من الدراسات التي تتسم بالجدية والطرافة في الحضارة الإسلامية، دراسة تاريخ الملابس التراثية، وهي ذات أهمية لا يستهان بها كمظهر من مظاهر الثقافة المادية كالعمارة والفنون، بجانب أنها تقدم لنا مواد خصبة لدراسة الحضارة الإسلامية في جوانبها الاقتصادية والفنية، وفن الملابس بالضرورة فن جمعي؛ ولذلك يتعرض للتغير، كما أن الملابس تعبر عن بعض المزايا كاليسر والثراء والذوق، وليس هناك فن ينم عن نفس الإنسان أكثر من فن الملابس.
وتأتي دراسة الباحثة يديدا ستيلمان، وهي أستاذة تاريخ الشرق الأدنى بجامعة أوكلاهوما، ومن الخبراء القلائل المتخصصين في تاريخ الملابس العربية القديمة والحديثة، لتعرض لنا خلال حقب تاريخية مختلفة التطور والتحول في أنماط وطرز الملابس العربية، ودراستها هذه ثمرة تجربة وخبرة طويلة تزيد على ثلاثين عاما في هذا المجال.
توضح لنا المؤلفة في مقدمة دراستها الصعوبات التي تواجه الباحث في تاريخ الملابس العربية، وهي المعلومات المتناثرة والقليلة في الكتب الأدبية والتاريخية عن الملابس، وهي ليست كافية ولا تشبع حاجة الباحثين، فمعظم المؤرخين والجغرافيين المسلمين لم يفردوا أبوابا مستقلة أو مقاطع مطولة في مؤلفاتهم لوصف الملابس كموضوع بذاته، فأي إشارة إلى الملابس تأتي بمناسبة حدث آخر سواء كان سياسيًا أو حربيًا، لذلك كان اعتماد المؤلفة في دراستها على مصادر تراثية أخرى، وفي مقدمتها المخطوطات المزينة بالصور (المنمنمات)، الأدبية والتاريخية، والتي تزخر بالعديد من تفاصيل الحياة اليومية في وقتها، سواء في بلاط الملوك والأمراء، أو بين عامة الشعب، كمقامات الحريري وكتاب الأغاني، التي نرى فيها الثياب الفاخرة على ألوان شتى، وتظهر لنا تنوعا كبيرا في ملابس الرجال والنساء، هذا بالإضافة إلى التصوير على منتجات الفن الإسلامي كالعاج والخزف، ومن مصادر هذه الدراسة أيضا، الأحاديث النبوية وشروحها، التي توضح لنا طبيعة الملابس وأنواعها في العصر الجاهلي وصدر الإسلام، من خلال وصف ملابس الرسول صلى الله عليه وسلم وملابس الصحابة، كما أن الباحث في تاريخ الملابس العربية لا يستطيع أن يغفل بأي حال من الأحوال كتب ولوحات الرحالة للعالم العربي في العصور الوسطى، التي تعكس لنا مظاهر الحياة الاجتماعية والعديد من التفاصيل المتعلقة بأنواع وألوان الملابس في تلك المجتمعات، هناك أيضا مصدر بالغ الأهمية في هذه الدراسة وهو وثائق جنيزة القاهرة، وهي وثائق كثيرة ومتنوعة مدونة باللغة العربية بحروف عبرية، ساعدتنا في التعرف على حضارة الشرق الأوسط في العصور الوسطى، وتلقي بدورها الضوء على الأحوال الاقتصادية والاجتماعية لفترة تاريخية طويلة تمتد من العصر الفاطمي حتى العصر الحديث.
الملابس في صدر الإسلام
غلب طابع البساطة وعدم التعقيد على الملابس في صدر الإسلام، سواء في ألوانها أو خطوطها وزخارفها، ولكن لابد من أن نوضح مقدما أنه ليس في الإسلام أردية كهنوتية، فمن المعروف أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد ارتدى ملابس من ألوان عدة وأصول مختلفة، كما لو كان يبين أن الإسلام سوف يصل إلى أصقاع عرقية كثيرة؛ ولم يرد أن له لباسًا خاصًا، بل يلبس ما تيسر من غير أن يتكلف، وقد لبس عليه الصلاة والسلام الضيق من الثياب والواسع منها، وكذلك الصحابة والتابعون، إلا أنه كان يفضل اللون الأبيض، ويرفض الأقمشة الفاخرة، وحرم على الرجال ارتداء الحرير والتحلي بالذهب. ولبس الرسول العمامة وكانت تسمى السّحاب، وكان يلبسها ويلبس تحتها القلنسوة، وقد نسب إلى الرسول قوله «العمائم تيجان العرب» والعمامة هو ما يلف على الرأس، وفي أبسط صورها قطعة قماش تلف على الرأس لفة أو عدة لفات سواء كان تحتها طاقية أم لم يكن، وكانت العمامة ملبس الخاصة من العرب، ولها مكانة كبيرة عندهم، وتعتبر عموما عادة تغطية الرأس في البيئة السامية دائما من علامات التقوى، ولبس المسلمون البرانس وهي قلنسوة طويلة يغطى بها العمامة، ونهى الرسول عن لبسها في الحج، وقد ظهر البرنس في العصور التالية على أنه معطف كبير له قلنسوة، وهو ما يلبسه أهل المغرب الآن، وهو لباس للرجال والنساء على السواء. ونجد أيضا نوعين من الملابس يرد ذكرهما كثيرا في الأحاديث النبوية وهما الرداء والإزار أو المئزر وهو ثوب داخلي يحيط بالنصف الأسفل من البدن، وهو لباس للمرأة والرجل، وقد لبس النبي الإزار وكان له إزار من نسيج عمان طوله أربع أذرع وشبر في ذراعين وشبر، كما ورد في طبقات ابن سعد، ويشبه الإزار نوعًا آخر من الملابس كان منتشرا في تلك الفترة هو الشملة وكان يلف بها الجسم، كما لبس الرسول البردة بألوان مختلفة، وهي كساء مخطط يلتحف به، وكان لبردة الرسول شهرة كبيرة في الشعر العربي، وعرف العرب السراويل منذ زمن قديم، ولا نستطيع أن نجزم كيف كان شكل السروال في صدر الإسلام، ولكن نجده في الحقب التالية في أشكال متنوعة، أيضا القميص من الملابس الأساسية في ذلك الوقت، وهو لباس للرجل والمرأة، وكان عادة يلبس وفوقه الرداء أو الجبة.
الملابس في العصرين الأموي والعباسي
مع بداية العصر الأموي واتساع رقعة الدولة الإسلامية أخذت الحياة في المدينة الإسلامية تتخلى عن بساطتها الأولى، فانتشرت الملابس الفاخرة المصنوعة من الأقمشة الثمينة ذات الألوان المتباينة والموشاة بالذهب والفضة، وظهر لأول مرة في العصر الأموي ما يعرف باسم دار الطراز، وكان يقصد بكلمة الطراز أول الأمر الكتابة الزخرفية على الأقمشة التي تشير إلى أسماء الخلفاء، ثم صارت تطلق على مصانع النسيج الخاصة بالخليفة، وكان إنتاجها مقصورًا على ملابس الخليفة ومن يخلع عليهم من كبار رجال الدولة، ثم صار شريط الطراز شارة من شارات الخلافة، وأدى ذلك بدوره إلى ازدهار صناعة النسيج في أنحاء الدولة الإسلامية، والشائع في الكتابات التاريخية أن العرب أخذوا نظام الطراز عن الفرس، ولكن توضح لنا المؤلفة أن نظام الطراز كان معروفا قبل ذلك في الدولة البيزنطية. وأول من اتخذ الطراز من الأمويين هو هشام بن عبدالملك سنة 108هـ، وكتب إلى سائر الأمصار للعمل بذلك، وعمل في أيامه الخز الرقم وغيره، وهو نسيج ناعم يصنع من الحرير، وكان يغلب عليه اللونان الأحمر والأصفر، كما اشتهر أيضا الخليفة سليمان بن عبدالملك بالملابس الفاخرة المطرزة من الحرير، من أردية وسراويل وعمائم وقلانس.
ملابس أهل الذمة
ثم تتطرق المؤلفة هنا إلى ملابس أهل الذمة، وينسب إلى الخليفة عمر بن الخطاب أنه أمر أهل الذمة من النصارى واليهود بأن يلبسوا الغيار، وهي الملابس التي تغاير ملابس المسلمين، وعرفت فيما بعد بالشروط العمرية التي نشأت واستقرت بعده بخمسة قرون، وتنفي المؤلفة أن تنسب هذه الشروط إلى الخليفة عمر بن الخطاب، ففي هذه الفترة المبكرة كانت في كل الأحوال ملابس أهل الذمة تختلف عن ملابس المسلمين، والمعقول أن العرب كانوا في دور البساطة زمن الفتح، فلم يحدث تمييز في الزي بين المسلمين وأهل الذمة، ولكن هذه الأوامر استقرت زمن الخليفة عمر بن عبدالعزيز، فقد نهى أهل الذمة عن لبس القباء والطيلسان والسراويل وأمرهم أن يكون المنطق أو الزنار من الجلد، وكان المحتسب يراقب تنفيذ أهل الذمة لهذه الأوامر بدقة.
وفي العصر العباسي استحدثت أنماط جديدة من الملابس، وذلك نتيجة النفوذ الفارسي في المجتمع بوجه عام، وانتشرت السراويل والجوارب والقلانس الفارسية انتشارا واسعا، وكان عادة الخلفاء العباسيين أن يلبسوا قلنسوة سوداء، وكذلك كان لون علم الخلافة أسود، وكانت ملابس الخليفة عبارة عن القباء الأسود الذي يصل إلى الركبة، وكان يلبس فوق القفطان، ولبس القضاة القلنسوة وتميزوا بها، وكانت عادة تلبس مع الطيلسان وهو نوع من القماش يلبس على الكتف، واستحدث في عصر أبي جعفر المنصور سنة 153هـ لبس القلانس الطوال، ولما جاء المستعين أمر بتصغير القلانس كما أحدث أيضا لبس الأكمام الواسعة التي لم تكن مألوفة من قبل، وكانت هذه الأكمام تقوم مقام الجيوب، وتستعمل لحفظ الأشياء، والجنود والقادة يلبسون الأقبية الفارسية القصيرة، أما الجوارب فكان يلبسها الرجال والنساء على السواء، أما ثياب المرأة فكانت عبارة عن سروال فضفاض وقميص مشقوق من الرقبة وعليه رداء قصير، وإذا خرجت ترتدي الحبرة، وهي ملاءة طويلة تغطي جسمها، وتلف رأسها بمنديل يربط فوق الرقبة.
الملابس في العصر الفاطمي
بلغت الدولة الفاطمية ذروة مجدها الحضاري في القرنين الرابع والخامس الهجريين، وتركت بصمات واضحة في تاريخ مصر الحضاري والاجتماعي، واتسمت الحياة في القاهرة بالترف، ولا غرابة فيما يرويه المؤرخون عن خزائن الفاطميين وما كانت تحويه من الكنوز النفيسة والملابس الفاخرة، واحتلت صناعة المنسوجات مكانة مرموقة، كما ظهرت أنواع جديدة كالديباج وهو نوع من القماش اللامع الرقيق الملون، وأنشأ يعقوب بن كلس وزير الخليفة العزيز مصانع خاصة لإنتاجه عرفت باسم دار الديباج، كذلك عرف نوع باسم السقلاطون، وهو نوع من الحرير الموشح بالذهب، واختصت مدينة دمياط وتنيس بنوع من القماش المطرز لا ينتج إلا فيهما، وهو المقصب الأبيض والملون، بالإضافة إلى القماش الدبيقي والذي ينتج في مدينة دبيق، وهو نوع من القماش المزركش.
واتخذت الدولة الفاطمية اللون الأبيض شعارا للخلافة، وكانت ملابس الخليفة في المواكب الرسمية عبارة عن ثوب حريري، يليه ثوب آخر من الحرير الدبيقي، كما كان الخليفة الفاطمي يرتدي أحيانا ثوبا خاصا يعرف بالبدنة، منسوج أغلبه بالذهب بصناعة محكمة لا يحتاج بعدها إلى تفصيل وخياطة، ولتغطية الرأس عمامة وأحيانا الكلوتة وكانت تلبس بمفردها أو مع العمامة، وكان الوزراء يرتدون لباسًا مميزًا يعرف بالدراعة، وهي رداء قصير لا يصل إلى الركبتين مشقوق من الرقبة إلى أسفل الصدر، وكانت هذه الملابس علامة الوزارة، ولتغطية الرأس عمامة كبيرة من عدة طبقات، والطيلسان المقور، مع إرخاء ذؤابة العمامة على الظهر، وهو لباس القضاة أيضا وقد كان الوزير يجمع بين الوزارة والقضاء، وكان إرخاء طرف العمامة على الظهر يعد تكريما لصاحبها، ولا يسمح لأي شخص بأن يفعل ذلك خاصة في المواكب الرسمية غير الخليفة والوزير، وتنوعت ملابس النساء في هذا العصر، فكانت عبارة عن الأجزاء الأساسية وهي القميص والسروال وكان لباس الرجل والمرأة، ويختلف شكله فأحيانا يكون ضيقًا ويصل إلى القدم وأحيانا يكون واسعًا، وكان يربط بالتكة، وغطاء للرأس بأشكال متنوعة، وكان بالطبع يختلف حسب الطبقات الاجتماعية، ومن أغطية الرأس للمرأة ما يعرف بالعصابة، وهي عبارة عن شال أو قطعة من القماش على شكل مثلث تلف حول الرأس ويكون طرفاها للوراء، كما تنوعت أيضا حجب الخروج للمرأة، فمنه القناع وهو قطعة من القماش تضعها المرأة على رأسها وتلف بها وجهها ويثبت تحت الإزار، وكان يصنع من القماش الموصلي، أما النقاب فكان يغطي الوجه أيضا وبه فتحتان للعينين.
الملابس في العصر المملوكي
يسترعي انتباه معظم مؤرخي العصر المملوكي تلك العناية الفائقة بالملابس من السلاطين والأمراء، ولا يخفى على أحد مدى الرخاء والثراء الذي وصلت إليه دولة المماليك، وظهر أثره بالطبع في حياتهم العامة والخاصة، واستحدث تنوع كبير في أنماط الملابس جلبه المماليك من موطنهم الأصلي آسيا الوسطى، وكانت ملابس الرجال تختلف حسب مكانة الشخص ومركزه الاجتماعي، فنجد القفطان منتشرًا بين ملابس التجار والميسورين، ويلبس فوق القميص والصدار، ويمتاز القفطان بكونه فضفاضا يتناهى كمّاه في الطول فيغطيان اليدين، والكمان مفتوحان في نهايتهما، ويحزم القفطان بحزام قطني أو حريري من الكشمير.
وكان المماليك يرتدون الفراء، ولهم سوق عرفت بالفرائين يسكن فيها صناع الفراء وتجاره، وشاع ارتداؤه في أيام السلطان الظاهر برقوق، وكان الجنود يلبسون على رؤوسهم الكلوتات بدل العمامة، واتخذوها من الجوخ الأصفر، وقد أخذت طريقة لبس الكلوتات أشكالا مختلفة، كما كان لونها يتغير حسبما يراه كل سلطان، وفي عهد السلطان قلاوون أضيف لبس الشاش على الكلوتة، وتميز القضاة بلبس الطرحات، وكانت الطرحة والعمامة والشاشة تصنع كلها من قماش أسود، ونجد في صبح الأعشى للقلقشندي وصفًا دقيقًا لملابس أرباب الوظائف الدينية والقضاة وسائر العلماء في العصر المملوكي.
ومن أغطية الرأس التي شاعت في العصر المملوكي، ما يعرف بالشربوش وكان بمنزلة زي للرجال والنساء، وهو أشبه بالتاج مثل المثلث، كان يوضع على الرأس بدون العمامة، وأشار المقريزي إلى سوق الشرابشيين، وقد بطل استعمال الشربوش في دولة المماليك البرجية، وحل محله الطواقي ذات الألوان الخضراء والحمراء والزرقاء، التي أقبل الرجال والنساء على ارتدائها بغير عمامة، ومن ملابس المرأة المملوكية الأساسية نجد الإزار، وهو نوع من السراويل يصل إلى الركبتين، وفوقه قميص، وكانت المرأة تلتف بملاءة فضفاضة عرفت بأسماء متعددة، أشهرها البغلطاق أو المعطف، كما تعددت أنواع حجب تغطية الوجه، وكانت تثبت تحت إزار المرأة بعد أن تلف بها وجهها تماما. كذلك يلاحظ على ملابس المرأة في العصر المملوكي أنها لم تظل على حال واحد، وإنما تطورت بتطور ما يعرف اليوم بالموضة، فأولعت كل طبقة بمحاكاة نساء الطبقة التي تعلوها، وقد شهد المقريزي أكثر من مرة بأن ما فعلته عامة نساء عصره في الملبس إنما كان من التشبه بما فعلته نساء السلاطين والأمراء، ويصف كيف أن نساء السلاطين استحدثن ثيابا طويلة، تسحب أذيالها على الأرض، ولها أكمام واسعة، ثم تشبه نساء القاهرة بهن في ذلك، حتى لم تبق امرأة إلا وملابسها كذلك.
ثم نأتي للعصر الحديث فنجد الاختفاء التدريجي للملابس العربية التراثية تاركة مكانها للزي الأوربي، باستثناء بعض دول الخليج العربي التي لاتزال تتمسك بالملابس العربية التقليدية، ويرجع البعض هذا التحول إلى القانون النفسي الذي أشار إليه ابن خلدون، وهو التشبه بسلوكيات ومظاهر من يمتلك وسائل القوة المادية، وقد صارت الملابس الأوربية علما على الكفاءة المادية.
وفي خاتمة دراستها تقدم لنا المؤلفة قائمة ببليوجرافية تعرض فيها للأبحاث والدراسات التي تناولت تاريخ الملابس العربية حتى الآن مع تعريف موجز بكل منها، وكان يجب أن يكون موضع هذه القائمة في مقدمة الكتاب، ولكن هذا لا يقلل من قيمتها للدراسات المستقبلية في هذا المجال.