مختارات من:

ما الجدوى من قمة ثقافية عربية؟

ناصيف نصار

ثمة أسباب كثيرة تحمل على التشكيك من جدوى قمة عربية مخصصة للثقافة العربية. فلو كانت القمم العربية المخصصة للشئون السياسية ذات فعالية، لانعكست أعمالها على الشئون الثقافية، والشئون الاقتصادية، والشئون المدنية، والشئون التربوية، وما يتصل بها. المسألة سياسية، ولا فعالية سياسية حقيقية لسياسة القمم العربية. وبعد، فإن السياسة الثقافية - حتى الآن - ليست من أولويات الحكومات العربية، إلا بقدر ما هي فرع ثانوي يوظف لخدمة السياسة على المستوى الوطني، وليس على المستوى القومي العام.


الآراء الواردة في هذا الملف تحمل رأي كتّابها, ولا تتحمل «العربي» مسئوليتها

بناء عليه، إذا كان ثمة أسباب تحمل جامعة الدول العربية على التحضير لقمة عربية مخصصة للثقافة العربية - علمًا بأن هذه الجامعة قد أنشأت منذ عقود مؤسسة من مهماتها العناية بمشكلات الثقافة العربية، وهي المعروفة باسم المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم - فإني أعتقد أن الموضوع الذي يفرض نفسه على هذه القمة - إذا تمت - إنما هو وضع السياسة الثقافية للحكومات العربية على مشرحة النقد الجذري، سواء على المستوى الوطني أم على المستوى القومي، وذلك بهدف وضع الأسس والخطط لسياسة ثقافية عربية جديدة.

ولكن، لما كان الأمل في إمكان حصول نقد كهذا يتطلب قرارًا سياسيًا، واتخاذ قرار سياسي كهذا ليس من الأمور الممكنة في الظروف الراهنة للعمل العربي المشترك، فإن أقصى ما يمكن أن تتناوله قمة عربية مخصصة للثقافة العربية، لا يتجاوز منظومة المشكلات التي تواجهها اللغة العربية بوصفها رابطة حية بين الشعوب العربية وحاضنة لنشاطاتها الثقافية في حقول الفكر المختلفة، من الفكر الديني إلى فكر الترفيه والرياضة، مرورًا بالفكر الفلسفي والفكر العلمي والفكر الفني والفكر الإعلامي، وما يتصل بهذه الحقول جميعًا.

ومن أجل تسويغ هذه الفكرة، نقول إن اللغة العربية في خطر، ولابد من مواجهة هذا الخطر قبل فوات الأوان. ولكن ما هو الخطر الذي نتحدث عنه؟ السؤال جوهري، لأنه لا يمكن - بالطبع - مواجهة الخطر بصورة ملائمة وفعّالة إلا بعد تحديده ووصفه وتعيين أسبابه. ولنسارع إلى القول إن الخطر الذي يهدد اللغة العربية ليس خطر الانقراض والزوال في أمد منظور، علمًا بأن بعضهم يؤكد أن اللغة العربية أقدر من غيرها من اللغات على الثبات في مستقبل الأيام والقرون مادام القرآن حيًا بين الناس.

فما هو إذن الخطر الذي نتحدث عنه؟ إنه، بكل بساطة ودقة، خطر التراجع والانكماش بوصفها أداة سليمة وصالحة للتفكير الحديث والتعبير العلمي الدقيق والتفاعل الخصب بين الشعوب العربية، وفي الوقت نفسه بين العرب إجمالاً وسائر شعوب العالم. وهو خطر قائم بالفعل، وإن كان لا يدركه إلا بعض الباحثين المتعمّقين في أوضاع الثقافة العربية.

ويمكن الاستدلال عليه من خلال المقارنة بين أوضاع اللغة العربية في الممارسة الحية للثقافة وبين أوضاع أي لغة أخرى في لغات المجتمعات المتقدمة في الحضارة. إنه، بصورة أكثر تحديدًا، تراجع اللغة العربية الفصحى في ديارها أمام اللهجات المحكية في مناطق العالم العربي، والمسيطرة على حقل التواصل في المعاملات اليومية وفي بعض الفنون ووسائل الإعلام، وحتى في التعليم أحيانًا، وتراجع أمام اللغات الأجنبية - وفي مقدمتها بالطبع الإنجليزية والفرنسية - التي يتزايد حضورها واستخدامها وتأثيرها على حساب اللغة العربية، وليس كأداة ثقافية رافدة، وتراجع داخلي في القدرة على الاندفاع والنمو والتجديد والتوليد والتداول والتكيّف والتأثير. اللغة العربية في خطر التراجع الأكيد كأداة حيوية مبدعة للثقافة، أو إذا شئنا التخلي عن مفهوم الأداة، كأم للثقافة. واستفحال هذا التراجع سيؤدي تدريجيًا في نهاية الأمر إلى ضمورها وانكماشها، ثم إلى تهميشها، وأخيرًا إلى اضمحلالها واندثارها.

أقول قولي هذا وأنا أعلم أن الاعتراض عليه جاهز، وربما باستهجان، لدى كثيرين من المعنيين بتطور اللغة العربية ومصيرها في الحاضر والمستقبل. أليست حيوية هذه اللغة بادية للعيان في وسائل الإعلام والعمل الديني والنتاج الأدبي - الروائي والشعري - وفي المعاملات الرسمية في جميع الدول العربية، وفي التعليم على مختلف مستوياته.. إلخ؟ أين كانت اللغة العربية في مطلع القرن التاسع عشر؟ وأين هي اليوم في مطلع القرن الحادي والعشرين؟ أجل، هذه حجة وجيهة، ولست من الذين يتجاهلونها. إلا أنها، على وجاهتها، لا تعني أن اللغة العربية على خير ما يرام، وأنها ليست في خطر التراجع والارتباك. المسألة نسبية، والمعيار في نظري هو أولاً معيار الكم والنوع في الاستخدام والإنتاج، بالنسبة إلى جملة الشعوب العربية. وهو ثانيًا معيار المقارنة مع حيوية اللغة في المجتمعات المتقدمة، فهل يمكن القول إن اللغة العربية تنمو، وتنتشر، ويتم استخدامها للإنتاج والتواصل، وتؤثر في التفكير والسلوك، وتخدم أغراض النشاط الثقافي الإبداعي، بحسب ما يتطلبه الفعل الثقافي ونموذجه في المجتمعات المتقدمة؟ واستطرادًا.. إلى أي حدّ تطورت اللغة العربية في اتجاه أن تصبح لغة علمية مواكبة لتطور العلوم في هذا العصر إلى جانب كونها لغة شعرية مستوعبة لنزعات اللغة الشعرية القديمة، ونزعات اللغة الشعرية الجديدة؟ وأين الإسهام العربي المعاصر في المذاهب الألسنية، وبخاصة حول ثنائية اللغة الفصحى واللغة المحكية، وفي فلسفة اللغة والتواصل اللغوي؟ وما عدد الكتب المترجمة سنويًا من اللغة العربية إلى لغات أجنبية، ومن لغات أجنبية إلى اللغة العربية؟ وما مدى حضور الكتاب العربي الجيّد وتأثيره في المطالعة الرصينة عند مختلف الفئات الاجتماعية في الدول العربية؟ هذا هو السؤال، ولا أظن أني أجانب الصواب إذا قلت إن الجواب عنه لا يحمل إلى المعنيين بمكانة اللغة العربية وتطورها كثيرًا من أسباب الثقة والاطمئنان.

لغتنا من العفوية إلى الجدية

لا أدري ما التوجيهات والقرارات والتوصيات التي يمكن أن تتخذها قمة عربية مخصصة للثقافة العربية من زاوية مكانة اللغة العربية ودورها الفعلي في مستقبل هذه الثقافة. ما أريد لفت الانتباه إليه في هذا المقال القصير هو فقط حاجة الشعوب العربية إلى نقل علاقتها باللغة العربية من العفوية اللامبالية والثقة الموروثة إلى التفكير الجدي والمسئولية التاريخية. فقد كانت هذه الحاجة في القرن الماضي حاضرة ومؤثرة في أنشطة الحركات القومية العربية، وبخاصة في البلدان التي أصبحت فيها الإيديولوجية القومية العربية إيديولوجية رسمية. ولكنها، فيما يبدو لي، تتجدد اليوم، وبصورة أقوى، من دون وسيط فعال يأخذ على عاتقه أن يعبّر عنها بوضوح وجرأة ويعمل على بلورتها بعقلانية صارمة وعلى وضع الخطط الملائمة لها.

وفي هذا السياق، لابد من التنويه ببعض الجهود والمبادرات الرامية إلى تمكين اللغة العربية من تدارك ضعفها وإرباكها كأداة للتفكير الحديث والتواصل مع مستجدات العصر والثقافات المتقدمة، كالجهود المبذولة في سلسلة «عالم المعرفة» الصادرة في الكويت، أو في «المنظمة العربية للترجمة» في بيروت، أو كالعمل الناموسي التحديثي الذي يمثله «المنجد في اللغة العربية المعاصرة» (دار المشرق بيروت) الذي استغرق تأليفه أكثر من ثلاثين سنة. بيد أن هذه الجهود لا تكفي، لأن خطر التراجع الذي يهدد اللغة العربية في هذه المرحلة من تاريخها هو من النوع الخبيث، أو من النوع الذي يشير إلى القول المأثور: «إذا توقفت، أو تباطأت، فأنت تتأخر». ومن المفروغ منه أن التصدي لمثل هذا الخطر يتطلب إرادة عربية عامة وخططًا منسقة لعقود من السنين المقبلة.

مشكلات اللغة والتدريس بها والترجمة إليها

وعلى سبيل التمهيد لبلورة الحاجة المذكورة، أشير إلى ثلاث مشكلات يتزايد ضغطها مع الأيام: مشكلة تعليم اللغة العربية، ومشكلة التعليم باللغة العربية، ومشكلة ترجمة المؤلفات الرئيسية في حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية بمعناها الواسع.

الترابط بين التعليم والثقافة حقيقة ثابتة في جميع المجتمعات. التعليم الجيد شرط لقيام ثقافة مزدهرة، والكل يشهد بأن تعلم اللغة العربية ليس من الأمور المستحبة لدى التلميذ العربي، لأسباب كثيرة، وبخاصة إذا كان هذا التعلم يحصل إلى جانب تعلم لغة أجنبية، كالفرنسية أو الإنجليزية، فهل يمكن أن تكون اللغة العربية لغة عميقة في الحياة النفسية والذهنية، إذا كان تعلمها سببًا لمشاعر مختلفة من الضغط والنفور والخوف والابتعاد عن الحياة الجارية؟ المشكلة هنا تتمثل بالتأكيد في تعقيدات قواعد الصرف والنحو وطابعها العتيق. ولكنها في الحقيقة أبعد من ذلك. المشكلة هنا هي مشكلة التحرر من سلطة السلف لكي يكون عرب اليوم والغد أسيادًا على لغتهم، يمتلكونها ويتصرفون بها، فتحيا بهم ومعهم، بقدر ما يحيون بها (متى نتخلص مثلاً من مشكلة نائب الفاعل؟ ومن سيكون سيبويه الجديد؟).

وأما التعليم باللغة العربية، فإنه منظومة مشكلات، وليس مشكلة واحدة، وذلك سواء في مستوى التعليم العام أم في مستوى التعليم الجامعي. ولعل ضعف التعليم باللغة العربية أهم مسبب لضعف اللغة العربية كأداة مولدة لثقافة عربية متنامية حقًا على وقع تنامي العلوم والفنون والمناهج والفلسفات والتأويلات التنويرية للدين. إن مستقبل الثقافة العربية مرتبط - إلى حد بعيد - بمستقبل التعليم الجامعي في البلدان العربية ونوعية حضور اللغة العربية في برامجه ومراحله ووسائله.

التعريب الفاشل

وإنه لمن الواضح لمن رافق عملية تعريب التعليم الجامعي في النصف الثاني من القرن الماضي أن هذه العملية محكومة بالفشل، وبالتالي بمضاعفة تأخر الثقافة العربية، ما لم ترفدها حركة قوية ومتواصلة لترجمة المؤلفات الرئيسية والمراجع الأكاديمية والدراسات التطبيقية في شتى حقول العمل الجامعي.

وبحسب ما أعلم إذا وضعنا جانبًا مشكلة ترجمة النصوص الرئيسية في ميادين العلوم الرياضية والطبيعية، فلا يبدو أن حركة ترجمة المؤلفات الرئيسية والمراجع الكبرى في حقول الفلسفة والعلوم الإنسانية والحقوق والفنون قد اجتازت مستوى الجهود المبعثرة - التي لا تخلو بالطبع من القيمة والفائدة - إلى مستوى يشبه ما بلغه «بيت الحكمة» الذي أنشأه الخليفة المأمون في القرن التاسع.

إن مسألة ترجمة التراث الفكري للأمم المتقدمة في العالم اليوم مصيرية للثقافة العربية، ولا يصح أن تبقى متروكة لحال التبعثر والاعتبارات الذاتية والمحلية والتجارية التي تحكمها في معظم الأحيان. وهي مسألة غير ميكانيكية. وفي أي حال، لا يكفي أن يكون بعضنا، ممن تيسر له أن يمتلك لغة أجنبية وأن يتخصص ويتفوق في إحدى الجامعات الأجنبية، قادرًا على التعليم والتأليف باللغة العربية. المسألة الثقافية هي مسألة السواد الأعظم من المجتمع بقدر ما هي مسألة النخبة الرائدة والقائدة.

على هذا النحو، أعتقد أن ما هو ضروري وممكن ومفيد للثقافة العربية من جهة ما تسعى إليه جامعة الدول العربية عن طريق سياسة القمم العربية، إنما هو قمة ثقافية عربية في الحد الأدنى، أي قمة تعنى بمشكلات اللغة العربية في القرن الحادي والعشرين. قمة في الحد الأدنى، لأني أعتقد أنه من غير المجدي مطالبة القمة العربية بالتصدي للمشكلات الكبرى التي تمزّق الفكر العربي وتتحداه. الإرادة السياسية العربية عاجزة في الزمن الراهن عن القيام بأي مشروع ثقافي عربي كبير. فلا معنى لمطالبتها بأكثر مما تستطيعه، ألا وهو المحافظة على نفسها بما هي بالذات إرادة «عربية» في مواجهة مخططات «الشرق الأوسط الجديد» الموجهة ضد هويتها وعنوان كرامتها.

ناصيف نصار مجلة العربي مارس 2011

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016