متى يستيقظ الحافز الجنسي داخل بنية الطفل الصغيرة؟ وهل يحب الطفل أمه ويكره أباه؟ وما الذي كان يعنيه عالم النفس "فرويد" بالضبط وهو يتحدث عن "عقدة أوديب"؟
تـروي مسرحية "أوديب ملكـا" للكـاتـب اليوناني "سوفـوكليس" (496، قبل الميـلاد)، كيف اكتشـف أوديب السر الخفي لآثامه غير المقصودة، فالرجل الذي قتله في لحظة غضب على الطريق العامة بين (كورنيث) و (طيبة) لم يكن سـوى والـده "لويس"... والمرأة التي تزوجها عند اعتلائه عرش (طيبة) والتي انجبت له ولدين وابنتين، لم تكن سوى أمه "جـاكـوستا" وعندما ينكشف السر، تنتحر "جاكوستا" ويفقأ "أوديب" عينيه عقوبة لنفه ويهيم على وجهه تقـوده إحـدى بناته. تلك هي الأسطورة.
إن تركيز فرويد على عقدة أوديب، هو بيان للدور المهم الذي تلعبه هذه العقدة في نمو شخصية الطفل وتعيين الأسلـوب الـذي سينتهجه مستقبلا في علاقاته مع الآخـرين، وخاصـة مع أفراد الجنس الآخر.
إن لفظ "عقدة" ترجمة موفقة للغاية لأنها تتضمن معنى التركيب بالإضافة إلى معنى الشد والصراع. فيمكن القول إن "العقـدة" هي مجموعة من الأفكار والتصـورات اللاشعورية والمشحـونـة بشحنة وجـدانية قوية، والمتعارضة في مضمونها بحيث تشمل في آن واحد الحب والكـراهية نحـو موضوع واحد.
وقد يكون من الأفضل القول بأن العقـدة هي مجموعة الاتجاهات الوجدانية المتعارضة، وهي لا شعوريـة، أي أنها نبتت قبل مستوى الشعور. وتتكون هذه الاتجاهات عادة أثناء الطفولة نتيجة لتبلور العلاقات القائمة بين الطفل وأفراد أسرته وبيئته بحيث يصبح شديـد الحسـاسية لنوع الموقف الذي نشأ فيه. فمن شأن العقدة إذن أن تـدفع الشخص إلى أن يكـرر، في المواقف الشبيهـة بـالموقـف الأصلي الـذي أدى إلى تكوين العقدة وتثبيتهـا، السلوك نفسه الذي كـان يسلكـه أثناء الطفولة حيث يلعب الاختلاف بين عقليـة الطفل والـراشد الدور الرئيسي لأن من الخطأ الشائع الذي يقع فيه الكبار، عندما يصدرون أحكامهم على سلوك الأطفال، اعتبار الطفل صورة مصغرة للرجال الراشدين دون إدراك الفـوارق الكيفية بينهم. فـالاختلاف بين الطفل والراشد ليس اختلافا كميا بـالزيـادة أو النقصان بل هـو اختلاف كيفي. فالطفل لا يفكر تفكير الكبار مستخـدما المعاني المجردة، مراعيا مبدأ عدم التناقض ومبدأ العلنية المنطقية العقلية، وإن كـان كثيرا ما يرتد الكبار بتأثير الانفعالات القوية، إلى الأطوار الأولية لتفكير الطفل اللامنطقي!.
إن الطفل على الـرغم من استخـدامـه الكلمات ذاتها التي يستخدمهـا الكبار، والتي تعلمها منهم، لا يحمل هـذه الكلمات نفس المعنى بين الأشيـاء التي تفيده، وبين المواقف التي تبعث في نفسه الرضا والطمأنينة وتلك التي تثير الخوف والقلق.
تصورات وخيالات
فعالم الطفل، عالم التصورات والخيـالات والانفعـالات والمتناقضـات المشحونة بطاقة انفعالية قوية، عالم تزدحم فيه الأشباح والأوهام وتختلط فيه حدود الواقـع بحدود الخيال، وصـور التمني بصـور التحقق بحيث يمكن القول إن قيام الضدين معا في وقت واحد هو المبدأ المسيطر على وجـدان الطفل وما يتخلل هذا الوجـدان من تصورات عـابرة متغيرة. وقد وصف تفكير الطفل بأنه تفكير سحـري يتعارض مع مبـادئ العقل والمنطق، وبأنـه شبيه بتفكير بعض القبائل البدائية تجاه طقوسها الدينية.
وعلى ذلك يكون أقرب المناهج صدقا للكشف عن سمات عقلية الطفل هو الحدس لا الاستدلال المنطقي الصارم.
والمراحل التي تمر بها شخصية الطفل، في ضـوء مـا قلنـاه عن عقليته، ترتبط بالدور المهم الذي يلعبه تطور الغريزة الجنسية عند الطفل حتى الوصول إلي المرحلة التي تظهر فيهـا عقدة أوديب. فالكبار عندما يتحدثون عن الجنس يتجـه تفكيرهم إلى عملية التناسل، ولهذا يرفضون التسليم بأي نشاط جنسي لـدى الطفل. والـواقع أن التنـاسل جـزء من الجنس، لذا يجب ألا نفهم من هذا أن اللذة التي يشعر بها الطفل أثناء الرضاعة أو على أثر تنبيـه بعض منـاطق الجسم هي لـذة غير جنسية. فمظاهر الجنس توجد في لا شعـور الطفل والعوامل اللاشعـورية أكـثـر وأعمق من العوامل الشعورية فالطفل إذن منذ الولادة ميال للمظاهر الجنسية وذلك قبل أن تصبح هذه المظاهر شعورية. وتتركـز لذة الطفل في الفم في مراحلـه الأولى وذلك في سنتيه الأولى والثانية ثم تأتي المرحلة الشرجية في السنتين الثانية والثالثة حيث يحدث تركيز للطاقة الجنسية في الطرف الآخر للجهاز العصبي الهضمي وفي المرحلة الثالثة التي تمتد بين سن الثالثة والخامسة تتركز اللبيدو في المنطقة التناسلية حيث يبدأ الطفل بها استثارة اللذة، وبعد أن كـانت اللبيدو مركزة في جسم الطفل فإنها ستحاول الآن أن تبحث عن موضوع خارج الجسم تمهيـدا لتحقيق النمـو الجنسي السـوي لـدى الفـرد وليس من الغريب أن تتجـه اللبيدو نحـو شخص يعيش في دائرة الأسرة وهذا الشخص هـو بطبيعـة الحال الأم بالنسبة للابن، والأب بالنسبـة للبنت. تلك هي الخطـوة الأولى لتكـوين عقدة أوديب التي تعتبر بمثابة تحرير الطفل جزئيا من سجن جسمه وإعـداده للحياة الاجتماعية، حيث الأخذ والعطاء معا، هذه الحياة التي لا يمكن أن تقوم إلا بفضل حيلة جنسية سليمة تربط بين الجنسين بـروابط الحب بجميع مقـومـاتـه الجسميـة والعاطفية.
اكتمال عقدة أوديب
ثم تأتي خطوات أخرى تكتمل فيها عقـدة أوديب، حيث يتعلق الابن بأمه تعلقا شبقيا لا شعوريا يستلزم بالضرورة العداوة والغيرة إزاء الأب، والعكـس صحيـح فيما يختص بالبنت، ولكي نفهم موقف الطفل على حقيقته يجب أن تترجم هذه المعـاني "العاطفـة والحب والكـراهية والبغض والغيرة وتمني موت الأب أو الأم.. وغير ذلك" كما يدركها الراشد إلى لغة اللاشعور التي سبق أن أوضحنا أساليبها من تصورات غامضة وتخيلات.
إن مـا يميـز عقليـة الطفل الصغير قيام المتعارضين معا. فيقوم الصراع في لاشعـور الطفل بين الحب والبغض وينشأ عن هـذا الصرع ما يسمى "الشعور بالإثم" أو بعبارة أدق "عقدة الألم" والإدانة الذاتيـة. وتولد هذه العقدة لدى الطفل القلق والخوف من انتقـام الأب الذي سوف يعاقب الطفل بحرمانه من ذكورته وهذا ما يعرف "بعقدة الخصاء"، وبهذه الخطوة الأخيرة تكـون عقـدة أوديب قد اكتملت. كـما أنها قد تكـون مهيأة للتلاشي، فبفضل عملية تقمص الطفل لشخصية أبيه، وحرصه على المحافظة على حب الأب له، وبفضل الخوف من الخصـاء، يتنازل الابن عن امتلاك الأم امتلاكا كليا، ويكون الطفل بهذا الانتصار على نزعاته الاستيلائية المطلقة قد اجتـاز المرحلة المتأزمة من مراحل نموه النفسي والاجتماعي، وخطا خطوة جيدة نحو النضج العاطفي وتكـوين ضميره الخلقي وتكـامل شخصيتـه. تلك هي الملامح الرئيسية لعقـدة أوديب وهي في الواقع تصوير لمرحلة مهمة من مراحل النمو العاطفي والتنشئة الاجتماعيـة للطفل في ضوء العلاقات التي لابد أن تقوم داخل أسرة مكونة من أب وأم وطفل. أما إذا تغير شكـل الأسرة كأن يحرم الطفل من رعاية الأم أو ممن يقوم مقامهـا، بشرط أن تلازم الطفل حتى سن السادسة، أو أن يكـون الأب غير موجود دون أن يكون في الأسرة شخص كبير يقـوم مقـام الأب لكـي يتقمـص الابـن شخصيتـه ومـا يتصف بـه من سمات الرجولة والقوة، فلا شك أن التطور الذي وصفناه داخل الموقـف الأوديبي لا يمكـن أن يحدث وبالتـالي تتعثر عمليـة النضج العـاطفي وتصـاب شخصية الطفل بالتصدع وعدم التكامل.
التوتر وتأزم عقدة أوديب
وتزداد عقـدة أوديب تأزما دون أن تحل إذا كان جو الأسرة مشحونا بالبغضاء بين الأب والأم، فإذا كان الأب قاسيا في معاملته للأم والابن معا فقد يزداد تعلق الابن بأمه كـما قد تحتمي الأم بابنها مما يزيد قوة الـروابط الشبقية بينهما وعنـدئذ تتحجـر عقـدة أوديب ويصبح الطفل خاضعا كليا لصورة الأم غير قـادر على تنمية صفـات جنسه معانيا شتى أنواع الخجل والخوف والشك والتمرد فيتقمص شخصية أمه، أي صفات الأنوثة مما يعرضه في المستقبل لبعض الانحـرافات الجنسيـة كـالتعلق الشبقي بأشخاص من نفس جنسه، وتخوفه من الجنس الآخر وإحجـامـه عن الزواج. وفي حالة إقدامه على الزواج يظل يبحث في زوجته عن صـورة أمـه، لأن نمـوه الجنسي والعاطفي لم يصل إلى النضج بل ظل متوقفا عند مرحلة الطفولة.
إن نظرية فرويد لا تذهب إلى القول بحتمية تطور الغريزة بصورة متحجرة جامدة، بل تؤكـد تأثير العوامل الحضارية والتربوية كـما هي داخل الأسرة وتبعـا لنـوع العلاقات القائمة بين أفرادها، فعملية التنشئة الاجتماعية للطفل هي المسئولة في نهاية الأمر عن مدى تكـامل الشخصيـة أو تفككها، عن قـدرة الطفل على التكيف مع البيئة ومهاجمة مشقات الحياة بطريقة إيجابية مجدية وعلى تحقيق أكبر قدر من إمكاناته ومن مثله العليا.