من خلال أشعار الماغوط ينطلق هذا المقال ليثير قضية أدبية مهمة هي قصيدة النثر. تلك القصيدة التي وأن كانت تعطل أحد العوامل الأساسية في التعبير الشعري وهو الأوزان إلا أنها لا تهمل بقية الإمكانات التعبيرية التخيلية والرمزية الأخرى.
ما يبقي قصيدة النثر في نطاق الشعر هو كفاءتها في تشغيل بقية درجات السلم تعويضا لتعطيل الدرجة الإيقاعية، مما يجعلها تتميز بنسبة عالية من الانحراف النحوي والكثافة والتشتت الناجم أساسا عن انفراط العقد الموسيقي، ويجنح بها نحو منطقة التحرر الدلالي من أنماط التعبير المألوفة.
ويبدو أن قصيدة النثر لم تصبح حتى الآن في الشعر العربي المعاصر نوعا أدبيا مستقلا، قد استقرت أعرافه وتأصلت تقاليده، بالرغم من سوابقه العريقة- غير المقصودة- في الشعرية الحديثة خاصة عند جبران والرافعي، ومن الحماس المؤسسي المتطرف الذي لقيته تلك القصيدة عند جماعة شعر في بيروت، وعلى الرغم من اندفاع شباب المبدعين اليوم نحوهـا وكأنها طوق النجاة لتيارات التجريب الطليعى ونزوعها الثوري الهدام فيما يشبه جنوح الحداثة. لكنني أحسب أنه يتحتم على البحث النقدي أن يفرد لها مكانا متميزا باعتباره ا إحدى التنويعات البارزة في الحداثة الشعرية، في محاولة للتعرف على استراتيجيتها في جانبها الإيجابي بعد أن شاع عنها جانب النفي والتحطيم فحسب، إذ إنها وفي تحاول إلغاء الشكل القديم للقصيدة العروضية لا بد أن تقترح لها شكلا جديدا، فما هي ملامح هذا الشكل وخواصه الجمالية؟.
وإذا كان بوسعنا أن نتأمل الجذر اللغوي لكلمة "قصيدة" التي تثير زوبعة المعارضة لاستخدامها مضافة لكلمة "نثر"، فسوف نجد هذا الجذر يشير إلى فكرتين متلازمتين: إحداهما هي القصد والتعمد، أي أن القصيدة هي "الكلام المقصود في ذاته"، هي اللغة عندما تصبح هدفا فنيا عددا، وليست مجرد وسيله للتواصل تحترق بانتهائه. ومن هنا نستطيع أن نفهم لماذا تختلف قصيدة النثر عن بقية أشكال الشعر المنثور أو النثر الشعري، وذلك لعدم مركزية القصد الشعري فيهما. أما المعنى الثاني فهو "الاقتصاد" أي أن اللغة التي تنتظم في قصيدة لا بد لها أن تتسم بالقصد والتركيز والتكييف، بحيث يتم تشغيل عناصرها غيابا وحضورا بفعالية كبيرة ذا الاقتصاد جوهري في قصيدة النثر لأنه مظهر الشعرية فيها، فهي عندها تحذف حرف العطف أو الوصل مثلا تحقق اقتصادها الخاص الذي لا بد له أن يختلف عن النثر كي يتقصد، وكانا "إدجار آلان بو" يرى الطول "هرطقة" في الشعر، ويحسب أن شرط القصيدة هو تحقيق الاقتصاد، قائلا: "لا وجود لقصيدة طويلة، وما نعنيه بقصيدة طويلة هو تناقض تام في المصطلحات،. وربما كان هذا التناقض من منظور الشعرية الحديثة أوضح من تناقض مصطلح "قصيدة نثر"، لأن جذر القصيد ـ كما رأينا ـ لا يتضمن الأوزان العروضية، فالنثر بوسعه في بعض حالاته القصوى أن يكون مقصودا لذاته جماليا واقتصاديا، فإذا تعلق به حد الشعر تخلق منه هذا الأسلوب الجديد. وقبل أن نعمد إلى تحليل نموذج ناجز لقصيدة النثر في الشعرية العربية المعاصرة نود أن نستوضح إشكالية إيقاعها وبنيتها على وجه الخصوص، إذ إن هناك بعض النقاد العرب (مثل يوسف حامد جابر في كتابه: قضايا الإبداع في قصيدة النثر) يبذلون جهدا تحليليا فائقا للبرهنة على امتلاء قصيدة النثر بالإيقاع الداخلي، على الرغم من إلغائها للإيقاع العروضي، ويغفل هؤلاء حقيقة لافتة وهي أن تلك القصيدة لا توجد بفضل الإيقاع الداخلي ولا تتميز نتيجة له، فالقصيدة العروضية بدورها مفعمة به، والنثر العادي يتضمنه أيضا، ومن ثم فإن هذا الإيقاع الداخلي لا يمثل في أقصى حالاته وفي عليته سبب وجود قصيدة النثر حتى يكون مجال التعويض فيها، ومناط التحليل الشعري لها، إذ إنه كامن في طبيعة اللغة ذاتها وماثل في أدواتها التعبيرية. أما فيما يتعلق بالبنية المميزة لقصيدة النثر فلا بد أن نلاحظ اعتمادها على الجمع بين الإجراءات المتناقضة، أي أنها تعتمد أساسا على فكرة النضال، وتقول على قانون التعويض الشعري، إذ إنها تتألف من ثلاثة عوامل متزامنة تنصب كلها في بؤرة واحدة لإحداث فعاليتها الجمالية، وهي بالترتيب:
أ - تعطيل الأوزان العروضية المتداولة.
ب - تفعيل أقصى الطاقات الشعرية الممكنة.
ج - إبراز الاختلاف الدلالي الحاد.
ولن نستطيع رؤية كيفية تمازج هذه العوامل التي تبدو متناقضة في الظاهر ما لم نأخذ في اعتبارنا كيفية تركيب بنية الشعر من شبكة متداخلة من الدرجات المتخالفة في الاتجاه والمتوافقة في الأثر، وهي درجات الإيقاع والنحوية والكثافة والتشتت. والمضغ الآن. هو ملاحظة طريقة بروز البنية الشعرية في "قصيدة النثر" مع وصول درجة الإيقاع إلى أدنى مستوياتها بفضل تضافر بقية العوامل لتعويض ذلك.
وقد كان النقد السابق على البنيوية وما بعدها يسمي هذه الخاصية اللازمة لقصيدة النثر- ولكل قصيدة- "الوحدة العضوية، ويشرع في كشف كيفية تحققها في هذه النماذج على وجه الخصوص، فتقول أهم باحثة ومنظرة لقصيدة النثر "سوزان بيرنار" في كتابها "قصيدة النثر من بودلير إلى عصرنا"، تقول إن قصيدة النثر التي تستحق أن يطلق عليها هذا المصطلح لا بد أن تتوافر لها الشروط الجمالية التالية:
أولا: ينبغي أن تكون وحدة عضوية مستقلة، بحيث تقدم عالما مكتملا يتمثل في تنسيق جمالي متميز، يختلف عن الأشكال النثرية الأخرى من قصة قصيرة أو مقالة أو رواية مهما كانت شاعريتها؟ وتفترض إرادة واعية للانتظام في قصيدة
ثانيا: يتعين أن تكون وظيفتها الأساسية شعرية، مما يتطلب أن تكون بنيتها اعتباطية أو مجانية، بمعنى أنها تعتمد على فكرة اللازمنية، بحيث لا تتطور نحو هدف، ولا تعرض سلسلة أفعال أو أفكار منتظمة، مهما استخدمت من وسائل سردية أو وصفية.
ثالثا: على قصيدة النثر أن تتميز بالتركيز والتكثيف، وتتلافى الاستطراد والتفصيلات التفسيرية، لأن قوتها الشعرية لا تتأتى من رقى موزونة ولكن من تركيب مضيء مثل قطعة البللور، فالاقتصاد أهم خواصها ومنبع شعريتها.
وقد كانت هذه المبادئ ذاتها هي التي اعتمد عليها دعاة قصيدة النثر العربية خاصة أدونيس وأنسي الحاج، وحاول المبدعون الالتزام بها لكن الأفكار النظرية إن لم تعثر على الفنان الذي يحيلها - دون أن يعيها أحيانا ـ إلى تجربة جمالية ظلت طنينا في الفضاء لا يتخلق في أثر فني ملموس.
الرهان الشعري للنثر:
لعل الشاعر محمد الماغوط أن يكون مثلا لهذا الفنان الذي نعنيه، وقد تناولت أعماله الكاملة، وأخذت أتصفح دواوينه: "حزن في ضوء القمر"، "غرفة بملايين الجدران"، "الفرح ليس مهنتي" حتى أنتقي منها نماذج تحقق جمالية قصيدة النثر وتنجح في رهانها الشعري. لكن الجذاذات التي أضعها علامة على النصوص أخذت تنتقل من صفحة إلى أخرى كلما مضيت في القراءة وتنامى إغراء الشعر واحتدم رهانه، حتى تمثل لي عالمه الخاص المكتمل كما يندر أن يتمثل في الشعر العربي، على الرغم من أنه يكسر رقبته بحق عندما ينعتق من الأوزان ويهجر الموسيقى الرنانة لينفث سحر الكلمات وهي ترقص على نايه الشخصي الحميم.
لقد استطاع الماغوط أن يروض الجواد العربي ويعلمه حركة النسور وهي تنقض على جيف الحياة ثم تحلق في الفضاء، وأهم من ذلك أنه قد استطاع أن يتحرر من إيقاع التاريخ القديم ليعانق حلم الحرية في المستقبل.
ومهما كنت مفتونا بالتراث الشعري وأسيرا لأساطيره الإيقاعية فليس بوسعك أن تندم على هجرانها في قصائده، إذ لا ينتابك الشعور بافتقادها وأنت ترى الشعر ينهمر بين يديك دونها، وهذا برهان الإبداع الذي يفوق حجج النقد
وإذا كانت العشوائية مطلبا أثيرا في النماذج التحليلية فإننا سنعمد إليها لاختيار طرف يسير من هذا الشعر، ولنقرأ أولى قصائد مجموعته الثالثة:
الآن والمطر الحزين يغمر
وجهي الحزين
أحلم بسلم من الغبار
من الظهور المحدودبة
والراحات المضغوطة على
الركب
لأصعد إلى السماء وأعرف
أين تذهب آهاتنا وصلواتنا؟
آه يا حبيبتي
لا بد أن تكون كل الآهات
والصلوات
كل التنهدات والاستغاثات
المنطلقة
من ملايين الأفواه والصدور
وعبر آلاف السنين والقرون
متجمعة في مكان ما من السماء.. كالغيوم
ولربما كانت كلماتي الآن قرب كلمات المسيح
فلننتظر بكاء السماء يا حبيبتي.
ما الذي يجعل هذا الكلام المنثور قصيدة؟ لماذا لا يعتبر قطعة من النثر تكتسب شيئا من الشعر المبثوث عادة في تلافيف الكتابة الأدبية؟.
السبب الرئيسي في تقديري هو "قابلية التبنين" فيما كان يسميه النقد الرومانسي بروز الوحدة الحضرية، ويتمثل ذلك في مجموعة من العناصر الهيكلية التي تؤلف جهاز النص العصبي وتضمن شعريته، ولنحاول الإمساك بأطراف هذا الجهاز ونحن نرقب كيفية تشكله واكتماله:
أ - إنه ينطلق أولا من لحظة زمنية آنية "الآن.. والمطر الحزين" فيرسم صورا عديدة تشير إلى لحظات أخرى موغلة في القدم عبر ما يختزن لآلاف السنين من خبرات ومشاعر، لكنه لا يمضي على نسق منتظم، بل يتذبذب ويعود لنقطة البدء "ولربما كانت كلماتي الآنف ه، وهذا هو المقصود باعتباطية القصيدة، أن يكون للزمن فيها حركته الخاصة، فلا يمضي طبقا لمنطق سردي متقدم ومتواصل، بل يصنع تشكيلا تغلب عليه الدائرية. وقد كتب ج. ريفير يقول: "في قصيدة جميلة لا يوجد تقدم أبدا، فالنهاية والبداية تقومان في مستوى واحد، حيث نتصل جمهما مباشرة، وكل شيء على مستوى متقارب. فالأبيات الشعرية تشكل دائرة، إذ يحاور بعضها بعضا فتسجننا في محيطها، وهي تعمل على أن تبقينا في مكاننا. إنها تحاول أن تنفث في روعنا نسيان الزمن وأبعاده ع فيصبح الانفعال الشعري نوعا من الدوار، يتكون فينا عن طريقه مستنقع أزلي وسط هروب الأشياء.. " فإذا أضفنا إلى ذلك ما يقوله مبدع آخر عن طبيعة الفرق بين الفكر الخلاق في الشعر ونظيره في النثر أدركنا أننا بصدد ترجمة مكانية لنفس المعنى تقريبا.
ب- أما العصب الثاني لهذا النص فيتمثل في انتظام النسق التصويري المتجاور، فحركة القصيدة الدلالية تتأرجح بين الأعلى والأسفل، فصوت القصيدة يصعد "سلم الغبار" على "الظهور المحدودبة" ثم يمسك "بالراحات المضغوطة على الركب" في وضع الصلوات، كي يصعد منها للسماء مع زفرات الآيات والتنهيدات. ويمضي ليرقبها وهو على الأرض حيث تتجمع في نقطة ما من السماء لتصبح غيما، وتتجاور ما تجمع منذ آلاف السنين، من فم المسيح مثلا قبل أمع تسقط مطرا باكيا. هذا النموذج في مزج حركة الزمان والمكان في نظامها المضطرب ! و الذي يجعل التصوير متسقا ومجانيا في الآن ذاته، أي مفهوما وشعريا.
جـ. يتمثل العصب الثالث في النبرة الأليفة للبوح الودود "آه يا حبيبي" حيث يمتزج فيها الحزن بالحب، والماء بالأرض، كي تنبت زهرة الشعر العضوي. فصوت الشعر لا يصرخ في البرية بل ينادي الحبيبة كي تفقد "الأنا" حدتها المسنونة الطاغية وتتوجه بتحنان نحو الآخرين، إلى الملايين التي تتصاعد آهاتها الكونية لتصنع هذا الغيم الميتافيزيقي الكئيب وهو يمتزج بفرح الحب، وكلما تكررت كلمة الآن لتربط الخيط الأول في هيكل القصيدة تكررت معهـا كلمة حبيبتي لتشد هذا العصب بدوره وتضبط حركة الفواعل في النص مما يمسك بأطراف الخطاب الشعري
د - أما العصب الرابع هيكل النص فهو الذي يضمن كثافته الشعرية بصفة خاصة، ويتمثل في البياض الحيوي الذي يعقب بعض الكلمات الموزعة في أنحاء النص
فإذا كان الشعر يقول بالصوت، فإن هذا البياض المتوزع على النص يدلنا على أنه يقول أيضا بالصمت 4 وربما كان قولي الصمت أشد مضاعفة وكثافة لأنه في تحليقه فيما وراء اللغة يطمح على أن يلتقط حركة الروح. وعندئذ نرى أن توزيع الكلمات على السطور في القصيدة ليمس مجرد أداة للتوافق الإيقاعي في الأوزان بقدر مالي طريقة في تشعير اللغة، إذ تكف عن نثريتها وهي تسعى بلى اقتناص فائض دلالتها، كما تصبح العلامة المحسوسة الكبرى على انتظام التوازيات في النص من الوجهة الشكلية بطريقة تبز فاعلية ما أطلقنا عليه الهيكل العصبي فتؤلف جهازه الحسي والشعوري في الآن ذاته.
حلم الصحراء المختزل
مرت قصيدة النثر في الشعر الغربي خلال القرنين الأخيرين بكل ما اعتمل في كيانه من تيارات مذهبية وفنية، ابتداء من الرومانتيكية إلى الرمزية وال!ناسية والسريالية، فجريت مظان ر الحداثة وما بعدها. ولكنها في شعرنا العري لم تتجاوز بعد عدة عقود وقد تأسست في التجربة الشامية أولا بفعل الترجمة عن الفرنسية، إذ أنها تتماهى مع ما يبقى في النص من شعر بعد انكسار الوعاء الإيقاعي. والطريف أن هذا الوضع الخاص لقصيدة النثر من تعالق بالترجمة ليس مقصورا على الشعر العرب، بلا يرصده الباحثون أيضا في الآداب الأخرى. ومن هنا يبدو أن ميلاد قصيدة النثر يدين في كثير من اللغات إلى "بداهة الترجمة الشعرية" ضمن منظومة العوامل الفعالة في تشكيله، فنقاد الشعر الفرنسي مثلا يرون أن الترجمة في القرن التاسع عشر خصوصا قد أوضحت للشعراء أن القافية والوزن ليسا كل شيء في القصيدة، وأن اختيار الموضوع والغنائية والصور،-بناء القصيدة، كما كان يسميه "بو" "وحدة الانطباع" هي عناصر قادرة على إثارة الصدمة الشعرية الخفية. ومع أنه من المؤكد أنه لا توجد حاجة لإصرار على أن الشكل في القصيدة جوهري وليس ثانويا، لكن ليس بوسعنا أن نرد كل شيء إلى الخواص الشكلية للكلمات والأصوات، إذ يمكن للقصيدة أن تكون منثورة دون أن تهلك. بل إن الترجمات كثيرا ما تنطوي على شاعرية حقيقية تفوق كثيرا ما تحويه قصائد ناظمي الشعر، مما يجعلهـا تمارس تأثيرا كبيرا على الحساسية الشعرية وتسهم في تكوين (مفهـوم الشعر الصحيح " على حد تعبير "فان تيجم".
وإذا تذكرنا أن كثيرا من نماذج الشعر الشرقي من عربي وفارسي كانت وراء بزوغ قصيدة النثر في أوربا، أدركنا أن دورة الحضارة وقوانين التخصيب الإبداعي لا تجعلنا في موقف المتلقي دائما، بل كثيرا ما ترتفع أيدينا بالعطاء. ومن ثم فليس هناك مهر لأية حساسية في عمليات التثاقف الفكري والفني. ومن اللافت أقأ تماثل البنية" بين الترجمة وقصيدة النثر لا يعني أن هذه الأخيرة تستمد مادتها الشعرية من التربة، فليست هناك علاقة فوق التوازي الشكلي من جانب، والتناظر الدلالي من جانب آخر، إذ إن الشاعر كما أسلفنا لا يلجأ لقصيدة النثر سوى للإعلان عن اختلافه مع التيار الإبداعي السائد واغترابه عنه. فيلتقي حينئذ مع الشعراء المنقولين إلى لغته دون أن يكون قد استعار أقنعتهم أو بزاتهم.
وإذا كانت عملية التواصل الشعري لا يمكن أن تسقط المرسل من حسابها فإن هذه النصوص ذاتها سرعان ما تكتسب دلالات أخرى بهذه النسبة الجديدة، حيث تختزن العلامة الشعرية ما تشير إليه بقدر ما تبعد عن نظائرها من العلامات، وتندرج في سياق متفرد يربطها بأفق آخر. ولنقرأ له النص الثاني من المجموعة ذاتها "الفرح ليس مهنتي" وهو بعنوان "حلم"، حيث يقول في المقطع الأول:
منذ أن خلق الرد والأبواب المغلقة
وأنا أمد يدي كالأعمى بحثا عن جدار
أو امرأة تؤويني
ولكن ماذا تفعل الغزالة العمياء بالنبع الجاري
والبلبل الأسير بالأفق الذي يلامس قضبانه؟
باستثناء غيبة الوزن نلمس في هذا المقطع درجة عالية من إحكام التعبير، حيث لا يمكن اختزال أي عنصر فيه خاصة وهو يجسد صورة التطلع للحرية التي لا يغني عنها أي بديل آخر. ولا يخترق هذا الإحكام سوى مفارقة "البحث عن جدار، التي تنبئ في الواقع عن البحث عن"كوة في جدار، لكنه بحث يمضي مع حركة يد الأعمى وهو يتحسس ما حوله، كما تخفف الأسئلة الأخيرة من وطأة المعنى التقريري وتصبغه بلمسة مجانية عندما تترك لصورة الغزالة العمياء والبلبل الأسير أن تتركب في طبقة دلالية رمزية توازي حركة صوت القصيدة وتعزز بحثه عن الحرية، فلا يعود الأمر مجرد حكاية منطقية متسلسلة، بل تلعب الدلالة في مستويات عديدة، حيث تقوم التوازيات بين: الشاعر الأعمى/ الغزالة العمياء/ البلبل الأسير بدور مهم في إبراز التوازي بين مقابلاتها المفتقدة وهي: الحرية- الحب/ النبع الجاري لم الأفق. مما يسفر عن خلق مهاد ناعم لبقية مقاطع القصيدة.
في عصر الذرة والعقول الإلكترونية
في زمن العطر والغناء والأضواء الخافتة
كنت أحدثها عن حداء البدو
والسفر إلى الصحراء
على ظهور الجمال
ونهداها يصغيان إلي
كما يصغي الأطفال الصغار
لحديث ممتع حول الموقد
تتسع المفارقة في هـذا المقطع لتصبح عور النسيج الشعري، حيث يقوم التقابل بين العصور الحديثة؟ بمراحلها المختلفة من رومانسية وحداثية من ناحية؟ والرغبة في حداء البدو والسفر للصحراء على ظهور الجمال من ناحية ثانية بفتح حافة النص الشعري لتحقيق الطباق كما تهز علاقة فاعل النصي بالتي يفضي إليها ويستثير أنوثتها بخلق طباق آخر تكتمل فيه دورة الفواعل، وتلتبس بنهاية أيروسية ممتعة عندما يتحول النهدان إلى طفلين يجيدان الإصغاء للحديث حول الموقد.
لكن تظل هناك خاصية ماثلة بوضوح في هذه القصيدة وفي بقية شعر الماغوط وفي أنه لا ينفصم ـ مهما كانت غربته الظاهرة ـ عن نبض الإنسان العربي وحساسيته المحدثة بل يطرح ثورته من القلب، ويحتضن تمرده في حنايا الروح، ويستوعب في سطوره المشعثة التجارب الشعرية السابقة عليه وهو يتجاوزها ويختلف عنها، مما يجعل علله مفعما بلون من الدرامية الحسية تسبح عله الوجه الأخر- غير المنظور لنا هن قمر الشعر العري الحديث.