين وأسرهـم أمـر ضروري يوجبه الشرع لأن التـاريخ الإسـلامي يحكي لنا أن عمـر بن الخطـاب أمر بألا يبتعد رجل عن زوجته أكثر من أربعة شهور.. وهذه المدة وإن كـانت طويلة في ذاتها إلا أنه إذا كسرت حدة الغياب كل أربعة أشهر مرة بزيارة من الزوج ولو لمدة أيام قليلة فتكون الإجازة السنوية قـد وزعت على السنة.. فبدلا من أن يأخـذ شهرا واحدا يكون فيه ضيفا.. يأخذ أسبوعا كل أربعة شهور.
وهناك مشاكل عديدة تنجم عن غياب الأب.. فقد تلجأ الأم- وهو عادة مـا يحدث- إلى الجار أو إلى الصـديق أو ابن العم لتسألـه المشورة.. وفي هذا من المفاسد مالا يخفى، خاصة حينما تنشأ الثقة بينه وبين الأسرة هذه الثقة التي قد تؤدي لاهتزاز صورة الأب.
لا نستطيع أن نقول للآباء ابقوا لأن مطـالب الحيـاة كثيرة ولكن نستطيع أن نقـول لهم ولأربـاب الأعمال راعوا ألا تنهدم الأسر لأن هـدم الأسر سيعـود على المجتمع العربي كله بالتفكك.. ومهما أقمنا من مشاريع ومبان و.. فإنه لا قيمة لما نبنيـه على الأرض مـا دمنا نهدم داخل الإنسان.. بقي أن نعرف أن عـدد الآباء التـاركين لأسرهم من المصريين مثلا نصف مليون مصري بالسعودية، 220 ألفا بالكويت، 110 آلاف بالسودان، فضـلا عن مئات الآلاف في أوربا وأمريكا.
الإخوة العرب كـذلك يعيشون بمئات الآلاف في أوربا فكل رجال الأعمال والمحـاسبين والمحـامين والمهندسين لديهم مكاتبهم في أوربا وأمريكا- وخاصة في فرنسا- وكذلك مكاتب في باقي الدول العربية.. وهم يقضـون حيـاتهم على الطائرات.
والصورة التي أراها أصبح الرجل فيها "مجلبة للمال" وأصبحت الأسرة مكانا للإنفـاق.. ولا قيمة لها فوق ذلك.
مخاطر على الأبناء
وإذا كـانت تلك هي الصـورة التي رسمهـا د. محمـد العـوا وبين حكم الشريعـة فإن رأي علم نفس بعـد دراسة واعية للأبناء الذين يتركهم آبـاؤهـم.. هي صـورة مأساوية ترسم ملامحها الوحدة التي يعانونها.. فيذكر الـدكتور مصري حنـورة أستـاذ علـم النفس وعميد كلية الآداب جامعة المنيا أن موضوع الهجـرة وراء العلم أو الرزق هـو موضوع قديم جداً بدأ في الشام ومن قبلهـا في شبه الجزيـرة العـربيـة في صدر الإسلام فنذكر هجرة المغاربة لمصر (ابن خلدون.. المرسي أبـو العباس).
وقـد تغيرت الأحوال الاقتصادية في النصف الثـاني من القرن العشرين وزادت نسبة السفر عند المصريين نتيجة لإلحاح الحاجـة.. ومن منظور الدراسة النفسيـة لـلأبنـاء وجـدنـا أن هناك أمـريـن خطيرين يتعرض لهما الأبناء:
* الأول: فقـد سيطـرة الأب على الأبنـاء وتسلـط أصـدقاء السـوء.. العلاقات المنحـرفة وكـل تلـك هـي أمراض اجتماعية تقود في النهـايـة لفقـدان السيطـرة على إرادة الأولاد وقد يندمجون في جماعـات ضـد القانون.
* والثاني: المستوى الجامعي.. فوجـود الأب عماد الأسرة إلى جانب الابن يحفزه على المستـوى العلمي المتقـدم.. فـإذا غـاب الأب.. فـالمشاهد من الاستطلاعات التي جرت لعينـات كبيرة من الشباب أن يلجأ الابن لشخـص آخـر يسألـه الإرشاد.. وغالباً ما يقوده هو الآخر لـلانحراف.. وشيئا.. فشيئا تتعقد مشكلتـه حتى يضل طريق العلم... وفي حـالات كثيرة كـان يلجأ الشاب للحبوب المهدئة التي تكون فيها نهايته.
الإدمان خطر آخر
ويؤكد هذا الدكتور جمال ماضي أبوالعزايـم أستاذ الطب النفسي الذي يذكر أن مشكلة الإدمان السبب الـرئيسي فيها هـو أصدقـاء السـوء، فعام 1967 كـانت نسبـة الإدمان بين الشباب بسبب أصدقاء السـوء 30%... وأخذت في ازدياد حتـى وصلـت 1993 إلى 90% والسبب الرئيسي في صداقات السوء كـان غياب الأب، ويرى د. أبوالعـزايم أن الحل من وجهـة نظـره يكمن في "التكافل الاجتماعي" لأن قلـة من الأمهات تستطعن القيام بالدورين معاً "الأم + الأب".. لذا فلا بد من وقـوف العم أو الخال أو الجد إلى جـوار الأم في غيبـة الأب الذي تضطره ظروف اليوم للغياب عن الأسرة سواء في مصر أو في الدول العربية.
أما عالم الاجتماع الذي يـدرس منـاخ المجتمع وتأثير تلك الظواهر فيـه فيصفه د. على فهمي الباحث بالمعهد القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بقوله: إن الأب عند عودته يجد أن الأبناء قد تعودوا على الإنفاق والزوجـة تعـودت على الحريـة.. فيشعـر بغربته بين ذويه.. وقـد رصدنـا حالات لا تعد تشتت فيها شمل الأسرة عند عودة رب الأسرة للاستقرار في أسرته، وفي رأيـي أنه لا بد من تنظيـم خـروج رب الأسرة خارج بلده فلا يترك الأمر للأفراد بل لا بد أن يعود للحكومة دورها في تنظيم أي اتفاقيات للعمل خـارج البـلاد كـما كـان يحدث في فترة الخمسينيات.
وهكـذا . . نرى أن حصاد آراء هؤلاء- رجال علم النفس والاجتماع والدين ودراساتهم على الشباب في المجتمع قد انتهت إلى ضرورة إسعاف هؤلاء الأبناء الذين نقدم لهم العسل ممزوجاً بالسم الزعاف حين نوفر لهم المال وإلى جانبه فـرصـا لا تحصى للانحراف.. حـين نتركهم ونـرحل تفصلنـا عنهم آلاف من الكيلومترات وبحار ومحيطات ثم نعود لنبحث عن الأفراخ في داخل العـش.. وننسـى أن النسر دائما ما يتربص بالأفراخ إذا غاب حارس العش.
لـذا لا بد من تنظيم أمـورنـا والتفكير الدقيق ألـف.. ألف مرة قبل أن نـترك الأبناء الأعزاء ونرحل ونحن نقـول هنـا.. فلـذات أكبادنا.