كـان الإعلاء من شأن "القلم" إعـلاء من شأن الكتـاب، وتحويلا لـه إلى رمز دال على أهميـة الكتـابـة، في مجتمع وصل إلى أفقـه المديني المناقض لـلأفق البدوي، واستهـل مسيرتـه الخلاقـة في الحضارة الإنسـانيـة التي تنبني على معنى التعـاون والتـواصل.
يقول الجاحظ: ليس في الأرض أمة بها طرق (قوة) أو لها مسكة (عقل)، ولا جيل لهم قبض وبسط، إلا ولهم خـط. فأمـا أصحـاب الملك والمملكة، والسلطان والجباية، والديانة والعبادة، فهـناك الكتاب المتقن والحساب المحكم. وفي إشارة الجاحظ إلى الملك والجباية والديانـة ما يشير إلى جـوانب التقدم الحضاري المادية والفكـرية والروحية التي تصل إليهـا الـدولة ويتأصل بها وعيها المديني. وإذا كان الكتاب المتقن يشـير إلى الجوانب الإبداعية للأمة المتقـدمة، في تطلعها إلى ما يرتقي بالإنسان من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، فإن الحساب المحكم يشير إلى الجوانب العلمية والعملية لدرجـة تحضر هذه الأمة، كما يشير إلى وعيها المديني للذي ينطوي على قيم المنفعة.
وما يصل بين الكتاب والحساب المحكم هو "القلم" الذي أصبح علامة بارزة من علامات الحضور المديني المتعدد الأوجـه، من حيث الوظـائف التي يـؤديها، والمنافع التي يحققها، والصناعات التي يشير إليها أو يلازمها وهي صناعات أصبحت مقترنة بحرف مختلفـة المراتب. والمجـالات، متنـوعة العـلاقـات والترابطات، في سياق تجاوبت فيـه دلالات القلم" الذي تحول إلى رمز لطائفة اجتماعية فاعلة في المجتمع المديني، هي طـائفـة الكتاب التي أصبح "القلم" شعارها وعلامتها ورمزها، وذلك على نحـو تحول فيه الحديث عن القلم في حـديث عن الطـائفـة التي تستخدمه، كما تحول الفخر به إلى فخر بالكتابة التي هي نقيض النزعة الشفاهية (وعلامتها اللسان).
هكذا قال عبدالحميد الكاتب: "القلم شجرة ثمرتها الألفاظ، والفكر بحر لؤلؤة الحكمة". وقال ابن المقفع: "القلم بريد القلب يخبر بالخبر وينظر بلا نظر" وقال العتابي: "الأقلام مطايا الأذهان". وقال سهل ابن هـارون: "القلـم أنف الضمير إذا رعف أعلن أسراره وأبان آثاره". وقال ابن أبي داود: "القلم سفير العقل، ورسوله الأنبل، ولسانه الأطول، وترجمانه الأفضل". وقال أحمد بن يوسف: "القلم لسان البصر يناجيه بما استتر عن الأسماع، إذا نسج حلله، وأودعها حكمه وروى عنه قوله: "عبرات الأقلام في خدود كتبها أحسن من عبرات الغواني في صحون خدودها، وقال عمرو بن مسعدة: "الأقلام مطـايا الفطن". وقال أحمد بن عبدالله: "القلـم راقد في الأفئدة، مستيقظ في الأفواه. وقال ابن ميثم: من جلالة شأن القلم أنه لم يكتب لله تعالى كتاب قط إلا به" وقيل "عقول الرجال تحت أقلامهـا".
أصحاب القلم
هذه الأقوال السابقة رويت عن كتاب صناعتهـم الكتابة وأداتهم القلم، فحـديثهم عنه ومـدحهم له حـديث عن صنـاعـة يفتخـرون بها، ومدح لكل ما تنطوي عليه أو تشير إليه، أو ترتبط به، وتركيزهم على القلم تركيز على الأداة التي تشير إلى مكـانة صنـاعتهم وتحل محلها في الإعزاز، كـما تدل عليهم في الإشارة، من حيث هـم أصحـاب القلم، في مقـابل غيرهـم من الطوائف التي تـدل عليهـا أدوات أخرى. ولا تقتصر دلالة القلم وترابطاته، على كتابة الرسائل الديوانية التي اقتضتهـا مصالح الدولـة، أو فرضتهـا بنيتها المدينيـة المعقدة، بل جاوزت دلالة القلم الرسائل الـديوانية إلى الرسائل الفكريـة، والتأملات الفلسفية، والـترجمة عن الآداب الأجنبية، والبحث في مشكلات المدينة الجديدة التي عاش في مناخها الكتاب، في الفضاء الممتد للدولة التي كـانت ساحـة لصراع الأجناس وحوار الثقافـات وتفاعل الديانات.
ومن الواضح في الأقـوال السـابقـة عن مـديح القلـم، أن القلم أصبح دلالـة على حضـور العقل، والفكر، والروية، والفطنة، وعلامة على الحكمة التي تتكـرر كثيرا في مديح القلم كأنها لازمة من لوازمه، في سيـاق يدل على نوع الثقـافـة التي لا بد أن يتأهل بها الكاتب، ونوع المعارف التي لا بد أن يحسنها، حتى يرقى في مهـنته. وواضح أنها ثقافة ومعارف مدينية، تأخذ من تراث الحكمة أو علم الأوائل ما تواجه به متطلبات عالم جـديد معقـد، ووظائف متعـددة، تتميز عن وظائف الشاعر القديم وتناقضها. وإذا كانت وظائف الكتابة الحديثة، وشعارها القلم، أصبحت مرتبطـة بمكانة اجتماعيـة عـالية، احتل فيها الكـاتب منـزلة الوزيـر للخليفة، أو منزلة كاتم الأسرار وحافظ شئون المملكة، فإن هذه المكـانة أصبحت مقترنة بالسياسة الـلازمة لها والقدرة على تدبير الأمور بما يحقق مصالح الخليفة الذي اقترب منه الكاتب وصار عونا له في تسيير شئون الخلافة المترامية. هذه الحكمة الجديدة بدورها، ثقافة كتابية تنتسب إلى المدنية ولوازمها، وليست شفاهية تنتسب إلى الصحراء وعـلاقاتها، وهي ثقافة تعتمد على البصر لا الأذن، وعلى الصفحة المكتوبة لا الذاكرة الحافظة. وفي هـذا السياق، لا بد أن نقهم إشارة أحمد بن يوسف إلى القلم الذي هو لسان البصر بالمعنى الذي يؤكد الثقافة الكتابية، ونفهم الإشارة إلى القلم بوصفه سفير العـقل و "مطـايا الفطن" على أنها إشارة إلى نـوع المعرفـة التي ينطوي عليهـا الكاتب، ونضع الإشارة إلى ما يستتر به القلـم عن الأسماع، حـيث يكـون أنـف الضمير، أو مستودع الأسرار، في إطار تدبير سياسة الملك، ونقل المسكوت عنـه من الخطاب السيـاسي الذي يدخل في باب أسرار الدولة، أو الخطاب الفكري الذي قد يدخل في باب الثقافـة المقموعة، أعني الثقافة التي كتبها قلم ابن المقفع في "كليلة ودمنة" رمزا وخطها سهل بن هارون في رسائله إيماء وصاغها إخوان الصفا في رسائلهم تمثيلا وكناية.
القلم وفن الاستطراف
ولم يقتصر مديح القلم على الكتـابة النثـرية التي صار علامـة عليها، ورمزا لمكانتهـا الجديدة، في مجتمع الخلافـة المتحـول من الشفاهية إلى الكتابيـة وفي زمن تقسيم المعـارف وإحصاء العلوم، فقـد جـاوز المديح الشعر إلى النثر كما لو كـان "القلم" يتم تسجيل مكانته بالأداة التي لم يقترن بها منـذ البداية، والتي كـان وجوده فيها علامة على تحولها، وعلى صعود الفن المنـاظر لها. وفي هذا السياق أصبح "القلم" دالا رمـزيا في القصائد العبـاسيـة، بعـد أن كان معطـى يثير الاستطـراف في مكونات الصورة الشعرية القديمة ولقد بدأ حضور هذا الاستطراف منذ أن ناوش القلم خيال الشعراء في العصر الجاهلي، بوصفه مدركا غريبا، يمكن أن يمنح التشبيه من الاستطراف ما يميزه على غـيره. وروى الرواة ما توصل إليه عـدي بن الرقاع العاملي في صفة طرف قرن الرشا وهـو ولد الظبي، وتشبيهه بالقلـم، في بيته الذي يقول:
تزجي أغن كأن إبرة روقة
قلم أصاب من الدواة مدادها
وهو البيت الذي فتن الكثيرين بتشبيهه طرف القرن المدمى بالقلم الذي أصاب المداد. ويـروى أن جريرا الشاعر فتن بهذا البيت الذي استمع إلى صاحبه ينشـده في قصيدة، وأنـه حسب الشاعر هلك عندما أنشـد الشطر الأول، ورحمه على صعـوبة التشبيـه، فلما أكمل المشبه بالمشبه به، استحالت الرحمة حسدا.
وسرعان ما فارق القلم منطقـة الاستطراف التي ينتمي إليهـا بيت عدي بن الرقـاع، ودخل في منطقة جديدة، ارتبطت بدلالتـه على فئة متميزة من الناس، ومكانـة اجتماعية عالية، وثقـافة حضرية واعدة. ولا أحسبني أغالي حين أقـول إن الصـورة التي اكتسبها "القلم" في قدر غير يسير من الشعر العباسي كـانت البديل الجديد للصورة القديمة التي اكتسبتهـا "الناقة" أو "الحصـان" في الشعر الجاهلي. لقـد أصبح "القلم" قرين "الكتاب" من حيث هـو صديق ورفيق، وانتهت العلاقـة اليوميـة به إلى حال من التعاطف الـذي يدني بطرفي العـلاقة إلى ضرب خاص من المحبة والرمـزية، هذه العـلاقة الجديدة نستطيع أن نلمحهـا في الأبيات المنسـوبة إلى الحسين بن يحيى الـذي رثى قلما انكسر بقوله:
ما عيب طولا ولم يعب قصرا
عري من دقة ومن عظم
كان إذا ما تضايقت سبل الـ
لفظ كفاني مخارج الكلم
لا حصر القول عند خطبته
وليس في قول بمتهـم
ويروي أبـو بكـر محمـد بن يحيى الصـولي أن عبدالله بن المعتز جاء إلى أبي العباس أحمد بن يحيى في المسجد الجامع ليسلم عليـه، فقام له وأجلسه مكـانه، فداس ابن المعتز قلما فكسره، فلما جلس قال لمن حوله:
لكفى وتر عند رجلي لأنها
أثارت قتيلا ما لأعظمه جبر
فعجب النـاس من سرعة بديهته، وهو عجب يقترن- في الـوقت نفسه- بما ينطـوي عليه البيت من تقدير للقلم الذي هو أداة من الأدوات التي توصل علم أحمد بن يحيى أستاذ ابن المعتز إلى تلامذته ومحبيه.
لقد حدث تحول جـذري في معنى الإبداع الذي انتقل من الشفـاهية إلى الكتابيـة، ومعنى الثقافـة التي انتقل تطورهـا بالكـاتب إلى ذروة التراتب الاجتماعي، ومعنى القلم الذي أصبح قرين تـراتب اجتماعي جديد وثقافة مدينيـة مختلفة وإذا جـاوزنا المبالغة المألـوفة في البكاء بالدمع المشبع بالدم، وهي مبالغة صارت مألوفة في الشعـر العباسي، إلى مـا يجاوزها من المعاني التي ينطوي عليهـا حضور القلم، لاحظنـا دلالة النـاطق البليغ الذي لا ينطق بالفم، ولا يطرأ عليه ما يطرأ على كل ذي فـم من أعـراض النقص البشرى، ولاحظنا الدور الذي يقوم به في الوصل بين الأمـم والأجناس، وبيـن العـرب والعجم، في تبـادل المعـارف وتـداول السياسـات. وتمضي الأبيات لتركـز على هيئة القلم وتجاور ألوانه، وعلاقة القرطاس بالمداد، وتقتنصها في تشبيهات لا تختلف كثيرا عن تشبيهات ابن المعتز الذي أراد أن يصور ماعون بيته. ولكن ماعون البيت في مديح القلم، وهـو مـا يميزه بالقياس إلى العـاتبين فيه، والنـاظـرين إليه من منظـور ثقافـة لا تعرف رمزية حضوره، فهو الأصم الذي ينطق المسكوت عنه، وخطه هو اللسـان الـذي ينقل الظـاهـر والبـاطن، المعلن والمكتوم، واللسـان الذي لا يعرف العـي أو العجز، والذي ينقـل إلى غيره المضمر من كـلام العلماء الفاهمين أسرار الكون والدنيا وليس المعنى الأخـير بعيدا عن قول القائل إن "القلم أحـد اللسانين" أو قـول الآخر "القلم لسان اليد"، ولكن على القيـاس الذي يستبـدل القلم باللسان لما أصبح ينطوي عليـه من ميزات ومكانة. ولم تخل هذه الميزات والمكانة من طرافة التفكه التي انطوت عليها أبيات عيسى بن فرخانشاه عن جارية تكتب خطا حسنا، حين قال:
سريعة جري الخط تنظم لؤلؤا
وينثر درا لفظها المترشف
وزادت لدينا حظوة ثم أقبلت
وفى إصبعها أسمر اللون مرهف
أصم، سميع، ساكن، متحرك
ينال جسيمات المدى وهو أعجف
وهي أبيـات تضم صفـة "الكتـابيـة" في المرأة إلى بقية صفـات الجـمال، فتبرز نموذجا جديـدا للمرأة التي تجمع إلى بهاء الجسد حكمة العقل ورهافة الخط، وذلك في نظم يلمح حركة الخط الذي ينظـم أحرف الكلمات كـما ينظم "الخيط" اللؤلؤ، ويركز الضوء على صورة القلم الأسمر المرهف، الأعجـوبة الجديدة التي تنطوي على مفـارقة الحضـور، فالقلـم ناطق سميع مع أنه أصم، وساكن مع أنه متحرك ويجمع ما بين الشرق والغرب على القرطاس مع أنـه أعجف لا يحتل حيـزا كبيرا من ذلك القرطاس.
الحضور الإبداعي للقلم
هذا القلم الأعجوبة في حضوره الـذي ينطوي على معنـى المفـارقـة، تحول إلى رمز لإمكـان استقـلال الكاتـب في العصر العباسي وإمكـان أن يحيا مما يخطه بقلمه، أو ينسخه به بعيـدا عن سطوة المتسلطين الذين يفرضون على الكاتب أن يقول ما يرضيهـم لا ما يرضيه. هكـذا قال أحـد الكتاب (الـوراقين) يصف قلمه ويمدحه بقوله:
يا مجيري من سطوة الأمراء
وعميدي في نوبة اللأواء
والذي صان حر ديباجة الوجه
عن الأسخياء والبخلاء
والذي لا أزال أنعت في الشعر
وأطريه غاية الإطـراء
وسفيري بما أريد من الأمر
إلى إخوتي من الأدبـاء
والذي لا يزال يخبر في المهـ
رق عن سـالف الأنباء
وإذا ما ابتعثته استن كالثا
قب يفري دجنة الظلماء
وتلك أبيـات لافتة في بـلاغـة المقموعين الذين أرادوا أن يؤكـدوا حضورهم الإبداعى بعيـدا عن سطوة الأمراء بواسطـة القلم الذي يغنيهم بفعلـه، حتى على مستوى النسخ من اللأواء أو شظف العيش، فالقلم سلاح يحمي صـاحبه من الحاجة وهو إلى جانب ذلك سفير يصل بين المرء وإخوانه الأدباء وترجمان يترجم عن سالف الأنباء وشعلـة استنارة تفري أو تقضى على دجنة الظلماء وعلى ما يلازم معناها من جهـالة. والمديح جدير بهذا القلم الذي صار رمزا للحضور، وعلامة على معنى الوجود الذي هو بشارة المعرفة الإنسانية الواعدة تلك المعرفة التي أصبحت متـاحـة لكل من يستطيع حمل القلم. وليس ببعيد عن هذه الدلالات ما قصد إليه أبو أسامة الكاتب، حين امتدح القلم بقوله:
وأعجف مشتق الشباة مقلم
موشى القرى طاوي الحشا أسود الفم
تبين خفي السر آثاره لنا
ويعرب من غير الضمير المكتم
يؤدي صحيح القول عنه مخاطبا
به العين دون السمع لا بالتكلم
إذا استغزرته الكف فاض سجاله
من الفكر فيض الرايح المتغيم
وهي أبيـات تمضي بنـا في حقل من الدلالات المقاربة التي تؤكد معنى المفـارقة ومن ثم تنبني علاقاتها المجـازية على المطابقـة التي تضع النقيضين في علاقة تجاور على مستوى الجملة، لكن بؤرة الحقل الدلالي تصل بين خطـاب العين دون السمع وسجـال الفكـر الذي يفيض فيض السحاب الغائم، أعني الوصل الذي يصل ثقـافة الكتـابة بامتلاك معرفة الكـون التي أصبح "القلم" مفتـاحها السحري وتلك دلالة ليست بعيـدة عن البيتين اللـذين وصف بهما ابن المعتز القلم قائلا:
عليم بأعقاب الأمور كأنه
لمختلفات الظن يسمع أو يرى
إذا أخذ القرطاس خلت يمينه
يفتح نورا أو ينظم جوهرا