في بداية الخمسينيات، وفي مطلع الشباب، كنت أقرأ بافتتان مع نفر من أبناء جيلي ما يكتبه "خالد محمد خالد" عن "الديمقراطية أبدا" و "منيف الرزاز" عن "معالم الحياة العربية"، وكنا ندرك بعقولنا القيمة العظمى لفكرة الديمقراطية، ولكن قلوبنا الثائرة في تلك الفترة كانت مثقلة بأحزان تلك الفجوة السحيقة التي تفصل بين شريحة اجتماعية صغيرة يبطرها الغنى، وأغلبية عظمى يسحقها الفقر، وكانت قلوبنا وعقولنا أيضا مثقلة بأحزان فجوة أعمق بين ما كنا فيه - كعرب - من تخلف، وبين ما وصل إليه العالم المتقدم في الغرب أو في الشرق!!
وكنا نشعر أن خصوصية هذا الواقع تقتضي قفزة غير عادية لتخطي هوة الداخل وهوة الخارج في وقت معا!!
وحين جاءت ثورة 23 يوليو سنة 1952 في مصر، وتتابعت بعدها ثورات شبيهة في أقطار عربية أخرى، كانت كل تلك الثورات - وبالرغم من أي اختلافات بينها في الرؤى أو في الإنجاز أو في الحظوظ - تبدو وكأنها استجابة لخصوصية الفجوة، لمنطق القفزة غير العادية اختصارا للزمن، وتهدئة للقلوب المثقلة بأحزان الفجوات في كل الأقطار!
شيء آخر اتفقت فيه هذه الثورات هو أنها لم تبدأ من الديمقراطية، وأنها بالرغم من كل الاجتهادات والوعود لم تعرف كيف تصل إلى واحة الديمقراطية!
والآن وبعد ما يقرب من أربعين عاما من المحاولات لاختصار الزمن، والقفز من فوق الفجوات نجد أن الفجوات في الداخل أو في الخارج لا تزال قائمة، كما أن الاختلافات في الرؤى والاجتهادات لم تجد - بعد- أسلوبا صحيحا للتفاعل الخلاق أو حتى التعايش في سلام!
هل حان الوقت لندرك جميعا أن ثلاثين عاما جديدة من الديمقراطية الحقيقية ليست زمنا طويلا جدا، ثلاثين عاما جديدة تنشأ فيها أجيال جديدة من الأطفال في مناخ ديمقراطي، أطفال قد تعودوا أن ينظروا إلى أي موضوع من أكثر من زاوية، وأن يعيشوا في حياتهم اليومية معنى النسبية، أن يحسنوا الاستماع إلى آخر، وأن يكونوا على استعداد لتغيير رأيهم إذا بدا لهم وجه الحق، أطفال يتكافأ شعورهم بحقهم مع شعورهم بواجبهم، يدركون أن أفضل طريقة لاختصار الزمن هي أن نعمل كل دقيقة في وقت العمل، وأن بناء جسر فوق الهوة هو أفضل طريق لعبورها مهما أنفقنا فيه من الجهد والوقت والمال!